التين لا يعرف الكراهية
بعد أيام قضاها في الزنزانة العفنة التي تضم عشرات الموقوفين أمثاله نادوا اسمه للتحقيق، فقام إلى الباب الذي فتحه أحدهم وامتدت يد من الخارج جذبته إلى الخارج بعنف، وفي الخارج أوقفه أحدهم إلى الحائط ووضع القيد في يديه وربط على عينيه عصابة سوداء تفوح منها رائحة كريهة، واقتاده إلى المحقق عبر ممرات طويلة تصطخب بصراخ الموقوفين تحت التعذيب.
أخيراً، قدّر انه وصل الى مكتب المحقق، فقد توقف به المرافق، وصدر صوت باب يفتح، وعلى الفور دفعه المرافق للدخول واقتاده عدة خطوات ثم وقف وضرب الأرض بقوة تحية للمحقق وهو يقول :
- أمرك سيدي
وإذا بصوت نسائي يرد :
- اكشف عن عينيه !
كشفه، وكانت المفاجأة، فلم يكن المحقق سوى " غادة" زميلته في الدراسة من الحضانة حتى الثانوية، وخطيبته التي حرمتهما الطائفة أن يكونا زوجين !!
ورآها تغادر مكتبها وتأتي نحوه، اقتربت، مدت يدها بحركة عفوية لتصافحه، لكنها اصطدمت بالقيد في يديه، فصاحت بالحارس أن ينزع القيد عن يديه، فتردد الحارس وأشار لها بيده ما يفيد خوفه من اعتداء الموقوف عليها، فصرخت فيه آمرة إياه أن ينزع القيد وينصرف، فامتثل الحارس للأمر ونزع القيد وانصرف وهو يتلفت خلفه خوفاً على سيدته، ومدت يدها فصافحته وهي تقول مع ابتسامة مشوبة باعتذار هادئ :
- سمير ؟!!! معقول !!!!!؟
وفي لحظة، أعادته الذاكرة إلى سنين مضت، إلى لقائهما الأول في مدرسة الحضانة في الضيعة المستلقية بدلال في غوطة دمشق، فتذكر كيف جاءت به المعلمة فأجلسته إلى جانب بنت رقيقة ذات شعر أشقر ووجه مشرق كالبدر فجلس في المقعد وانكمش على نفسه متحرجاً أن يمسها لكن الطفلة التفتت إليه بعينين زرقاوين مثل ماء البحر وسحبت نفسها نحوه حتى أحسّ دفأها في جنبه، وعاد من شروده وذكرياته على وقع صوتها الذي افتقده ثلاثين عاماً أو تزيد، قالت :
- اجلس ... تفضل... روميو
فجلس على الأريكة المقابلة ضاحكاً وهو يتذكر الاسم الذي اشتهر به بين زملاء المدرسة ورفاق الحارة بعدما شاعت أخبار العلاقة بينه وبين هذه السمكة الناعمة التي قدمت من اللاذقية لتعيش في الشام مع أسرتها بعد أن نقلوا أباها الضابط للعمل في أحد الفروع الأمنية التي راحت تنتشر في أحياء دمشق انتشار الفطر الشيطاني في أعقاب الحركة التصحيحية التي قادها " حافظ الأسد" في سبعينات القرن الماضي، ونصّب نفسه رئيساً للبلاد !!
وسمعها تعيد قولها:
- تفضل روميو ، ( وبعد ضحكة منغمة ذكرته بشقاوتها أيام زمان، أضافت ) أم نسيت اسمك ؟!!
فتشجع ورد عليها :
- وهل يمكن أن أنسى !؟ ( وضحك ضحكة رائقة وأضاف ) خهل يمكن أن أنسى روميو و"جولييت" عروس البحر ؟!!
والتقت عيناهما في لحظة شوق طال انتظارها، ورآها تجلس على الأريكة المقابلة فجلس ينظر إليها وتنظر إليه غير مصدقين بهذا اللقاء الذي جمعهما في هذه الظروف، ولاح عليها الشرود، فلم يخامره الشك أنها شردت إلى ماضيهما معاً، فأطلق خياله إلى تلك الأيام، وتوقف بصورة خاصة عند أول احتكاك بينهما في باحة المدرسة، حين رآها تقف وحيدة في طرف الباحة، اقترب منها وقدم لها حبات من التين المجفف التي اعتادت أمه ان تدسها في محفظته كل يوم، فمدت يدها لتأخذ التين متعمدة مس يده، فشعر بكهرباء دافئة تسري في جسده، وعاد من شروده على دفء يدها تمدها إليه بفنجان القهوة، فابتسم ابتسامة عريضة جعلتها تسأله عن سر ابتسامته، فأجاب :
- لن تصدقي
قالت :
- قل ، وسوف أصدق
قال :
- تذكرت حبات التين التي قدمتها لك أول يوم في المدرسة ، هل تذكرين ؟!!
