مذكرات نباتي (حلم)

إن قصر قامتي وضآلة جثتي في هذه القرية وفي هذا البيت بالتحديد يغري الآخرين لأكون مطيّة لكن ليس لدرجة أن تكون رقبتي غرفة استراحة للإيادي الثخينة . فأخي يشاطرني المهنة , مدرس و كل يوم يتناوب على ارتداء ثيابي ، واليوم قبل أن يقطع تأملي أمام المرآة بحشر جثته مكاني ليتفرس طوله الفارع أخذ يرمقني بين اللحظة والأخرى بمؤخرة عينه وكأنه يغيظني في سره قائلاً : (يا قصير ..يا قصير ) .

 ثم يمضي الى دوامه حتى أحاول اللحاق به متسائلاً خلفه بلباقة:

- يا حلو .. يا أسمر

وبوجهه العابس والمغلق دوماً يلتفت الي بصعوبة:

- نعم ..؟

- يبدو انك تلبس سترتي وجورباي

- عسكريه دبر راسك..

و كرد اعتبار مني  ارفع صوتي مبدلاً مجرى حديثي تماماً معه  :

 - حلمت البارحة حلم

    يبدو أن كلماتي أبطئ من أن تبلغ خطواته المهطعة في عدوها الى عمله .. أدس يداي في جيوبي عائداً الى أمي ، هي الأخرى في المطبخ تدندن أغنيه بدويه مقيته ، تضع الفطور ، تتربع ببطء ، ثم مثل لوحة جدارية لمورغان ويسلنغ و جيفري لارسون تنبري مكملة حديثها البيزنطي الذي لا ينتهي:

- ها .. هل فكرت جيداً بحفيظة ..؟

أما أنا وكعادتي لُذتُ بالصمت لأنها تعي أن سكوتي يعني مدى كرهي لحفيظة وعدم رغبتي لتكون زوجة , حتى ذكر اسمها يثير معدتي للدوار . لكنها اكملت حديثها بفتنة ميلودية صافية ولغة هارمونية عذبة على غير العادة :

- يا ولد وجهها لحيم ..

- لا أحب وجهها فهو مستدير مثل رغيف خبز

- أقول لك شعرها اسيل وجسمها ممتلئ على نحو جذاب..

- لا أريدها فخصرها مبروم مثل كيس تبن.

- يا ولد..

- ... لا اريدها يعني لا أريدها..

و لأني اعلم ان أمي من جيل المدافعين عن التقاليد العائلية والطبقية في هذه القرية لم تدهشني بردها , لأني على يقين أن أجوبتي ستثير عصبيتها تلك ، فقد علا صوتها بغيض ، تورمت أوداجها وهي تضغط على مخارج الحروف في توبيخي:

- ولما لا تريدها يا مؤخرة الدجاجة ، هل ذلك من أجل تلك النحيفة ذات الوجه البلاستيكي الممكيج؟ أنت أهبل ، كل القرية تعرف أن والدها يريد تزويجها لابن عمها ، اذ يكفي أنه طويل ووسيم وليس قصير ومبروم  ...انسى..

أنا أعلم أن رأسي المدور فوق كتفان هزيلان هما سمة يمتاز بهما برج الثور وفق ما يقوله عالم الفلك والمنجم  (ﻧﻮﺳﺘﺮﺍﺩﺍﻡوس) ، لكن الذي يجهله نوستراداموس ولا تعلمه أمي أن اضعف الكلمات نعومه قد تؤذيني فأنا رجل حساس وحالم جداً لكن منذ ان حمل اليساريين السلاح في البلاد وثاروا سوياً لخلع الرئيس والقوى التقليدية في البلاد استحالت رومنسيتي الى عصبيه.

و رغم كل ذاك الاحباط في هذا البيت أعود معتصماً بالصمت ، هي الأخرى تسكت هنيهة ثم ترتسم على محياها المليح جديّة زائفة  :

- لا غداء لليوم .. أنا ذاهبة زيارة .. دبّر راسك

 يبدو اني فعلاً اعيش في ثكنه عسكريه ، هذه المعاناة والدونية التي أعيشها تجعلني في الايام الأخيرة أجنح لأكون فيلسوفاً . فكلامها الجارح لا يؤثر في نفسيتي هذا الصباح ، لأن هذا الاختراع المسمى مرآة لازال يقول لي ان هناك ركن جميل في أكثر ملامحي بشاعة.

لكن قبل أن أهجر المرآة و أنصرف الى عملي اقترب منها أكثر وأقول بصوت خافت كمحاولة يائسة :

- حلمت البارحة حلم ..

يمر فراغ شفيف بعد حديثي معها ، وكأنها لم تسمع كلماتي ،لكن لا اريد أن أظلمها فأنا أعلم أنها لازالت مغتاظة من حديثي أو ربما لغتي لا تلائمها ،لذا أعاود الحديث من زاويه أخرى:

- هل تعلمي يا حلوة أني البارحة خير بالصلاة على النبي حلمت حلم ..

