الشيطان والحارس
هتف السكان في المنطقة الصفراء بأصوات معادية للحارس الليلي الذي يقوم على حراستهم لكثرة الحوادث التي تظهر ضعف الرابط الأمني، شعر الحارس بالخطر، وأدرك أن الأصوات تطالب بطرده من عمله، تدافع القلق في قلبه، أدرك أن تهاونه في عمله جعل المنطقة الصفراء ملعباً للصوص وأوكاراً للفساد، جلس في محرسه، ترك الباب مفتوحاً ليراقب الشارع الطويل الممتد أمامه، مصابيح الأعمدة تلقي ظلالها، يراقب تلك الخيالات المتدحرجة على الأرض، يحاورها بعينيه، ينظر إليها من زوايا نفسه، فترتسم على جبينه أطياف حياته، ويرى سلال الماضي قد تكدست أمامه، وهو في هذه الأوهام وبحار الأحزان، شاهد خيال كلب يجري بسرعة، ارتعد لهذا المنظر، الذي سحبه من أحاديث نفسه وصدى الهتافات التي تطالب بطرده من عمله، حشد أحاسيس قوته، وحرّك عضلات يده، وأتى بعصا غليظة من آخر المحرس، استعد لمحاربة الكلب وأدرك أنه سيخوض معركة فاصلة، وتمنى أن يرى سكان المنطقة الصفراء معركته مع الكلب، وأنه بالضربة القاضية أنهى حياة كلب يروِّع سكان المنطقة.
بينما كانت خلايا عقله تطلق صفارات الإنذار، دخل عليه رجل، قصير القامة أفطس الأنف، تدلت شفتاه، وبدت أسنانه كالسكاكين، خاف من منظره، وتراخت العصا من يده وأصابها الإغماء، ضاقت أنفاسه عندما ناداه باسمه، كأنه صديقه، سأله عن أولاده وأمواله المدخرة في بيته، شعر أن الأرض تكاد تبتلعه، هذه الأموال لم يخبر بها أحداً، وقد جمعها من طرق مشبوهة فيها حبال الفساد.
ارتفع في نفسه سؤال كيف عرف هذا الرجل اسمه، وعرف أمواله المدخرة وسأله الرجل وقد شاهد الغشاوة على عينيه والضيق في نفسه:
لماذا أنت في حيرة يا صاحبي؟؟
قال له الحارس: وقد استجمع قوته.. كنت أراقب كلباً يريد أن يؤذي سكان المنطقة.
قال له الرجل: هوِّن عليك الأمر يا صاحبي.. أنا ذلك الكلب.. اتنقل بصور مختلفة حتى لا يتعرض عليّ أحد، وبذلك أحافظ على نفسي من الخطر.. كاد الحارس أن يغمى عليه من الكلام العجيب الذي سمعه، شعر أن زلزالاً يعصر جسمه وسيرميه بجانب العصا، أمسك نفسه، وتجلَّد، واستحضر كل دروس الفروسية التي قرأها في حياته..
سأل الحارس الرجل بشدة: من أنت؟؟
نطق الحارس بصوت أجش متقطع الحروف، مضطرب النبرات..
- أجابه الرجل بكل برودة وثقة بالنفس...
- هوِّن عليك أيها الحارس الشجاع والبطل الأمين.
- صداقتنا قوية، ومحبتنا قديمة، الأموال التي سرقتها لم أفش لك سراً..
- هدأت نفس الحارس، وتحرك اللعاب في فمه الجاف، أراد أن يبتسم ويشكر الرجل على حسن صنيعه وندرة وفائه، لكنه لم يستطع كأنّ دمه لا زال متجمداً.
- قال الحارس: للرجل الواقف أمامه..
- أتعبتني.. من أنت.. أيها الصديق؟؟
- يقولون عني: بأنني صديق الشر، وموقد الفتن، وحليف الفجار، وكل أعدائي يستعيذون مني..
- قال الحارس: زدتني حيرة بأمرك أيها الصديق.
- قال الرجل إنني الشيطان!!
- كاد الحارس أن يفقد عقله، ويصيب الشلل أطرافه لهول المفاجأة..
- بادر الشيطان بكلام ناعم رقيق يواسي الحارس ويبعد عنه شبح الخوف، ويعيده إلى صوابه، نسيج من كلام عاطفي، يلامس مشاعر الحارس.
- إنني أيها الصديق.. شاهدت ثورة أهالي المنطقة الصفراء ضدك.. لأنك لم تقم بواجبك تجاه أمنهم وسلامة ممتلكاتهم.. وأنك في حيرة من أمرك، خوفاً أن تفقد عملك، وتضيع الرشاوي التي تتقاضاها مع السارقين لتسهيل أعمالهم، إنني أشهد بأنك رجل شريف، ينبع عملك من ضميرك، أبارك لك هذا الضمير الذي يسترشد بوساوس وإيحاء اتباعي.
- أيها الحارس البطل.. لن يستطيع أهالي المنطقة الصفراء أن يبعدوك عن عملك، سأطلب من أتباعي أن يناصروك ويدعموك حتى نتجاوز هذه المرحلة.
- تكلم مثلما يتكلم سكان المنطقة الصفراء، أمزج كلامك بالعاطفة والآمال، وستبقى في عملك مطاعاً..
- أيها الصديق سأتركك في محرسك تتابع عملك، أبعد عن نفسك شبح الخوف.
- لا تقم لتوديعي.. دعني لوحدي أمشي في هذا الليل الطويل... فأنا أعرف طريقي..
- بقي الحارس جالساً في كرسيه، لا يستطيع الحركة من هول ما رأى وما سمع، وبقيت عيناه تتابع خطوات الشيطان في هدوء الليل... ودون أن ينتبه.. وكأنه شرد في متابعته.. شاهد أضواء الشارع قد عكست خيال كلب..
- شعر الحارس أن السعادة تحركت في جسمه لأنه سيبقى في عمله، حرك يديه، تلمَّس رجليه، فرح بنشاطه وحيويته.. وشعر بأن خيط مودة وثقة تربطه مع الكلاب...!!
وسوم: العدد 665