لـــوحـة
اهتم بنفسك لاتهملها نفسك..فأنت تكاد تنهار دون أن تشعر دون أن تعلم ..مرضك بدأ يسيطر عليك وها هو القلق الذي أنت فيه يجعل من احتمال إصابتك بنوبة قلبية قريبا..بل قريبا جدا ابتسم للطبيب.. وهز على يديه مصافحا.. سأكون بخير.. بل يجب أن أكون بخير.. وليس لي إلا أن أكون بخير، فلاتخش علي فقط قل لي كيف آلت حالتها..؟ نظر الطبيب إلى عينيه وجد فيهما بريقا غريبا بل أدهشه وكأنه لم يستطع أن يستمر بالنظر إليهما فأحال ببصره نحو إحدى زوايا الغرفة ..عيادته..قال إنها..وصمت الطبيب.. لم يقاوم رغبته في النظر من جديد إلى عينيه..إلى ذلك البريق وكأنه قد شده البريق إليهما من جديد..فنظر إليهما وجدهما تكادان تنزفان..تقطران ألما..قال إنها …وعاد إلى الصمت مرة أخرى ..قاطعه إنها ماذا ..؟ إنها شارفت على النهاية..أعلم بأنه ليس من السهل أن أقولها..ولعلك تتهمني بالقسوة والادعاء لكنها الحقيقة ولم أكن أملك الخيار..نعم لم أكن إلا لأقولها..ولولا خوفي من أن تنهار أنت أيضا معها لكنت….!
أنا لم أعد قلقا عليها لأنها استسلمت لأقدارها والمرض امتلكها أما أنت فيمكنك أن تدرك نفسك..اغفر لي صراحتي هذه ..لا..لاتهتم لست أنت لا لست أنت وأشكرك لصراحتك وقد لاتعلم مدى امتناني لك ولاهتمامك بكلينا طوال هذه المدة فأنت كنت ولم تزل الوحيد الذي لاغنى لنا عنه ولو أعلم كيف أرد لك الجميل هذا… فقط اهتم بنفسك وسترد لي الجميل بذلك..مرة أخرى هز يده ومشى خطوات حتى وصل إلى( فرح) أخذ بيديها وهي في شبه غيبوبة كانت تعرف الوجوه ولا تميزها..كانت تسمع الاصوات وتتجاهلها كانت تبدو وكأنها لاتعرف ما يحدث لكنها كانت تدرك ..ابتسمت للطبيب وودعته قال الطبيب لهما أنا معكما لاأنتظر المواعيد تعلمان ذلك ..في أي وقت كان فقط اتصلا..خرج بها من العيادة وعاد أدراجه إلى حيث يسكن ..هو..أدخلها صالة البيت ذلك المكان الذي كان شاهدا على كل لحظاتهما وعندما طال بهما المكوث وحانت ساعة إعادتها لبيتها حيث أمها تنتظرها أخذ بيدها واحتضن رأسها وقبلها على جبينها وقال لها أمك تنتظر علينا أن نعود حنى لاتقلق ..قالت أريد أن أبقى هنا مدة أطول ..كأني أشعر بأني لن أراه ثانية.. قال بل سترينه إلى الأبد.. فلاتخافي..سارا بخطوات مثقلة نحو الباب..التفت إلى لوحة يعمل هو عليها قالت ألن تكمل لوحتك هذه..فأنا أتشوق لرؤيتها كاملة..؟ قال بلى سأكملها ..كانت السماء في الخارج غائمة على وشك أن تمطر والجو كان باردا ..فلف جسدها بمعطف وأخذ سيار ة أجرة وأوصلها إلى البيت حيث الأم تنتظر ..قبلتها الأم ونادت أختها رنين فجاءت هي الأخرى وقبلتها وأخذت بيدها لكنها أرادت أن تظل يدها بين يديه فسار بها بخطوات حذرة قصيرة إلى غرفتها وقال لها ارتاحي الآن سأعود إليك غدا ..قالت الأم لاأعرف كيف…قاطعها..لاتقلتيني ..قبلته الأم وسارت الأخت معه للباب وعيناها تنطقان شكرا..لكن لسانها يخذلها..خرج وظلت عيناها تراقبه إلى أن غاب عن بصرها كانت السماء حينها قد بدأت تقذف بالمطر خارج أسوارها وكانت الارض تستقبله بحنان دخلت رنين الغرفة ووجدت أمهما تهم بالمغادرة وهي تقول لعلها غفت الآن..ثم قالت هل ذهب ..أشارت رنين برأسها ..وكأن ما يحدث قد أخرسها قالت الأم كيف لنا يوما أن ننساه أن نجزيه على ما يفعله من أجلنا ابتسمت رنين وقالت لأمها إنه لاينتظر أن نجزيه.. اذهبي أنت لترتاحي وسأكون بجوارها ..كان المساء بل الظلام قد اكتنف كل شيء رنين الحية تراقب أختها التي توشك رحلتها على الانتهاء.. وهي عاجزة فقط تراقب..كانت فرح نائمة ..وجهها كان شاحبا أنفاسها كانت تنقطع أحيانا وكأنها أبت إلا أن تعذبها حتى في غفوتها مضى الوقت مملا بألوان من الوهم والعذاب كانت رنين أكثر خوفا ..صوت الرعد كان يزيدها فزعا، أفكارها كانت تدخلها في متاهة مظلمة لاخروج منها،وهي غارقة فيما هي عليه وعلى صوت الرعد رآها تستيقظ فجأة من نومها نظرت إلى الباب..التفت حولها وجدت أختها توأمها التي خرجا معا للحياة واستمرا معا لحد لحظتها تلك تراقبها..كان وجهها قد تغير فقد أصبح يتلألأ كان يشع نورا ..وبهاء..عيناها كانت تسطعان بريقا وعلى شفتيها ابتسامة رقيقة كرقة وجهها قالت أمازلت مستيقظة..؟ ردت كنت أتأمل وجهك ..قالت أعلم ..ثم أردفت تقول أتعلمين بماذا كنت أحلم قبل لحظات ..؟بمن..؟ بأبي..كأنه جاء لزيارتي وظننته قد فتح الباب فاستيقظت كان وجهه يشع نورا..كان ينظر إلى وجهي ويقول اهتمي بنفسك صغيرتي.. أتتذكرين أيام ماكنا صغارا كيف كان يحملنا معا كيف كان يمسك بيديه أصابعنا الصغيرة كيف كان يحضننا معا..