أجابت :
- لا أتذكر !!
فتبددت ابتسامته لجوابها ، بينما عادت هي تكمل :
- أنا لا أتذكر ذلك اليوم لكني أتذكر طعم ذلك التين الذي لم يفارقني طوال تلك السنين
فعاد الفرح يطلّ من عينيه وتناول القهوة من يدها، فرشف رشفة هنية جعلت قلبه يرفرف كعصفور يريد أن يطير من صدره ليطوقها .. وسمعها تقول له :
- لكن دعنا مما كان، وأخبرني الآن ماذا فعلت بك الأيام ؟
فتنهد من أعماقه وقال قلبه ( الأيام !؟ آه لو تدرين كم كانت أيامي صعبة من بعدك ! )
ونظر إليها بعينين دامعتين وردّ على سؤالها :
- أصبحت طبيباً، وفتحت عيادة خاصة جاءني اليها قبل أيام ثلاثة من عناصر الأمن فسحبوني منها كأنني مجرم هربان، على مرأى من مرضاي الذين لم يجرؤ احد منهم على التدخل، وأحضروني إلى هنا، وأودعوني زنزانة لم أعرف فيها ليلاً من نهار
فقاطعته :
- المهم أنك أصبحت حكيماً، فهل حصلت على الدكتوراه ( وأغمضت عينيها كأنما تستحضر أمراً، وتابعت) أتذكر أن الجامعة رشحتك في بعثة إلى باريس للحصول على الدكتوراه ؟!!
رد بنبرة تقطر مرارة :
- صحيح ، رشحتني الكلية للبعثة، لكن اتحاد الطلبة في الجامعة سحب ترشيحي ورشّح طالباً آخر بحجة أنني لست منتسباً إلى " الحزب" !!
أحست بطعنة في قلبها، لكنها اجتهدت أن تخفي عنه ذلك ، وقالت :
- ولا يهمك، أنت أكبر من الدكتوراه، وأكبر من الشهادة ( وغمزت وهي تضيف) وعلى كل حال سوف أتوسط لك عند مدير المركز لتأمين بعثة لك، فهو رجل واصل في الحزب، وقد سبق أن توسط لكثيرين
فقاطعها وهو يشير إلى الباب :
- المهم أولاً أن أخرج من هذه الورطة ، وأغادر هذا المكان بسلام !!؟
قالت ممازحة :
- مللت منا بهذه السرعة!!؟
ردّ قلبه ثم لسانه :
- أنا !!؟ آه لو تدرين كم تمنيت أن أقضي الحياة كلها معك، وآه لو تدرين كيف كانت حياتي تظلم كلما كنت تغيبين عني !؟
فقالت بدلال :
- أنت تبالغ كعادتك !!
قال :
- اسألي قلبك ؟!
قالت مع ابتسامة مدلة :
- سألته فأخبرني أنك تبالغ
فعاد يقسم لها :
- لا والله ، لا أبالغ بل أقول الحقيقة التي تحاولين إنكارها !!
فسارعت تقول :
- أنا !!؟ قد أنكر نفسي ولا أنكر ما بيننا، وأنت تعلم تماماً كم حاولت مع أهلي من أجل زواجنا، وكم لاقيت منهم !!
قال :
- على كل حال ليس هذا مكان مناسب لفتح الدفاتر، المهم الآن أن أخرج من هنا!؟
فطمأنته :
- ستخرج، ستخرج وتذهب للحصول على الدكتوراه، هذا وعد مني .
قال :
-المهم أن اخرج من هنا، ولا أريد بعثة، ولا دكتوراه !!
وقطع حديثهما رنين الهاتف، فقامت الى مكتبها، فردت على المكالمة، ووقفت تجمع بعض الأوراق، وأخبرته أنها ذاهبة لمقابلة مدير المركز، وطمأنته أنها لن تتأخر، وأشارت له أن يستريح تماماً وسوف تخبر الحراس أن لا يزعجوه
غادرت الغرفة ،
فاسترخى في أريكته وعاد يقلب دفاتر ذاكرته التي حملته إلى اليوم الذي فاتح فيه والديه بطلب خطبته منها، لكن أمه اعترضت بشدة، وحين سألها عن أسباب الاعتراض أجابت أنها لن ترضى لولدها الوحيد أن يتزوج بنتاً رافضية ( من غير ملتنا ) وأراد أن يقول للوالدة إن غادة مسلمة وقد رآهاأكثر من مرة تصلي مع البنات في المدرسة، ولا مخلاف بين جماعتنا وجماعتها، فنحن كلنا مسلمون، فصرخت فيه الوالدة مستنكرة :
- أنت جاهل ، هؤلاء أرفاض ... يعني كفار يا جاهل! ( وخوفته مضيفة ) هل ترضى أن ترتبط بكافرة ؟!!
