شطة شعبان في رمضان!
عندما؛ دخلتُ الجامعة؛ كان لي زميلٌ اسمه شعبان، من أهل القرية، يسكن في حي مصر الجديدة؛ كنتُ من آنٍ لآخر؛ أزوره؛ وتصادف حظي الكئيب؛ عندما عزمني عنده في رمضان على الإفطار؛ وألحَّ في طلبه؛ حتى وافقتُ على غير العادة؛ فقد كنتُ أرفض العزومات في الصيام؛ وأراها مظهريةً كاذبة!
ذهبتُ إليه قبل المغرب بنصف ساعة؛ فوجدته في المطبخ؛ يُجَهِّز الأكل! وبعد دقائق؛ كان الطعام موضوعاً على الأرض؛ فجلستُ أنا وهو على السجادة؛ للإفطار؛ فهالني؛ أنه وضع الشَّطة الحارقة على الفاكهة، والتمر! لا؛ بل؛ على الخُضار، والفَرخة، والأُرز، والسَّلاطة أيضاً! لا؛ بل على الخُبز كذلك! فاغتظتُ من سوء فعلته؛ التي فعلها يومئذٍ، وهو من المُجرِمين المُصِرِّين!
فغضبتُ أشد الغضب؛ وقلتُ له بأسىً كبير: تعرف أنني لا أُحِبُّ الشطة! وبرغم ذلك؛ رششتَ الشطة؛ بغزارة، في كل شئ! أنت إنسانٌ غريبٌ مريض! لقد عزمتني يا هذا؛ لتُؤدِّبني بالشطة! أم ماذا؟! أجِبني؟!
وهو نازلٌ أَكْلاً؛ وكان مُشَمِّراً، ويداه مَغروزتان في الشطة، وصوتُ أسنانهِ يُطرقِع بشدة! وهو يقول: ياه؛ ما أحلى طعامي! وما أشهى طبيخي!
ثُمَّ؛ نظر إليَّ بطرفِ عينه باستغرابٍ حادٍّ؛ ثم قال بعدم اهتمام؛ لِما فعل: أنتَ تُكبِّر الأمور! بقى؛ شوية شطة بسيطة تعمل فيك هكذا؟!
فأمسكتُ به من عرقوبه قائلاً بغيظٍ بالغ: أنتَ طبختَ شطة، ورششتَ عليها الطعام! فقال لي؛ بغير اكتراثٍ: أين هي الشطة؟! أنا نفسي في شطة حقيقية! هذه لعب عيال! إنها مجرد رائحة شطة! تعال، تعال، واجلس بجواري، وتناول إفطارك!
فأدركتُ؛ أنني مع إنسانٍ مجنون؛ لا يحترم أذواق الناس، ولا مزاجهم! فتركته لشطته!
ثم؛ ذهبت إلى الثلاجة؛ فوجدت فيها بعض الخس، والبقدونس، والشبت، والجرجير؛ فأتيتُ بها؛ وأفطرتُ عليها!
بعد الانتهاء من إفطاري، وكان زميلي مازال يلتهم الشطة التهاماً؛ دعوتُ عليه قائلاً: اللهم لا تجمعني به في الدنيا والآخرة! اللهم احشره في جهنم مع الشطة، والشطيطة، والشطشطات، والمشعططات! وهو يرفع يده المليئة بالشطة، من الطبق؛ قائلاً؛ وهو يضحك كالمجاذيب: اللهم آمين، اللهم آمين!
عندما؛ أردتُ الانصراف؛ أمسك بيدي؛ وهو يقول: إلى أين تذهب؟! نريد الذهاب لصلاة التراويح خلف الشيخ/ مبروك! وكان يعلم مدى حبي لجمال صوت هذا الرجل؛ فنسيتُ همِّي مع الشطة؛ فضحكتُ، وانطلقنا إلى حيث جامع الشيخ مبروك!
بعد الانتهاء من التراويح؛ ذهبنا للسلام على الشيخ مبروك، وطلبنا منه الدعاء لنا؛ فاستجاب لنا الرجل على الفور!
ولما أردت الرجوع إلى القرية؛ رفض زميلي شعبان؛ وأقسم بالثلاثة؛ لأبيتنَّ الليلة عنده! فرضختُ لأيمانه الضالة!
جنون شعبان!
عند السحور؛ قال لي شعبان: سأعمل لك سحوراً؛ لم تأكله من قبل؛ بل لم تره في حياتك كلها!! وستنسى إفطارنا الهنئ اليوم؛ بمجرد رؤيته! فضحكتُ من كلامه الغريب الكاذب الكذوب!