أتتذكرين ذلك اليوم الذي أراد أن يأخذنا فيه لشراء حقائب المدرسة..كان إذا رفعك ليقبلك عاد ورفعني ليقبلني ..وهكذا لم يكن يفرق بيننا بل لم يسمح لأحد بأن يفرق بيننا..كان يحبنا معا ولا أتذكر أنه غضب منا معا كان …ليته كان هنا الآن مشتاقة إليه لماذا خذلته أقداره وأخذته في غير أوانه..؟ آه أتذكر يوم رحيله كنا مازلنا صغارا أليس سن العاشرة سنا صغيرا ليتحمل الانسان فيه رحيل أعز الناس لديه.,.؟قالت رنين لاتدعي ألم الماضي يستمر مع ألمك هذا فأنت الآن لاتحتاجين للمزيد ارتاحي وكفاك كلاما..قالت لا بل أريد أن أستعيد ذلك الألم لأنه وحده ما أحيا به مازلت أتذكر اليوم الذي جاء ذلك الرجل بزيه العسكري وقال لأمي إن.. قد قضي..أتذكر وجه أمي نعم أتذكره جيدا أتتذكرين حينها كيف ضمتنا إلى صدرها كأنها تريد أن تغرسنا بين أضلاعها حتى لايفرق بيننا أحد ..؟ كيف تعانقنا أنا وأنت أنت وأنا وكيف كنا نسهر الليالي نتساءل ألن يعود.. من إذا سيقبلنا ..سيضمنا إلى صدره من إذا سيرسم البسمة على شفتينا..؟ هل تتذكرين كل ذلك..؟. أي أيام كانت تلك..؟قالت رنين من أجلي كفاك..ردت من أجلك نعم فنحن مازلنا كما كنا معا وسنبقى أليس كذلك..؟ ردت رنين نعم ولاشيء سيفرق بيننا... تنهدت فرح ..بعد صمت.. قالت لاشيء كان يمكنني أن أفكر به دون مشاركتك لي كنا نتقاسم كل شيء معا عشنا الحياة كلها معها لكني في شيئين فقط لم أدعك تشاركينني.. أحدهما بقيت أصلي في جوف الليل من أجل أن لانتقاسمه معا.. نعم كم من ليلة تسللت من فراشي كلصة خشية أن تريني وكنت أظل أصلي وأدعو وأذرف الدمع حتى لايجعلني الله أشاركك فيه..بل يشاركك أنت معي فيه..وكأن الله قد استجاب لدعواتي ولصلواتي وأعطاه لي وحدي.. أما الشيء الاخر كنت أريده لي وحدي لكن كأني الآن أودعه أمانة بين يديك…قالت رنين أما الاول فأعرفه ..نعم اعلم ماذا تقصدين إنه مرضك ألمك هذا لكني أقسم لك بأنه ليس ببعيد عني حتى إن أردت أنت ذلك.. فأنا أعاني مثلك لألمك لأنك أنت لست إلا أنا ابتسمت وقالت أعلم.. أعلم ..ثم مالبثت أن خرجت من فراشها أرادت رنين أن تمسك بيدها لكنها قالت أنا بخير وقفت أمام نافذتها كان المطر يتصارع مع زجاجها قالت إنه الآن يتأمل المطر أمام نافذتنا إنه الآن يتألم من أجلي إنه يعاني مرضا لا يقل ألمه عن ماأعانيه لكنه يتجاهل كل شيء من أجلي .. إنه ليس إلا ملاكا نعم إنه ملاك وأكفر أنا بكل من لايسميه ملاكا ولا يؤمن به..آه لو ترين ذلك البريق الذي يلمع دائما في عينيه فقط لو تتأملينه فقط.. فقط ،غدا وما أطوله من وقت سأذهب إليه قبل أن يأتيني سأقول له عليه أن يكمل لوحته يجب أن أراها كاملة ثم التفت إلى رنين وقالت سأرتاح الآن لأن غدا لي موعد مع الملاك..دخلت فراشها ..أطفأت رنين الأنوار..وخرجت الأقدار عنوة من غرفتهما إليه إلى حيث يسكن هو ..إلى ذلك البيت الذي كان عامرا بأهله قبل أن تعصف الأقدار بهم لتتركه هو المريض المتألم لوحده يكابد عناء العيش والحياة..من ير البيت يدرك بأن صاحبه كان من الذين لم يزالوا متمسكين بالأصالة وكل ما هو قديم حيث يظهر له ذلك من أول نظرة على مدخل البيت الذي صنع من الخشب الفاخر المقوس الكبير ..لكن البيت من الداخل أصبح الآن لايحمل نفس ملامح الماضي الذي بني عليه لأن صاحبه الآن قد اتخذ من الصالة دون البيت كله بيتا له حيث الغرف كلها مظلمة ستائرها مسدلة وأبوابها مقفلة قد تراكم الغبار على عتباتها أما الصالة فلم يبق على أثاثها إلا على الضروري منه ..خمسة أرائك صغيرة مصنوعة هي الأخرى من الخشب الفاخر متينة قديمة الطراز مغطاة بجلد أسود ..وموقد خشبي يتوسطها من الجهة الأخرى وعلى جانبه الأيمن ببضع خطوات بعض اللوحات التي لم تكمل وألوان مبعثرة هنا وهناك ورائحة الألوان التي غطت على الصالة كلها ..كأنه قد نقل مرسمه إلى ذلك المكان من الصالة..وعلى الجانب الأيسر من الموقد نافذة كبيرة ستائرها لم تسدل منذ زمن طويل .. وعلى حافة النافذة أزهار قد عني بها وفي وسط الصالة طاولة طعام مهجورة.. أما جدران الصالة فهي مكدسة باللوحات والصور.. صور أهله حيث هي من تتوسطها والأخرى لوحات يكتنفها الغموض لايفهم منها سوى أنها ضربات فرشاة عشوائية لامعنى لها لكنه دائما يقف أمامها ليتأملها تأمل الخاشع..فهذه لوحة كبيرة قديمة أظنه يحتفظ بها منذ أكثر من عشرة أعوام وهي تبدو للناظر مجرد خطوط سوداء لاتلتقي يتوسطها ضربات فرشاة حمراء ..وتلك لوحة أخرى لايمكنني أن أصفها لأنني أجهل طريقة و صفها وتلك وهذه ..و..وفي الركن البعيد للصالة هناك لوحات أخرى.. وحتى لاأنسى للصالة مكتبة كبيرة هي الأخرى من الطراز القديم فيها كتب كثيرة ولكن أغلبها قد تراكم الغبار عليه ..