 هي وربما من منطق كومنتي سلطوي  تحملق في عيناي , تُحمظ أمومتها وبفلسفة 'بعثية' محظة تستنفسر :

- ألم تتأخر على دوامك ...؟

لا أدري أي معرفه جعلتها تمارس سلطتها علي هذا الصباح بالذات .. لكني اتعايش مع الحالة فأنا فهمان ومؤدب .. البس حذائي واودع وجهي الرائع على المرآه متجهاً الى المدرسة لأن وضع البلاد يدفعك لأن تتوقع الموت بأي لحظه.

   مديري في المدرسة رجل براغماتي .. ثخين وتغص اردافه من اللحم لكنه محترم و يكره فكرة أن المدير الناجح هو من يطاع دون اصدار الأوامر لهذا تجده لا يبخل بأوامره عليّ. ربما لأني أقصر مدرس في شركته ، لكنه لا يعلم أن (عظمة الشعوب لا يقدرها عدد أفرادها وعظمة الفرد لا تصنعها قامته). وأكثر شيء لا يعيه حقاً هو أن أثقل الحديث هو الكلام المعاد ، فكل صباح يردد الحديث ذاته ، اذ يحدثني ببضع كلمات يجزئها بالحديث مناصفه بين مشاكل الطلاب وبشكل مقتضب وعجول عن الحال الذي آلت اليه البلاد بعد الثورة.

اما اليوم اقتربت بكرسيي منه أكثر وقاطعته مهتماً :

- أتعرف يا مديري .. البارحة حلمت حلم ..

-  خير بالصلاة على النبي ..

وما ان تشجعت وبدأت بالحديث عن حلمي حتى حملق في ساعه الجدار وردد مقاطعاً:

- ... الساعة تدق الثامنة تعال ساعدني ،نُدخل الطلاب ثم نتحدث.

 الطلاب في الباحة بكافة الاشكال الهندسية وكل الوجوه الطويلة والمربعة والمدورة والمستطيلة وبعض الوجوه المعوجّة والمخرشة والتي لا أجد شكلاً هندسياً يلائمها.. والكل ينظر الي ويبتسم ، أما أنا أنا فأسمع نصيحة مديري ولا أرد ابتسامتهم لأنهم لازالوا صغاراً على الديمقراطية ، وليس لأني لا أريد أن أورثهم "بلاهة ابتسامتي" كما تقول أمي .

في هذه الأثناء يزحف المدرسون كسالى و متثاقلين الى صفوفهم مثل 'أغنام بانورج' ,، بعضهم يدحل بطنه امامه مغتاظا وآخر ارتسمت على وجهه خطوط ناشفه من الدمع جراء ركوبه دراجته النارية في هذا الصباح الجولاني البارد ، وثالث يهرش بطنه ثم يدخن آخر سيجارة نكد وهو يردد عبارته المكررة كل صباح (أكره هذه المعيشة .. أكره هذه الحرب).

لكن وحدهن المدرسات مثل سائر كل النساء في سوريا لم تلوثهن هذه الحرب , يتمايلن الى الصفوف بكامل الأناقة والرشاقة والماكياج . وأنا لا أقدر إلا وأن اوزع ابتساماتي هنا وهناك , فكيف لا وأنا الرومنسي الوحيد في هذه القرية .

 بعيدا عن المدير يسحبني ذاك المدرس النكد :

- قال لي احدهم انك فهمان أستاذ جوهر  ..

- طبعاً أنا فهمان ..

-  عندي سؤال : برأيك سيطول هذا القرف وهذه الحرب اكثر من ذلك.?

اسمع منه ذلك ثم افرك بملل حنكي بكعب يدي:

-  هل لديك معرفه بتفسير الاحلام ...?

-  ألا تعرف ان من يجيب السؤال بسؤال احمق..؟

 ثم يبتسم ليسألني :

- هل حلمت بانك كاتب كبير في اوربا كالعادة?

 - لا...

- أممم .. اذاً حلمت بسته مدرسين عجاف مثلك ومديرهم سمينهم سابعهم ..؟

- جاوبني فقط ...

-  كل الناس تحلم .. عادي .. زوجتي تحلم .. ابي يحلم .. حتى بقرتي كل يوم تجعر اخر الليل وعندما اتفقدها اراها تغط في نوم عميق .. عادي كل قصار القامة الحالمون يتواسوا بالأحلام ...

فجأة تحجز بيني وبين كلماتي "رجاء" ، فهذه المعلمة تدس انفها بين كل اذنين ، لم أكد ابدأ الحديث حتى نطت بقربنا مثل دجاجه هولندية ، ثم وكالعادة تضحك بدون مسبب للضحك حتى تقفل ضحكتها مسرعة , فهذه المعلمة كسائر المعلمات في الهضبة في الجولان دائماً تلوح بإصبعها في وجوه الطلاب مرددة (البيوت اسرار يا طلاب) لكن ليتها تعلم ان على كل شباك وباب هناك معلم يسترق السمع ..

- القانون قانون استاذ جوهر ألا يكفي تغيبك المتكرر ، لو سمحت على صفك..

أما أنا ومثل "انسان ستشوان الطيب" احترم القانون واتجاهات الدمقرطة التي عصفت بقريتي بعد سيطرت الثوار عليها ، وبكبرياء زائف أجر جثتي متجهاً الى طلابي.

وسوم: العدد 656