أتى إلي شعبان بالسحور؛ فلم أتخيل؛ أنه بلغ به الجنون إلى هذا الحد؛ فقد أتي بطبقين: واحد فيه شطة وجُبْن، والآخر؛ فيه شطة وعسل!
فقمت مذعوراً؛ فدلقتُ الطبقين من يده على الأرض، وأنا أصيحُ فيه بمرارةٍ، وحنقٍ: لا حول، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! يظهر فيه حد سلَّط شعبان عليَّ اليوم! ثم رفعتُ يدي بالدعاء قائلاً: اللهم أجِرنا من شعبان، ومن جُنون شعبان، ومن خَطَل شعبان، ومن شطة شعبان، ومن قِلةَّ عقل، وعدم إيمان شعبان، وعدم صيام شعبان!
فخرجتُ من شقته؛ أعدو على وجهي؛ كالمجانين!
جرأة شعبان!
لكنْ؛ في عصر اليوم التالي؛ فوجئتُ بطرقات على الباب شديدة شديدة؛ ولَمّا فتحتُ؛ وجدتُ شعبان؛ يأخذني بالأحضان، والسّلامات؛ وأنا ذاهِلٌ مِن هذه المفاجئة القاسية القاسية؛ ثُمَّ قال لي باستخفافٍ خبيثٍ: وجدتُ نفسي قريباً منك؛ فقلتُ: تنال أجر إفطار صائم؛ فعزمتُ نفسي على مائدتك العامرة! وأنا لا أريد إلا شِق تمرة؛ لا بل تمرات فقط، وبعض الماء؛ وسأسافر على الفور إلى الإسكندرية!
وكنتُ؛ نويتُ الإفطار بطبقٍ من الفول، والخضراوات الطازجة، وبعض الفاكهة؛ إلا أنَّ شعبان؛ قام بفتح الثلاجة؛ وأخرج منها بطَّةً، وكيساً من اللحوم، ودجاجةً ضخمةً؛ ثُمَّ شمَّر ملابسه؛ وذهب إلى المطبخ؛ لتجهيز إفطاره! وأنا أتعجَّب من جرأته، وتطفُّله الذي تفوَّق فيه على أشعب؛ الشخصية التاريخية المشهورة!
وبعد ساعتين؛ أتمَّ شعبان وليمته الكبرى؛ ووضع طعامه على المنضدة؛ استعداداً؛ لِسماع أذان المغرب.
وفوجئتُ به؛ لا يعمل حسابي في الطعام؛ الذي أعدَّه؛ فتحاملتُ على نفسي؛ وبلعتُ ريقي في فمي؛ من شدة الغيظ!
لكنه؛ وهو الطُّفَيليُّ صليبةً وطريقةً وحقيقةً؛ قال لي: عرفتُ أنك تُحِبُّ الفول؛ فلم أشأ أنْ؛ أُزْعِجَك بطعامي اللذيذ السمين؛ ذي البَهاريز والشَّهاويز، والمَجاريز!
وأنا؛ أفْرُك يديَّ في بعضهما؛ وأقول بألمٍ بادٍ: اللهمَّ؛ إنِّي صائم، اللهمَّ؛ إنِّي صائم!
وبمجرد سماعه أذان المغرب؛ بصوت الشيخ/ محمد رفعت؛ إلا ودسَّ البطة بين يديه؛ وأنا أنظر إليه؛ وهو يقول بفرحٍ غامرٍ: خير الطعام البط؛ خير الطعام البط! وبعد دقائق؛ كانت المسكينة؛ قد استقرت في معدته؛ بالتمام والكمال! ثُمَّ؛ أجهز على الدجاجة في لحظاتٍ قلائل!
ووجدته بعد ذلك؛ يلتهم اللحوم التهاماً؛ وهو يقول: بيتٌ؛ لا لحومَ فيه؛ جِياعٌ أهله! وأنتم جِياعٌ جِياع! ثُمَّ صاح؛ بعد أن فَرَمَ اللحوم كلها في أحشائه: يظهر؛ أنِّي سأظل صائماً؛ حتى عودتي إلى بيتي! وبالفعل؛ فلا كرامة؛ لصائمٍ إلا في بيته!
فأمسكتُ به من حلقومه؛ وطرحته على الأرض؛ وأنا أصيح فيه: جِياعٌ؛ يا ابن البطة؛ واللحمة؛ والدجاجة؛ والله؛ لن أتركك حتى تُخْرِجَ من معدتك كل أموالي، وطيوري!
وسوم: العدد 670