لاأقول كلها لأن بعضها يعرف المرء بأنها تتداول باستمرار لكن ما يميز الصالة هو الموقد الخشبي الذي وضع بعناية فائقة، ولوحة نسيت أن أذكرها لطفل ممزق الثياب وأقف أمام باب صف مدرسي يأخذ بالألباب ..ويقربها صورة مرسومة باليد لصديقته فرح المريضة ..وحتى لانبتعد عن القدر الذي زاره.. فإنه كان حينها واقفا أمام لوحته ممسكا بألوانه يحاول إضافة شيء إلى ما قد بدأ به وكعادته ما إن يضيف بضع ضربات بفرشاته حتى يعود ليقف أمام النافذة يتأمل ويفكر.. وفي ليلته تلك كان للنافذة طعم خاص لأنه كان يتأمل مع عبقها المطر الهاطل على روحه من كل صوب مضت تلك الليلة وهو يتأمل ..لم تغمض له جفن سوى لحظات قليلة وعندما تعبت قدماه ألقى بجسده على أريكة قريبة من النافذة وفي الصباح الباكر وهو لم يزل غافيا فتح الباب ودخلت فرح ..لم يكن يشعر بشيء فجأة وجدها ماثلة أمام عينيه كحقيقة أبدية ابتسم ..لكنها قبلته ولم تدع ابتسامته تطول ….أمسكت بيده وقالت شوقي إليك قادني.. أتيت إليك لتكمل اللوحة من أجلي ..قال أتظنين بأني سأقضي وقتي مع الألوان وأنت معي ..سأغير ملابسي ولنقضي يومنا هذا معا ..لحظات قليلة وكان ماثلا أمامها ..كانت تتأمل اللوحة وعيناها كانتا تضمان وتخفيان الدمع الذي كان يكافح من أجل الخروج لكنها كانت تكبته قالت أعلم لماذا لاتريد إكمالها ..؟ لأنك تخشى نهايتي معهما قال كفاك لنخرج وخرجا.. مع أن الجو كان ممطرا تارة وغائما في أغلب الأحيان إلا أنهما قضيا اليوم بأكمله معا..وقبل أن يسدل النهار ستائره المغطاة بالغيوم قال لها هل عاندتي المك مرضك من أجل أن تفرحيني بزيارتك هذه..؟قالت لا بل شعرت بأني تحسنت كثيرا نعم إني أشعر بتحسن ..حيث لا أثر للألم ولا أشعر أنا بشيء غير وجودك معي ..قال هل نعود ..؟قالت نعم لكن إلى اللوحة ..قال لا بأس إلى اللوحة عادا إلى البيت ..وبدا هو يضع الأخشاب في الموقد وأشعلها ..كان الضوء الذي يخرج من الموقد بسبب الأخشاب المحترقة كلون الشفق أحمر..مائلا إلى البرتقالي أحيانا ..ولأن واجهة الموقد كانت مفتوحة فإنه كان ينتشر على أنحاء الصالة ويضيف لسكونها سكونا رائعا..كانت هي أمام النافذة تراقبه وهو يتأمل لوحته مضت لحظات دون أن يضيف إليها شيئا قالت هل أساعدك..؟ التفت إليها مبتسما لم..لا ..اقتربت منه تأملت اللوحة قالت أضف لون الشفق إلى هذه الخطوط..قال لماذا تصرين على لون الشفق.. أليس الغروب يعني ذهاب النور..؟ قالت لكنه مؤذن بنهار جديد ..باستمرار الحياة.. بعدم توقفها لأنها خسرت نهارا نورا ،نعم إنها لكذلك وأريدك أنت أن تكون كذلك ..؟قال لكن ذلك النهار يأخذ الحياة معه إذا ما غشاه الظلام والظلام الذي يسلب الحياة لاطعم له لاراحة فيه لاأمان فيه قالت هناك دائما حياة تنتظر خلف حياة تنتهي ..حياة تتجدد بنهاية حياة.. حياة تموت لتعيش أخرى ..قال ما عساها الجديدة تقدم بعد زوال الأولى..؟ قالت تقدم روحها التي انقضت والتي تسكن بعدها في كل شيء حوله فيعمل هو على إسعادها حتى وهي زائلة.. قال أي تناقض نعيشه وأي ألم ينتظرنا..؟ أنت تأملين الحياة بعد الحياة وأنا أراها لامعنى لها بعد زوال الحياة.. قالت هناك دائما من تنتظر من تشارك من تتأمل وسيأتي يوم وتعرف فيه بأنني حتى لو قضيت ستحوم حولك من هي روحي فيها أعدك بذلك قال لاتفكري حتى بالأمر قالت بل سأفكر ولاتخيب ظني فيك ياملاكي ثم قالت لاتتهرب وعد إلى اللوحة ..؟ اللوحة التي يعمل عليها منذ أسابيع هي ليست بكبيرة لكنها ليست من الحجم الصغير أيضا إنها لوحة ليس من السهل أن يفهمها الإنسان العادي لأنها تظهر له مجرد ألوان متدرجة غير مكملة وهي لم تعتمد على أسس علمية دقيقة لذا فهي للمختص أيضا ستبدو غامضة فالأبعاد التي اعتمدها غير واضحة لأن من المعهود به مثلا أن يكون القريب فاتحا والبعيد غامقا قاتما لكنه خالف القاعدة هذه ..اللوحة لها عمق وهذا العمق هو المحور الذي يدور عليه أساس اللوحة.. أما أطرافها فهي لاتوحي إلا بسماء تصارع ذاتها ففي الطرف الأيمن وجه السماء غائم قاتم يتدرج عتمتها حتى تندمج بالطرف الاخر الذي يبدو وكأنه سماء صافية..والصفاء أيضا يتدرج ..أما العمق الذي تحدثنا عنه فإنه…لكن قبل أن أتحدث عن تفاصيل العمق نسيت أن أذكر بعض ما يخص الأم الارملة وتوأمها ..الأم هي صورة من صور الوفاء النادر المزمن الذي لايشابه عكر أبدا..اسمها فاطمة لها عينان فيهما اجتمعت كل أصناف الحنان وقلب أسكن في أعماقه كل معاني المحبة والإيثار لها نفس قوية وإرادة صلبة فبالرغم من أنها فقدت زوجها منذ سنوات طويلة إلا أنها لم تستسلم للواقع ولم ترضخ للألم استمرت تربي طفلتيها بعزيمة وإصرار ..