أكفان وقرار

عصام الدين محمد أحمد

أهم بصعود ( الأسانسير )، صوته يزاحمني :صدر قرار بنقل ( بدوي )ألتفت لأتأكد من المُتحدث، وأثناء الدوران يغلق الباب، أنزل بالدور الثالث عشر، أعرُج إلى غُرفة ( سميحة) ؛ لأوقع حضوراً، الإدارة تكاد تكون فارغة، السعادة يقفون في مواجهة الأسانسير انتظاراً للمُدير، الموظفات تتهامس، جلست قبالتهن، أ أفتتح ندوة الترويح أم ما زال مُبكراً ؟ ! تناجيهن يغظيني، ما  اعتدت يوماً – أن أهمش هكذا ! بالطبع لأنك نقعت عقلك في سائل البلاهة وأضحى التبجُح هو المكون الرئيسي لعلاقاتك !!تدخُل سماح ولسانها يلهج :صدر قرار بنقل مُدير شئون العاملين .ربما كان الأمر حقيقياً، وربما كان مزحة، وفي المكتب الفني الخبر الأكيد . هكذا قد حنى عقلي، وأربكني الشتات، فنزلت مُسرعاً إلى الدور الحادي عشر، درجات السلم من الرُخام اللامع، تنزلق الأقدام الثقيلة المرولة، فكادت رأسي أن تدُق، لي صديق في سكرتارية المكتب الفني، أظُن أنه يحمل لي جميلاً لابُد من رده، فميقات نزع فتيل القـُنبلة مُسجل على الحاسوب، الذي يعمل عليه، غرفته غير موصدة الباب، أجده مشدوهاً أمام الحاسوب، أحثه للبحث عن القرار الذي تلوكه الألسن، فتش في ملفاته، فلم يجد، وللتيقـُن قلب الأضابير، لا نقل على الإطلاق، غادرته، العاملون يتوافدون، الحيرة تلبس الجميع، غمز ولمز، ألج حجرتي، سماح تـُبادرني :ماذا وجدت ؟ ؟لا شيء سوى الكتمان .لا دُخان بدون نار .زيد هو مُعيطاستويت على مكتبي، فتحت ملف الموضوعات التي يجب الانتهاء منها، تناوشني الصور في خضم الأوراق :" عبد المُهيمن شيخ الخفراء يبذُر الأرض بخطوه، البيوت – منذُ سنوات لا تنفتح أثناء مروره، يداه معروفتان لا تسلم منها أية رقبة، يُقاسم المطاريد فرائسهُم، اشترط أن يقتصر نشاطهم على البهائم الشاردة . "لماذا تجنح لتذكُر هذا الرجل الجهم ؟ ؟ففي شعاب الذاكرة أناس طيبون، لا تقُل أن الطيب يذهب ولا يترُك أثراً في النفس !ها هو العُمدة يدخُل في جلبابه الغوبط، يولم القبائل، لا يطوي الأبسطة، الأوز والبط والفراخ تجذبها حارة ملتوية تنتهي بدوار العُمدة، الفلاحون دفعوا ثمناً باهظاً – في معركته مع الهوامش ، تكسرت الفؤوس، تحطمت النوابيت، غرقت الزروع، أغلق السوق لمُدة عام، شجت الرؤوس، تركت الندوب غائرة في الأوجه، وإذا عرف السبب ازداد العجب " .ها أنت الآن سبحت في فضاء مشوش، وتناسيت – عمداً – زوبعة النقل . ولماذا اقحمتنا في معارك الهوامش ؟ !لم أطلُب لك شاياً، أعرف أنك تشربه وسكره قليل، ويا سيدي سأعطيك سيجارة جيدة الصنف، ما رأيك أيها الناقد ؟ ؟وبنبرات السُخرية أيقظني جمال :أخبرته بقرار النقل المزعوم ، وهو – الآن – في مكتب الرئيس ليستكنه الأمر .أتمطى في مقعدي، أنظر عبر النافذة الزُجاجية إلى الشارع، الطريق طويل، والمُركبات تكسو بطنه بالصاج، أقول :

لماذا يشغل جماغه بهوسة العمل فيمكنه الاسترخاء والتأمُل بعيداً عن طارقة اللجلجة .

