في الحانة
يقطع( مدحت )الهمس المُرتبك : التاريخ سوق كبير .
أنشغل عنه مُعالجاً غصتي، يستطرد مُفسراً : سلع جلبها الآخرون .
المغص – الذي في نافوخي – ينتحب، أرنم بهدوء مُستفز : سمك ،لبن ،تمر هندى .
(مدحت ) يرشف الكأس دُفعة واحدة، يتقيأ الحكمة : لا شيءفى السوق سوى النفايات والعطب .
أصفق، قلبي يخمل، لساني ينفلت من عقاله : تبا لكل الأسواق ، ولكل كراسات التارخ .
اكتظت الحانة بالرواد، الأفواه مفتوحة، الألسن مُتدلية في بُحيرة الكحول، الأبدان تتمدد، تحتوي الفراغ،فى الأحتواء عقول تتوه ،تنصهر ، تتبخر ،وفجأة تتقزم، تنكمش في جراب التساؤلات، تتصادم الكلمات ، تتخلخل مفاصل الطاولات ، النوادل يكدسون الزُجاجات، وأجواف الثمالي بيد تبتلع الكئووس وتجف، أهز الكأس بأنامل ناقمة :
- حضر العمدة ،ذهب العمدة ،لا نملك إلا الأنحناء ،نبدى آيات النقديس ،وكأنن نقطن معبدا بوذيا فى كبد الصحراء .
يتربع فوق مقعده لابسا قفطانه الأبيض الشاهى الملئ بالجيوب ،رزم أوراق النقد تختنق من الزحام داخلها ، ينشغل بفرز الفلوس الجديدة وعزلها عن القديمة ،يعد كل ألف على حدة ويلف حوله استك .يفرغ المحل من البشر إلا العمدة وتشاوين البطيخ التناثرة فى شتى الزوايا وكأنه تماثبل الآلهة أو شواهد القبور .
أغمضت عيني هرباً من الأطلال، بل أنك تكذب، فما كان أغماضك للعينين إلا تبريراً لعدم رؤية العمدة في صُحبة غانية يتمازجان بالتغييب، وسُرعان ما يكتشف وجودكما، فيباغتكما مُكشراً ناصحاً!
يحيطون به من كل جانب ،يشيعونه إلى أقصى يمين الحانة ، يحثك( جمال) على المغادرة ،لكنك لا تمتثل ،ففى الحانة يتساوى الجميع ، تفرغ الزجاج، تخفر زُجاجة بكُر فوق المنضدة، تفض بكارتها ، والآن علي الذهاب إلى دورة المياه .
- أللمياه دورة ؟ ؟
- هأ ... هأ ... ألها مواعيد ثابتة ؟ ؟
أسكُب محتويات المثانة والأفكار، أبحلق في وجهي المُتخادن في صفحة المرآة المُعتلية المبولة.
- أتشعُر بالتقزُز ؟ ؟
- وما الذى يدعوك للتقزز ؟ فالوجه هو الوجه ، والعينان مبحلقتان فى بشرة وجهك المرتخية ،طال العمر أم قصر فالعفن هو المثوى فى غابة الديدان .تحمل يا سيدي، ومن المُمكن أن تقُص هذا الجزء من سطح الورقة ! !
نرجع مرجوعنا، يقاوم الوجه بوادر السُكر، أعض على نواجذي، آلام الوضع تمزق أحشائى ،تعود إلي الطاولة، الظمأ هو جوفي، كل خمور العالم لا تروينى ،أغتصب زُجاجة ثانية .
- ما أحلى أن تشرب والعمدة قابع يمارس الترنح .
شحب وجه ( مدحت ) وتصمغ، في ذهنه خيالات تتبرج بالتبرير فأحباله الصوتية تلهج : السقوط .
كرجع الصدى وبنبرات بطيئة أقول : طموح السقوط .
وفي ذهني مائة ألف رجلاً يمثلون بضائع سوق النخاسة يتشابطون : ما جدوى السفر في الأدمغة ؟ ؟
- ما نفع القص واللزق ؟ ؟ لماذا يصر العمدة على مطاردتى ؟
- من الذى يطارد من ؟ لماذا أسعى لكشف السر ؟
- لماذا تأبى النفس الانعتاق وبعنت تتشرذم ؟ لماذا ينحتون اسم العمدة على سور القلعة ؟
- أتمتد جذوره إلى المماليك ؟ ربما حملوا جده الأكبر من جنوة ،ألبانيا ٍ.
- وكيف يكون هو العمدة وفى رقبته سوار الرق ؟ دعك من دروب اللوع و مزق كتاب التاريخ
يرسل (مدحت ) زجاجة نبيذ معتق للعمدة ، لماذا لا أقتحم عليه خلوته ؟ أجرجره بقصاصات التاريخ ،أصب جم غضبى على(مدحت) الذى أتى بى إلى هذا المكان ، من المؤكد معرفته بتردد العمدة على هذا الماخور يوميا ، يتحدث ،لاأعى ما يتفوه به ، يستمر فى لغطه ،ها هى بعض المعانى تتضح : .شيخ قبيلتكم ،كل مساء ترافقه هذه المرأة ، لحم مترجرج ، أنثناءات البطن والصدرتعزف نغما متأججا ، أنحرافات عجيزتها تدفعك لقتل من يلتفت إليها .