لكنها الآن وهي تشاهد ابنتها تموت أمام عينيها وهي عاجزة عن تقديم أي شيء لها ..تبدو أما ثكلى نعم إنها أمام محنة ابنتها هذه تبدو لكذلك فنواح ذاتها هزم جسدها فأصبح ملجأ للأمراض ..أما ابنتيها التوأمين فرح ورنين ..فقد دخلتا عامهما الخامس والعشرين الآن أي إنه مضى خمسة عشر عاما منذ أن رحل عنهما والدهما ..فرح فتاة جميلة لها بشرة بيضاء رقيقة وعينان عسليتان فيهما بريق يلمع كما النجم في ليل لا قمر فيه ..نحيلة شعرها أقرب إلى الكستنائي ..صامته حزينة لاتتحدث مع أحد إلا وعيناها تدمعان ..أما أختها رنين فهي نسخة حية منها لكن ما يميزها عن فرح أنها أكثر حضورا بصوتها منها لأن صوت فرح يمازجه دائما حزن وأنين وهدوء لامبرر له أحيانا.. أما هي فصوتها عذب له حضور جذاب يجعل المقابل دائما ينصت ولايقاطعها حتى تنهي حديثها ..كان هو (…) دائما يرتاح لرؤية الاثنتين معا بل لطالما خرج الثلاثة معا وقضوا أوقاتا ممتعة وكانت فرح تقول إنها لولا وجودهم الثلاثة لكانت قضت ولحقت بوالدها..كانت الأم ترى فيهم الثلاثة سنيّ عمرها التي مضت وكأنها ريح عاتية وبالرغم من أن أقرباءها كانوا يتكلمون عنها بسوء أحيانا لانها تسمح لبنتيها أن تخالطا شابا لايمتّ لهم بصلة ..إلا أنها كانت لاتبالي بهم لأنهم يوما لم يقفوا معها كما وقف الغريب..؟
كان الاثنان لم يزالا في الصالة وأمام اللوحة وكان الحوار الصامت حول نهاية اللوحة مازال يخيم على أجواء المكان ..وإذا ما سمح الوقت سأعود إلى التفاصيل المتعلقة بعمق اللوحة..كان الوقت يمر بسرعة في ذلك اليوم والمطر كان لم يزل يهطل قاذفاً بكل آلامه وأنينه على زجاج النافذة التي لاحت وكأنها تلح عليهما بالمثول أمامها ولا أعلم كيف استجابا لها وتحرك من مكانه وأمسك بيدها واحتضنها وسارا معا إلى النافذة وهناك أمام تلاطم قطرات المطر بالزجاج و قفا يتأملان ثم ما لبثت أن قالت إنه صراع الأضداد صراع الأبدية واللاأبدية صراع الذات البشرية مع الواقع الحرية .. والقيد ..أتعلم ….لكنها صمتت لبرهة حيث جلست وأجلسته فوضعت رأسها على صدره وأمسكت بيده حتى طوقت بهما على صدرها فاتكأت على صدره ثم عادت تقول أتعلم بأن الذات البشرية لطالما حيرتني بحيث جعلتني أحيانا أخرج عن جادة الصواب..؟ لأنها في كل لحظاتها كانت تلح عليَّ بأن لا وجود للذات إلا بالحرية ... وكانت الحرية في نظري في أحيان كثيرة هي خلق الذات.. فكنت أؤمن.. بأن تكون حرا .. فهذا معناه أن تستمر في الحياة باذلاً أقصى جهد وأن تعمل دون توقف.. وأن ترفض كل أنواع، الخضوع للماضي.. أو حتى لِمَا يسمى بالصيرورة أيضا.. ولكن لكي تعمل عليك أن تدرك معنى و ماهية العمل الذي تقوم به.. لأنه يجب أن يكون كله منصباً على شيء واحد فقط وهو خلق الذات.. أي أن تخلق ذاتك..؟
صمتت بعدها .. ونظرت إليه.. وقالت.. لعلك تتساءل .. خلق الذات هل يتوافق مع القدرة الإلهية؟ أعلم بأن الأمر قد يكون يصعب إدراكه في بدايته لكن إذا ما خلقنا ذواتنا فإننا لا نخالف القدرة الإلهية بقدر ما نعطيها صفة الأزلية والعظمة.. لأنها بنظري تتجلى في خلقه لموجود مستقل.. موجود حر بكل معنى الكلمة.. أعني شخصية حقيقة تستطيع شيئا بدون الله نفسه.. ولكني عندما فقدت والدي.. أدركت بأن كل شيء يتوقف على الزمن.. لا .. لأن الزمن موجود مميز بحيث يصبح تعاقبه للإنسان ولله سيان.. حتى ينسب إلى الله بعض ملامح التغير.. لا.. إنما فقط لأني لم أستطع وأنا طفلة أن أقف حائلا بين نهايته وبقائي.. وكأني حينها أصرخ بوجه الجميع..هل أراد الله لي هذا الحزن.. هذا الألم..؟ أم أنه الزمن قد أخذ مساره الطبيعي.. ففقدت.. وعليّ أن أستمر..؟ كانت عيناها تقطران دمعا.. حتى سقطت على يديه.. شعر بدمعها.. قال.. كفاك حديثا عنه .. قالت لا .. بل أريد أن أستمر.. قال لها.. وأنت بين أحضاني..تنهدت .. ثم رفعت يديها حتى أحاطت بوجهه وهي تقول لولا أحضانك هل كنت سأستمر... ثم أردفت قائلة رنين أيضا متشوقة بأن ترى اللوحة.. كاملة.. وأنا أكثر شوقاً منها .. قال لعلي أنهيها.. لكن دعك من ذلك كيف تشعرين الآن..؟ قالت أشعر بأن الابدية وهم.. ليس للإنسان أن يتخلص منه إلا بوجود صدر مثل هذا.. يرتمي عليه .. نعم .. وهم .. سيظل يرافق الكل .. لأنهم إنما يرون في وجوه غيرهم مبتغاهــم فيحكمـون ولايسمحون لذواتهم بأن تدخل أعماق الآخرين ليخلصوا إلى ما أنا خلصت إليه.. قال هل تشعرك بالحياة أحضاني..؟ قالت أنا لا أعيش بعيدا عنها...!.