رد قلبه :
- غادة ! كافرة ؟! مستحيل !!
وقبل أن يرد على الوالدة رأى والده يتأهب للدخول في المناقشة، فقد توقف عن قراءة القرآن وطواه وقبله ورفعه إلى رأسه، ثم التفت إلى الأم قائلاً :
- يا بنت الحلال ، دعي الأولاد يفرحوا، واتركي هذه الخزعبلات .... كلنا إسلام ؟!!
فأسرع إلى والده يقبل رأسه، ويطلب منه موعداً للذهاب إلى أهلها لطلب يدها، فأعطاه الوالد موعداً مفتوحاً قائلاً :
- أنا جاهز في أي موعد تتفقان عليه يا ولدي، لكن من الضروري أن تشاور هي والديها ؟!!
قال :
- لقد شاورتهما وهما ينتظران زيارتنا لهم
قال الوالد :
- إذن على بركة الله
انفرجت أساريره واسترخى في أريكته وهو يستعيد ذكرى الفرح الذي أحسه في تلك اللحظة وهو يسمع موافقة أبيه، ورأى الباب يفتح، وأطلت غادة بقامتها الرشيقة، وخطواتها الواثقة، ويبدو أنها ضبطته يبتسم ، فسألته عن ذلك، فأشار لها أن تجلس وراح يحكي لها تلك الذكريات، وانتظر أن يراها تبتسم لكنها هربت من نظراته كأنما تذكرت موقف والدها بعد أيام من إعلان الخطبة وموافقته عليها، فقد عاد عن الموافقة تحت ضغوط عائلته التي رفضت أن ترتبط العائلة بعائلة تخالفها في الطائفة، وأراد سمير أن يعيد البسمة إلى شفتيها فراح يذكرها بالمقالب التي كانت تصنعها بصبيان الحارة ثم تقف تضحك عليهم، فانفرجت أساريرها،وانطلقت تضحك بشهية وانطلق يجاريها حتى أحس الدنيا كلها تشاركهما الضحك، حتى إذا ارتويا من الضحك قامت إلى مكتبها، تجمع أشياءها وتدسها في محفظتها كأنما تستعد لمغادرة المكتب، ونظر إليه مع ابتسامة ذات مغزى وقالت في دعابة :
- الآن راح وقت الهزل وجاء وقت الجد !
فقلب كفيه متسائلاً ماذا تعني، فتابعت تقول :
- انتهى وقت الدوام ويجب أن أذهب !
قال :
- وأنا ؟!!
قالت ببرود ضاحك :
- أنت ستبقى هنا، طبعاً !
فتساءل غير مصدق :
- هل أنت جادة ؟!!
قالت :
- اطمئن أنت هنا في الحفظ والصون فلا تخف (ثم بنبرة هادئة أضافت) هناك إجراءات لابد من استكمالها قبل إطلاق سراحك، فملفك يفيد أنك عضو في جماعة إسلامية محظورة، وهي تهمة كبيرة كما تعلم !!
فاعترض بكل ثقة :
- لكنك تعرفين تماماً أنني لم أتعاط العمل الحزبي ولا السياسة بتاتاً !!!؟
قالت :
- أنا واثقة من هذا تماماً، وسوف أفعل كل ما أستطيع لأثبت أن كل ما جاء في ملفك معلومات كيدية لا أساس لها من الصحة !
قال :
- لكن هذا سوف يستغرق أياماً وربما شهوراً !!؟
قالت :
- لا تقلق، سوف أطلب مساعدة زوجي "سلمان" نائب مدير المركز، ولن يستغرق الأمر سوى يوم أو يومينعلى الأكثر، اطمئن !!
قال مسلماً أمره لله :
- طيب، والآن ؟!
قالت :
- سوف تقضي الليلة في زنزانة خمس نجوم
فرد عليها ساخراً :
- أخشى أن ألقى فيها "نجوم الظهر" !!
وانطلقا ضاحكين، غير مكترثين بالمكان، وأخذت بيده إلى الخارج، فنادت أحد الحراس وطلبت منه إيداعه الزنزانة المفردة ١٠١، وقبل أن يمضي الحارس أمرته أن يحضر له وجبة خاصة، وأن يبقى قريباً منه لتلبية طلباته، وحذرته أن يتعرض له أحد بأذى، ومدت يدها فصافحته مودعة مع نظرة دافئة أرادت بها طمأنته، وانصرفت فيما اقتاده الحارس إلى الزنزانة خمس نجوم !!!