العاملون بالحانة يدخلون وبيد كل واحد بطيختين زيرو ، عشر عمال بعشربن بطيخة ،ألمح سائق العمدة النوبى يغلق شنطة السيارة ، وفجأة تتقارع الطاولات والمقاعد، ساعة تُمر، وفي ذيلها الضحايا يتزايدون كالنبت الشيطان ، دهر يتساقم، تتصارع الأيادي، وما يحدُث ليس خيالاً ألفه العقل المُرتجف، كادت زجاجة منقذفة أن تشج رأسى ، أترنم : ما أنا إلا فناء ..تعمر رائحته البيداء .
هدأت العاصفة من تلقاء نفسها ،زجاجة كبيرة تتهادى بيد النادل ،وقبل أن تركن فوق الترابيزة ، أتجرع نصفها دفعة واحدة ،تغيب عنى الرؤية :
{ خالى حمودة يسحبنى كالخروف، ينسل من بين عربات الفاكهة والخضار المتزاحمة ،رجال ونساء وأطفال يمثلون مفردات اللوحة العبثية ، مسارات الخطو تائهة تبحث عن الكهف المسحور ، وأنا فى ذيله كالابن الذى يخشى فقد أمه ،عرج خالى إلى غرزة عبد الصمد المقطوعة يده اليسرى ،دخن عشرة أحجار حشيش ،دوائر الأدخنة منعشة ، سلمنى لابن عمه تاجر الخضار تسليم أيادى ، يزيح (مدحت ) ألبوم التذكر بقوله :
- يا عم انظر العمدة يوزع من رزمة الفلوس الجديدة بأسراف ،والمرأة غادرت المطرح ،ورفاقه أحاطوا بالطاولة .
- أيقنت أن ( مدحت ) يستهلك الوقت فى الثرثرة ،ويابى الخروج من أطار الصورة ،أتجرع النبيذ شفطة شفطة ،الهيئات تتماهى :
{ تهل سيارات الطماطم تباعا ،أضع حشية القماش فوق كتفى الأيسر ،أحمل آلاف الأقفاص ، وعبد الحميد يرص العدايات فى صفوف رأسية ؛ ثمانية فى الصف الواحد ، البائعون يتكاثرون ،الحشية تتشبع بعصير الطماطم الكبريتى ، يطقطق ظهرى ، كاد أن ينهار ، لن تشفع لك القرابة ، لم يمهلنى عبد الحميد دقائق للراحة ،سوط كلماته الموجع يحفر أخاديده فوق ظهرى ، ثابر يافتى ،فما أيسر الخنوع .}
يقطع (مدحت ) حبل التدلى إلى قاع البئر: المغنى الشهير يجلس جوار العمدة .
بصوت واه : يا عم (مدحت )جمال كف عن التتبع .
يحتد : لماذا تتعالون على الناس ؟ لكل واحد منكم دماغه ودنياه ولا تفتحون الباب لكل طارق .
- "اللى يربط رقبته فى حبل ألف من يسحبه "
- "كل يوم يجى من الصعيد مليح إلا رجالها والريح "
ترتج الأرض أسفل(مدحت ) ، يقاوم السقوط أثناء نهوضه ،أمد له يد الساعدة ، قبل أن يتمكن منها أسحبها متراجعا ،أنشغل ببقايا الزجاجة البئر :
{ أفتح باب السيارة الخلفى ،أتشعلق فوق السطح ،أزحزح عداية الطماطم بمشقة ،جريد القفص الجاف يجرح يدى ،أتشبث بباب الصندوق المستند عليه ، وسيد الشيال عملاق الطول يسند العداية بذراعيه المرتفعين والمفرودين ، وبسهولة يناولها لعبد الحميد ، الصف الرأسى به سبع ، أناوله أربع منها ، ثم يشد الثلاث الباقيات بسلاسة ، تتخلخل الرصة بتنزيل صف رأسى كامل ، فيبقى ستة صفوف أفقية ، أرص الأقفاص على حافة سطح السيارة ،خمس عمال ينقلونها من السطح إلى عبد الحميد ،السرعة والقوة هما كفتا ميزان العمل ، نصف ساعة تستغرقها السيارة ، أحمل أربعمائة وتسعين عداية على ذراعى وركبتى للسيارة الواحدة ،كالبهلوان أتناقل بين أسطح السيارات ،الساعة تبلغ الثانية مساء ،أتثاقل إلى ثلاجات الموز ،الأرض مرشوشة بالمياه ، الهواء منعش ،الرصيف رطب ،فلأسترح برهة ،مائة ألف سكين انغرست فى ضلوعى ،جبل الصخور يتراشقنى ،غفوت ،انتشلنى بساط الريح .}
منظر (مدحت ) مضحك ،رجل فى اليمين والأخرى فى الشمال ،يتطاوح كأوراق الموز فى الريح الهوجاء ،أقوم لأساعده ، يقول : "يا عبد المعين جيت تعينى لقيتك عاوز تتعان ".
أرجع مطرحى ،تبخر السكر :
{ تسعون يوما من العمل ، لم أقبض مليما من أجرى ،أطلبه ، " " ودن من طين وودن من عجين " شكوت إلى العمدة ، فأرسل أخيه إلى خالى صاحب محل الخضار ، فأحضر أجرى كاملا .
المغنى يشدو ، يدور حول دائرة مركزها العمدة ، الكاميرا تصور ، يرقص (مدحت ) رقصة الرحاية ، يتجاذبنا الباب ، نركب طريق العودة ، يختفي ، لن أبحث عنه ثانية، الشارع طويل، وقدماي في محلهما سائرتان ، نصل السوق ، يصعد(مدحت ) العنبر ، تشرئب الأعناق منصتة إلى المواويل الشجية .
تمت بحمد الله
وسوم: العدد 665