كانت الساعة قد اقتربت من التاسعة وخمس وعشرين دقيقة.. قال .. هل أتصل بأمك.. ورنين لأنهما قد يقلقا عليك..؟ قالت إنهما عندما أكون معك لا يعرفان القلق بل راحتهما الوحيدة هي أن تكون معي .. قال .. سأعمل على أن يرتاحا أبدا .. قالت هل تعدني بذلك .. قال أعدك .. قــالت لاتنسى وعدك هذا لأن روحي ستظل تحوم حولكم وسأعرف إن كنت تفي بوعدك أم .. لا ..؟! استغرب من كلامها وقال ماذا تقصدين..؟ قالت حاجة في نفسي ستعرفها..؟
قالت أريد أن أمكث معك هنا... لكنك سترفض .. وتبرر رفضك بأن دوائي ليس هنا وعلينا أن نكون منظمين في أخذها.. ثم ابتسمت وقالت كم أحب أن اسمع ذلك منك أنت بالذات .. قال إذا لنعد.. وهما يخرجان نظرت إلى اللوحة وقالت ترى لماذا رنين مشتاقة لرؤيتك لكنها تخاف رؤيتك..؟
كان المطر لم يزل يهطل بغزارة .. قال لها سأحضر سيارة ومن ثم تخرجين.. قالت لا بأس دقائق وهما كانا .. يتوجهان للبيت الآخر.. وصلا .. دخلا.. وكالعادة.. دعوات الأم .. ونظرات الأخت.. وصمت السماء.. ولحظات أخرى.. يعود أدراجه... ولكن هذه المرة وأمام الباب.. رنين أوقفته .. وقالت اعتن بنفسك.. وتمضي اللحظات في البيتين كأنها سنين متشبثة بنفسها.. الصمت والموت رفيقان لها.. هنا أم تئن.. وفتاة تحتضر وأخت تراقب موتين في آن واحد ومعهما تضيف موتين آخرين.. وهناك.. الموت الأخر.. الشاب الذي أصبح نحيفا شاحب الوجه.. وعمره و سنيّه تنقضي دون أن يبالي بها..!
جلست الأم مع طفلتيها لبعض الوقت كانت شاردة كأنها ترى شيئا تجهله.. بدت وكأنها تحاول أن تقاومه.. ثم نظرت إلى طفلتيها وقد بدا لها فيما بعد بأن ذلك الشيء كان روحه.. شعرت بأنهما تريدان الحديث مع بعضهما.. فخرجت بعد أن قبلتهما لغرفتها.. ولكنها ما لبثت أن عادت .. وقالت فرح هل أتصل بـ (.....) ليأتي ..؟ استغربت فرح من سؤالها.. قالت لماذا يا أغلى أم تتصلين به.. ما الذي جعلك تفكرين به.. أصلا..؟ قالت لا أعلم شعرت بروحه تتجول في سماء البيت.. شعرت بأنه ربما يكون مريضا .. ربما.. ربما .. ثم التفت إلى رنين وقالت لها هل عندما غادر كان طبيعيا.. لم يكون مريضا..؟ ردت رنين شعرت بأنه مرهق .. وقلت له بأن يعتني بنفسه.. فزعت فرح.. انتفضت.. مرهق.. تعب.. مريض .. هذه الكلمات أعادت إلى وعيها.. تلك الكلمات التي ربما ظلت متعلقة بلا شعورها عندما كانا عند الطبيب.. قالت كأني سمعت هذه الكلمات من قبل نعم.. كانت واقفة و ارتمت على سريرها.. وبدأت تبكي.. نعم إنه مريض.. مرضه لا يقل خطورة عن مرضي.. لعلكم لحد الآن تتساءلون عن هذا المرض .. مرض فرح.. أنه و بتشخيص ذلك الطبيب الذي كان صديق طفولة لـ (.....) مرض مزمن لا شفاء منه عندما يسيطر على المرء .. ونهايته محتومة والأيام والحياة ليست إلا مسألة وقت.. و لا أعلم إن كانت هذه التسمية صحيحة لذلك المرض أم لا .. لكنه يقول بأنه (الذبحة الصدرية).. وهذا المرض حسب قوله يسببه انسداد الشرايين و لا أتذكر التفاصيل الأخرى التي ترافقه.. المهم المرض قد يكون عابرا.. لا قاتلا.. لكنه يصبح شرسا عندما يرافقه حزن وقلق وألم دائم.. وهي بالرغم من حيويتها .. لم تستطع أن تصمد أمام أهوال الحياة التي رافقتها .. فكانت أن استسلمت وخضعت لعلاج مستمر.. مع أكثر من عملية جراحية.. وأظن بأن تلك العمليات تسمى في عرفهم القسطرة.. لكن كأنه قدرها أن تظل أسيرة المرض.. وعندما ذكر الطبيب الذي كان واثقا من تشخيصه.. أن فرح قد أصيبت بمرض آخر في طفولتها ولا أتذكر.. إن كان قال عنه إنه الروماتيزم أم شيء آخر.. وقال إن هذا المرض جعلها لا تقاوم المرض الآخر.. والاثنان معا شكلا نقطة تحول في حياتها.. و برحيل والدها كانت القشة التي قصمت ظهر البعير مثلما يقولون. كان بإمكانها أن لا تصل إلى هذه المرحلة من الانهيار لكنها بطبيعتها السلسلة وبعواطفها الجياشة ساعدت بتحديد ملامح مرضها .. وكذلك بإقتراب نهايتها..!