وتبرع أحد الحراس بتوصيل الخبر إلى سلمان الذي استشاط غضباً، وأمر على الفور بإحضار "العاشق ابن الكلب" حسب تعبيره، فأحضروه بين يديه بعد وضع الأصفاد في يديه ، وضع عصابة سوداء على عينيه، فرحّب به سلمان بنبرة ساخرة :
- أهلاً روميو !
فأيقن سمير أن نهايته اقتربت، وعما قليل سوف يصبّ عليه العذاب صباً !
وأمر سلمان الحارس أن يصعد به إلى مدير المركز، وما إن غادرا رفع سلمان السماعة وهاتف مديره مقترحاً عليه تحويل ( هذا المعتقل الخطير ) إلى فرع التحقيق العسكري ، وهو فرع معروف بسمعته الرهيبة ، فلم يخرج منه معتقل إلا الى القبر او مستشفى المجانين !!
ولم يكتف سلمان بهذا، وإنما ظل يلاحقه ويطلب تحويله من مركز إلى آخر حتى تضيع آثاره عن غادة، وكان رئيس المخابرات العامة قد أسس أسلوبا لتشفير أسماء الموقوفين ، مع نقلهم تكراراً بين المراكز كي لا يستطيع الأهل الوصول إلى المعتقل مهما حاولوا!!
ولم تيأس غادة، فراحت تبحث عنه في مراكز المخابرات المختلفة مستعينة بزملائها وزميلاتها في جهاز المخابرات، واستمرت على هذه الحالة شهرين كاملين، لكن دون جدوى، فقد كان برنامج التعمية على المعتقلين قد بلغ درجة من التشفير يستحيل اختراقها، حتى على عناصر الأمن أنفسهم، فقد تحول المعتقلون إلى مجرد أرقام يستحيل التعرف على أصحابها إلا من خلال رئيس المخابرات العامة الذي احتفظ وحده بمفتاح الشيفرة، ومع هذا استمرت غادة تبحث وتسأل وتختلق زيارات إشراف إلى مراكز الاعتقال بحجة الاطلاع على سير العمل فيها، على أمل ان تعثر على سمير!!
وعلم زوجها سلمان بنشاطها وبحثها عن (محبوب القلب) فكاشفها بذلك وهددها برفع الأمر إلى رئيس الجهاز ، وحذرها أن مساعدة أحد المعتقلين عمل خطير جداً، يعرضها للمحاكمة والسجن وغالباً التسريح من الخدمة دون تعويضات، لكن ذلك كله لم يوقفها عن البحث، واشتد الخلاف بين الزوجين، وأيقن سلمان أنها لن توقف بحثها عن ( روميو ) فطلقها، واستصدر حكماً قضائياً بموجبه سحب منها ولديه محمد وسمير، فكلفت محامياً كبيراً لاسترداد الولدين، لكن لم تستطع، فلجأت إلى بعض الأقارب والمعارف لكي يتوسطوا عند سلمان ويعيد لها الولدين، لكن باءت كل الوساطات بالفشل، مما زادها تصميماً في البحث عن سمير ، حتى علمت بوجوده في "سجن تدمر" الذي تعرف ضابطاً قريباً لها يعمل فيه، فاتصلت به وطلبت زيارة السجن فأجابها إلى ذلك!
ويوم الزيارة هيأت نفسها للمقابلة مع سمير، وأرادت إدخال الفرحة إلى قلبه، فأحضرت حبات من التين المجفف تقدمها له لتذكيره باللقاء الأول الذي جمعهما في الزمن الجميل !
وفي تدمر، رحب بها الضابط القريب ، فسألته عن "سمير النجار" إن كان حقاً بين المعتقلين، فأجابها أنه لا يعرف معتقلاً بهذا الاسم، لأن المعتقلين يحملون أرقاماً مشفرة لا أسماء، ولهذا عرض عليها القيام بزيارة للزنازين، لعلها تجد مطلوبها، وقام معهاإلى الزنزانة الأولى ، وفي طريقهما مرا بساحة السجن، وإذا بها أمام عدد من المشانق المنصوبة وعدد من المعتقلين مازالوا معلقين فيها ، أفزعها المنظر فأدارت وجهها لتتحاشى الأجساد التي تتأرجح بالحبال، وتابعت زيارة الزنازين، فلم تعثر على سمير، وفي عودتها الى مدير الضابط تحاملت على نفسها ووقفت تتأمل وجوه المعلقين بالمشانق، وإذا بها تصطدم بوجه سمير، فانهارت إلى الأرض، وانتثرت حبات التين من يدها !!!
وسوم: العدد 672