يسرسب نمنمات الحكمة :اعتاده الهزاز، فيصعُب أن يتبدل جسد بجسد .في الشارع كهل ينظم المرور، السيارات  تعبره، لا يلتفت إليها، أظُن أنه مُنشغل في رفع يده وخفضها. أقول :ستكون خسارتهم فادحة، فمحمود لا يجيد إلا كلمة نعم .يقول ليلحق بالمُدير، ويثبت في مضبطة العلاقات وقوفه إلى جواره، أستخرج كتاب الهوامش المُلتحد في الذهن :" تهرب فتونه خادمة العُمدة مع نعواس صبي الهوامش، في رحلة البحث عنها فتشوا صرتها، فاضية إلا من دستة عنادي ملونة، ومنديل رأس مطرزة حوافه بالغرز، ومترين من ستان برتقالي، ومكحلة من الفضة ورسومها المنمنمة، وحجاب أصفر فيه تهويمات عفوية بخط رديء، وطاسة خضة بزخارف عنكبوتية، ومنديل من القُماش ملوث بالدم .وتذيع إمراءة العُمدة في جلستها المحفوفة بالنساء المُلتحفة السواد: فتونة سرقت الدلو، والماء الراكد في القاع لم ينزح، قالوا أن العُمدة لبسته الجنية !يومها جمع العُمدة رؤوس العائلة، وبعد العشاء الدمس أشاروا عليه بمحو الهوامش ... "أفرغت من تدخين سيجارتك، وارتشفت ما في الكوب عن آخره، وترغب السمر، هون عليك فإنني أشعر بالضجة خارج الغُرفة، ومن الضروري خروجي الآن لاستكشاف أبعاد الصورة، ها هو المُدير تعلو وجهه ابتسامة شاحبة، الموظفون يتلفون حوله، كُل منهُم يهنئه، ها هو كاهلي قد نفض  التأزُم والتطوح بين ضفاف الارتباك، ولكن في شحوبه صراع وشعور بالمهانة، أظنك تلمح أضطرا به الآن، في خلجانه أمواج عاتية، ما أنحرف يوماً عن نطاق السطر، والمُكافأة تمركزه بين أطـُر الصورة. فلماذا تكبيل يديه الآن وطرحه بين فكي المٌـقصلة ؟ !عرجت على غرفته، يتربع فوق مقعده، يمسك ورقة الحضور والانصراف، يُمارس هوايته في الشطب، يتوعد الغائبين بالخصم، أتمتم:سبحانه مُغير الأحوال .مازالت وريقات كتاب الهوامش بيدي، أستنهض التفكر :يفتش عبد المُهيمن جميع الدور، لم يجد شيئاً سوى سراويل مُرتقة، وأسفل الحوائط نفوس مُتعبة، وفوق النوامات أطفال أجسادهم مسلولة، وخلف الأبواب شماريخ يملؤها السوس، حزمة برسيم هنا، وحمارهناك، وجرذان تختبر المسالك بانسلال لولبي، أصدر القرار بالهجوم الشرس على الهوامش، فالجنية التي امتطيت العُمدة سكنت شقاً في الهوامش، لم يُكفر عبد المُهيمن بمهمته، ساق الناس إلى أتون المحرقة وأعدا إياهم بالقصور والسبايا .أعطني سيجارة وأطلب لي فنجاناً من القهوة، ودعنا من اللغط، فعزبة الهوامش بها ما لا يزيد عن مائة عشة، قوامها البوص والطين، والروابط لا تنفك بينهُم وبين قريتكم، ولا تقل الطمع هو الحافز فأهلكم لا يثقون في وعود عبد المُهيمن، وربما سعيتم للحرب تخلُصاً من الملل، وربما كان للتشيُع دوره، وحينما انتهت الحرب بموت عُمدتكم، ثر تم ورجل منكم طرح عبد المُهيمن أرضاً، ومرغ وجهه في التُراب، وغمد في كبده نصلاً قائلاً، ما شفع له أنه  ابن جلدتكم، وبهذه النهاية سطرتم بداية العهد الجديد. ولكن ألا ترى أن هذه النهاية تختلف عما ورد بكتاب الهوامش ؟ لا ذنب لي في هذا التسلسُل فأنت دعوتني للمُشاركة .الهاتف يرن ، بدوي يرد :صدر قرار بإحالة السيد إلى المعاش .......تيقنت – الآن – من أهمية وجود معاليكُم على قمة المؤسسة .......بدأ يهمس في رده، فعلمت أن وجودي غير مرغوب فيه، قُمت خارجاً وصورة عبد المُهيمن حاملاً كفنه في مواجهة الأهالي، والأيادي تضرب بقوة رافضة فدوه. وقبل انسلالك ادفع ثمن الشاي والسجائر .

تمت بحمد الله

وسوم: العدد 661