كانت فرح لم تزل تبكي .. وتقول نعم إنه مريض.. وأنا السبب .. نظرت إلى وجه أختها.. وقالت أتراه الآن يتألم وحيدا دون أن يجد من يمسح عنه العرق الذي يتصبب من جبينه كلما داهمه الألم..؟ أتراه يعاني آلامه وحيدا وهو الذي لا يدعني لحظة أعاني..؟ ما أقساني من فتاة شقية.. اتصلي به.. بل أنا .. أنا.. من ستتصل به وأسرعت الى الهاتف وسط دهشة الأم والأخت.. وهي تمتم صغيري الوحيد أنا قادمة إليك .. اصمد ولا تستسلم.. وبلهفة غريبة وكأنها ليست التي كانت تعاني .. تمسك بالهاتف وتتصل به.. لكنها لا تلقى جوابا.. فالهاتف يرن دون أن يحمله أحد و قد زادها الامر فزعا وألماً.. صاحت إنه لا يرد.. لعله لا يقدر على الحراك لعله .. لعله .. لا.. لا .. إنها نهايتي أعلم إنها نهايتي.. سأذهب إليه نعم سأذهب اليه.. نظرت الأم إليها .. وأدركت حجم الألم الذي تعانيه وقالت سنذهب إليه معا.. وهم يتهيؤون للذهاب رن الهاتف فأسرعت رنين ترفع السماعة وصاحت فرح .. إنه (....) أشرق وجه فرح وركضت نحو الهاتف..لكن قدماها لم تحملاها.. فتهاوت على أريكة قريبة منها أسرعت الأم لتسندها.. وهي لا تعلم ماذا يحدث أمامها.. ثم عادت فرح لتحاول الوقوف لكن قواها خذلتها وأشارت لأختها بأن تأتي بالهاتف إليها.. وما أن أمسكت بالهاتف حتى بدأت تجهش بالبكاء.. صغيري وحيدي مريض أنت ولا أحد معك.. ليرعاك.. أية أقدار ظالمة هذه .. صغيري اصمد فأنا آتية اليك .. وظلت تجهش بالبكاء.. حتى إنها لم تعطه المجال ليتكلم.. وعندما سمعته يقول لها إنه بخير.. قالت لماذا لم ترد على هاتفي..؟ قال الآن وصلت فقد مررت بحانة قريبة و اشتريت بعض الأغراض لنفسي لهذا تأخرت.. قالت أتراك لا تتألم.. فأنا أعلم.. نعم علمت بأنك مريض مثلي.. تذكرت.. لكنه قاطعها.. أتريدين أن آتيك الآن.. تفتحت تقاسيم وجهها.. وقالت هل ستفعل إن قلت نعم..؟ قال لحظات وأكون بين يديك. أقفلت السماعة.. وجلست مبتسمة مرتاحة .. قالت أمها ماذا بك يا صغيرتي هل أنت بخير..؟ قالت سيأتي الآن.. سأراه.. سأضمه .. سأرى عينيه.. وصمتت .. قالت رنين سندعك حالما يأتي.. أما الآن فإلى غرفتك لأنك قد تصابين بالبرد هنا.. قالت وهل أتحمل دخوله الينا دون أن أراه وهو يفتح الباب..؟ لحظات قليلة وكان بين يديها.. أخذ بيدها.. وحملها لغرفتها وسهر الليل بطوله أمام فراشها يراقبها تارة.. ويراقب نافذتها المطلة على الحديقة تارة أخرى... وقبل أن تغفو هي من شدة تعبها و إرهاقها كانت قد أوصت به أن يوقظها.. في جوف الليل.. لتتأمل وجهه في تلك الساعات.. وعندما حان وقت التأمل.. مد يده على رأسها.. وما أن لامست شعرها حتى فتحت عينيها.. قالت شعرت بها.. نعم شعرت بها قبل أن تلامس شعري.. وبدأت تتأمله تأمل المودع.. قالت أتعلم بأني الآن .. بل ليلة أمس توصلت بأنه لابد أن تظل حيث أنت الآن قريبا لا بعيدا .. لو أنك فقط شاهدت أمي وهي تقول.. ربما .. ربما.. يكون مريضا.. لأدركت بأن روحك لم تعد تغادر هذا البيت.. وقالت أدركت بأن الله لن يسمح بتكرار ما حصل لي مرة.. لن يفقدني عزيزا آخر.. نعم إنه عالم دائما.. لكنه ليس مريدا دائما.. نعم أدركت ذلك.. ثم قالت اليوم نجلس معا أمام اللوحة.. ومعا نكملها.. وبعدها ندعو رنين لتشاهدها.. ابتسم.. وقال اليوم.. نعم اليوم.. مضت اللحظات مسرعة.. لأنها سائرة إلى النهاية.. نهاية حياة.. وفي الصباح الباكر.. دخلت الأم.. لتجد فرح مبتسمة ووجهها مشرق.. وتجده مغروسا كتمثال على كرسي قرب سريرها.. ورنين هي الأخرى مغروسة على كرسي آخر بجانب رأسها.. دعتهم الأم للإفطار.. خرج الجميع من الغرفة.. قالت الأم له ( ... ) بني إنك لست على ما يرام.. لماذا لا ترتاح لبعض الوقت..؟ إنك.. قاطعها .. لا تخشي علي .. سأكون بخير.. كان التعب قد استبد بجسده .. وقد أخفى على الأم وفرح ورنين إنه كان أثناء تأخره ليلة أمس قبل العودة إلى بيته وتحججه بشراء الأغراض.. قد زار صديقه الطبيب.. وإنه قد أوصاه بالراحة.. لكنه مع ذلك بدا طبيعياً.. وفطر الجميع ما عداه لأنه لا يفطر.. إنما اكتفى بكوب حليب بارد.. وخرج بعدها الاثـنان الى حيث اللوحة تنتظرهما ليضعا معا آخر اللمسات على حياتها.. أعني على اللوحة.. حيث العمق.. نعم أظنني لم أذكر التفاصيل المتعلقة به..؟ إنه الجزء الأهم في اللوحة.. وهو التناقض الحاصل بين العابر والمختص.. حيث تجد في الأفق البعيد طريقا يخرق عمق اللوحة وقد بدأه بلون رمادي فاتح ثم تتدرج فيه إلى أن وصل إلى أسوار الأسود.. وبالأسود أيضا تدرج حتى وصل العتمة النهائية.. ووسط ذلك الغموض كانت هي تريد أن تزرع الأحمر.. الأقرب إلى لون الشفق.. لكنه كان يتجاهل الأمر.. لكنها أصرت عليه هذه المرة.. فاستجاب لرغبتها .. فأدخل لون الشفق في عمق اللوحة .. وعندما انتهى منها قالت الآن.. عليك أن تجدد لي عهدك.. بالبقاء قريبا من روحي.. ومن من سأخلفهما ذات يوم ورائي.. قال.. لماذا تشكين في بقائي بقربهما..؟ قالت لأنني أعرفك.. لا تستقر.. ولو لا ما أنا فيه.. لما كنت .....ولمع بريق عينيها وكادت أن تنهار..! قال أعدك .. أعدك... أعدك..! قالت .. لي رغبة أخيرة.. ؟ قال سأحققها.. حتى لو دفعت حياتي ثمنا لها..؟ قالت سأودعها عند رنين.. وهي من ستجلبها لك ذات يوم .. فأرجوك لا تخذل روحي.. وكن وفيا لعهدك.. حتى وإن كانت غير ما تريد... ؟ قال لا تحمليني أمرا لاأطيقه...؟ قالت أهكذا ستحقق رغبتي الأخيرة..؟ قال أعدك بأن لا أخذلك...! قالت غدا نحن الثلاثة سنأتي لنرى اللوحة معا.. أما الآن أريدك أن تضمني.. أن تصهرني في روحك.. أن لا يفارق جسدي جسدك لحظة.. وعند النافذة .. وبالقرب من الموقد .. ضمها.. وافترشت صدره.. وارتمت عليه وكأنها تريد صهر كل شيء عليه.. وكأنها تودعه للأبد.. قضت نهارها كله وهي مرتمية بين أحضانه.. وكانت بين الفترة والأخرى ترفع ببصرها إلى عينيه.. فتعود بعدها مبتسمة وكم من مرة رفعت يديها لتطوق بهما وجهه.. وكم مرة احتضنت شفتاها شفتيه.. حتى بدت وكأنها تحتضنها احتضان الأبدية.. و لاح الظلام في الأفق.. وهدأ كل شيء .. حتى السماء بدت هادئة .. والريح التي كانت مع المطر تعصف بكل شيء.. حتى بزجاج نافذتهما هدأت.. وكأنها كلها تقف مذهولة أمام قرار النهاية الذي لاح وكأنه محتوم بهدوء الكون في تلك الليلة.. كانت السكينة تغطيهما.. وللمرة الأخيرة نظرت إلى عينيه وقالت .. أعلم بأنك تعاني مثلما أعاني .. أعلم بأنك مريض مثلي .. أعلم ذلك.. فقد تذكرت حوارك ذلك اليوم مع الطبيب .. لكن قل لي لماذا تعاند كل شيء من أجلي ألهذا الحد تحبني.. أم أنك أحببت الألم في..؟ قال بعد صمت وتنهد.. أحببتكما معا ولن أزيد..؟ قالت سأذكرك للمرة الأخيرة بعهدك معي.. لا تنساه.. وقد تأخر الوقت أريد أن أعود إلى البيت .. و لا تنسَ ستمكث الليلة أيضا عندي...؟
نظرت إلى الصالة .. الموقد.. النافذة.. اللوحات .. الصور.. لوحتهما الأخيرة.. الأحمر الذي غرس في عمقه.. الستائر.. كل شيء .. كأنها تودعها.. تحركت شفتاها .. ثم خرجا .. وفي البيت عندها .. كانت الأم صامتة كأنها بروحها أدركت النهاية.. أما رنين فقد لاحت وكأنها تنتظر القدر ليقذفها هي الأخرى في متاهة اللانهاية .. دخل الجميع غرفة فرح .. وجلس الجميع أمام سريرها .. نظرت إلى وجوههم.. قالت لأمها .. مشتاقة لوالدي.. هل تريدين أن أبلغه شيئا عندما أزوره..؟ بكت الأم.. ولم تستطع أن تتفوه بكلمة ثم نظرت إلى رنين وقالت .. سري.. رغبتي الأخيرة بين يديك ولاتنسي بأننا كنا تقاسمنا كل شيء .. وشيئان فقط لم نتقاسمهما .. المرض .. والشيء الآخر موجود في رغبتي.. ثم التفت إليه وقالت أنت لست أخشاك في شيء لأن روحي لن تختار سواك لتنضم إليه.. ثم قالت روحي ستشعر بارتياح أكثر عندما تجدكم معا.. وكأني سأفارقكم جسديا.. من أجلي .. استمروا.. ولا تدعوا شيئا يوقف عجلة حياتكم.. من أجلي.. من أجلي.. ثم التفت إلى أمها.. وقالت لها .. إنه هنا يا أمي.. سيبقى حتى وإن غاب بعض الوقت .. سيعود إليكم .. فلا تخسروه وأشارت إليه .. كان الليل قد انتصف .. تسارعت نبضات قلبها.. تنفست بعمق.. تحركت شفتاها و أشارت بإصبعها إلى مجهول آت من بعيد.. ثم أغمضت عيناها.. وانتهت رحلتها.. ارتمت الأم على جثتها .. وأجهشت بالبكاء.. وتلتها الأخت.. أما هو فكان مغروسا أمام تلك الأهوال لا يستطيع حتى الحراك من شدة ما أصابه الذهول ..مضت لحظات وهو لايحرك ساكنا .. لكنه فجأة استفاق على صوت بكائهما.. حاول أن يبعدهما لكنه لم ينجح .. اتصل بصديقه الطبيب وأخبره بالنهاية.. لحظات وكان جمع من الناس قد اجتمعوا حولهم ومعهم الطبيب.. أخذوها إلى أقرب مستشفى .. وفي صباح اليوم الثاني كانت الجموع تسير خلف موكب محمل بالألم الأزلي.. الأم في حالة ذهول.. الأخت في حالة هذيان.. هو .. في حالة موت.. الناس الجموع في حالة انتظار .. الطبيب في حالة ترقب لما سيؤول إليه مصير صديقه.. وهكذا استمر الحال لأيام.. بل لأسابيع متتالية .. وذات صباح كانت الأم قد استعادت بعض إرادتها.. والأخت استعادت بعض وعيها.. وهو قد لملم بعض أجزاء روحه.. قال لهما .. سأغيب بعض الوقت هذا إن كنتما تسمحان لي..؟ قالت الأم لتحقق ما قالته أليس كذلك..؟ قال أحتاج أن ....؟ قالت الأم هل ستعود .. متى ستعود...! لاتجعل الأمر يصعب علينا بغيابك.. قال سأعود.. رنين قالت رغبتها هنا تنتظرك فلا تغب ..؟ قال لا.. لن أغيب..؟ خرج من عندهم وتوجه لبيته وما أن دخله حتى أصابته نوبة ألم.. لكنه صمد أمامها وحمل حقيبته.. واختفى .. كم مرة اتصل به صديقه الطبيب لكنه لم يلق جوابا.. فاضطر لأن يتصل بأهل فرح ويسألهم عنه لكنهما أيضا لم يكونا يعرفان مكانه.. ومن شدة قلقه قال لهما إنه مريض وإنه يخشى عليه كثيرا..!
مضت الأيام .. والجميع ينتظر.. وذات يوم شعرت الأم بأن روحا قد اعتادت أن تزرع الراحة في نفوسهم تحوم حولها.. فأسرعت إلى رنين لتقول لها إنه سيعود قالت رنين إنها الروح إذاً.. قالت نعم .. اتصلي به لعله قد عاد لبيته .. قالت بل سأذهب اليه .. وأخذت معها صندوقا طفولياً حيث أودعت فرح رغبتها الأخيرة فيها ومعها مفتاح لبيته.. وذهبت إليه.. عندما وصلت ودخلت البيت وجدته فارغا لا أحد فيه.. وكان قبل رحيله قد غطى كل شيء بقماش أبيض .. فقط اللوحة المغروسة في ذلك الركن للصالة كانت مغطاة بقماش أسود .. وكان الغبار قد تراكم على كل شيء فبدأت تعمل في البيت وتنظف كل شيء وظلت تعمل فيه حتى المساء.. لكنه لم يعد وعندما انتهت من عملها.. وضعت أمام اللوحة التي لم ترفع عنها قطعة القماش الأسود.. طاولة صغيرة.. فوضعت عليه الصندوق الصغير.. وشمعة.. وأشعلتها..وهمت بالخروج.. وقد يأست من رجوعه.. لكنها الروح.. التي لم تخذل أمها .. نعم إنها الروح.. روحها.. المنصهرة في روحه.. روحهما.. وما أن وصلت عتبة الباب حتى سمعت صوت الباب وهو يفتح .. كان هو مندهشاُ لأن الباب كان مفتوحا.. وعندما دخل البيت صعق لأنه وجده نظيفاً وتفوح منه رائحة غير التي اعتادها رائحة الألوان ونظر حوله فوجدها واقفة أمامه ابتسم وقال رنين .. ماذا تفعلين وحدك هنا..؟ قالت ألم تقل إنك لن تغيب..؟ قال آسف .. كيف حالك.. وكيف حال أمك.. هل هي بخير.. مشتاق لرؤيتها كثيرا..؟ قالت وهي أكثر.. هي من أرسلتني إلى هنا .. وقالت إنك ستعود اليوم.. نظرت إليه وقالت هل أنت بخير .. كنا قلقين عليك كثيرا.. حتى صديقك الطبيب كان قلقا عليك ..؟ قال أنا بخير.. ثم نظر إلى الصالة .. فدمعت عيناه.. تـنهد وقال إنها الشاهدة على كل شيء دار بيني وبينها .. قالت وستكون الشاهدة على رغبتها الأخيرة.. ثم توجهت نحو اللوحة وقالت أشعلت هذه الشمعة وقلت إن عدت ستعرف بأنني كنت هنا.. ثم قالت لم أشأ أن أرفع عنها غطاءها.. لأن فرح كانت تقول لي دائما سنشاهدها معاً.. ثم قالت هل تريد أن تقرأ رغبتها الأخيرة..؟ قال .. نعم وسنشاهد اللوحة معا.. رفع غطاءها..نظرت هي إليها.. قالت علمت لماذا كانت تصر على أن تكملها قال لماذا..؟ قالت لأنها كانت تدرك نهايتها.. لذا أرادت أن تعرف كيف ستنظر أنت إلى ذلك اليوم.. وها قد أظهرت لها بأنه سيكون مظلما حزينا..وأقسم بأنها كانت تعاند النهاية طوال هذا الوقت من أجلك أنت فقط.. قال أهذا صندوقها..؟ قالت نعم.. افتحه .. فتحه.. وأخرج ورقة.. وبدأ يقرأها.. (عهدك معي لا تنساه.. روحي الآن تحوم حولك لن تفارقك لن تغفر لك .. إلا إذا حققت رغبتي الأخيرة.. فعد لذلك اليوم وتذكر عهدك .. وأقسم الآن بأن تفي به قبل أن تقرأ رغبتي النهائية.. ) نظر إلى رنين وقال إنها تطلب مني أن أقسم على أن أفي بوعدي معها.. قالت هل تقسم ..؟ قال نعم.. لن أخذلها .. ثم أخرج ورقة أخرى وفيها كتبت (قل لرنين أن تقترب منك .. وأقرأها بصوت مرتفع كلماتي رغبتي هذه.. رنين.. هذا هو الشيء الآخر الذي أردتك أن تشاركيني فيه أنه هو هذا الملاك الذي كفرت بمن لا يسميه ملاكا .. عليك أن تهتمي به .. عليك أن تحبيه .. لأنني أعلم أصلا بأنك تحبينه.. عليه أن يحبك لأنك أنا.. روحك .. روحي .. أنا أنت أنت أنا.. وعليكما معا نعم معا أن تستمرا .. أن تستمرا.. وأن تحبا.. أمنا التي ضحت بكل شيء من أجلنا .. أنتما معا ..نعم .. أنتما معا.. أقسما الآن بأن لاتفترقا .. بأن تعيشا للأبد معا.. بأن تسعدا أمنا.. وروحي.. أعلم بأن الأمر صعب عليكما لكن إذا كنتما وفيين لي .. ستسهلان الصعب من أجلي.. مرة أخرى من أجلي .. تحابا.. تحابا..)
نظر كل منهما إلى الآخر لاح لعينيها ذلك البريق الغريب الذي طالما تحدثت هي عنه في عينيه.. كانت الشمعة قد اقتربت من الذبول وتعمقت في عينيه ودمعت عيناها.. قالت أعلم بأنها رغبة مستحيلة .. لكنها.... ذبلت الشمعة.. حينها هو كان قد أدرك ماهية كل حواراتهما في الآونة الأخيرة وأدرك بأنها كانت تعمل من أجل إبقائه في أحضان توأمها.. قال لها.. نعم إنها لن تكون مستحيلة.. ! لكنه الموت .. نعم الموت الذي بدأ يلوح في الأفق وكأنه سيعمل جاهدا ليبعدني...! انتهى
*- ضمن مجموعتي القصصية والمسرحية (موت اكبر من موت).
وسوم: العدد 658