حكاية الأرصفة القديمة
قصة عمرها سبعة وثلاثون عاماً، كتبت بتاريخ 19/6/1979 م مذيلة بتوقيع الكاتب.
أنقل عنه القصة بتصرف؛ لأنها لم تُنشَر ولا تزال مخطوطة بقلم كاتبها في كراس قديم جميل بقدمه,
وأقول الصدق: إنني عقدت اتفاقًا شفهياً معه بأن أقرأ عليه ديباجة القصة فقط... وعندما تُنشَر أتلو عليه
القصة كاملة وبصوتي, ليس لضعف في بصره، وإنما لسبب واحد فقط، هو رغبة في نفسه أن يسمع شجن القصة، ولحن النبرات، لتعود به إلى تلك الأيام التي هربت منه، يوم أن كان عمره ثلاثة وعشرين عاماً.
تقول الديباجة:
كان أثناءها في مدينة من مدن بلاد الشام الفريدة بطابعها وتاريخها، يقضي دراسته الجامعية. يكتب عن هذه المدينة جملة من الأوصاف في تعبير شاعري مرهف، ويذهب إلى حد وضعها في فصول السنة، بحالات منفصلة عن بعضها تماماً.
ومما كتبه يقول عنه: إنه إحساس وتعبير شاعري, عايشه بكل ثقة, ويبدأ ذلك بخط يده كالعنوان:...
"يتفجَّر جمال هذه المدينة في فصل الخريف.!!
فالشتاء يتقوقع ويختبئ في أماكن مظلمة قاتمة، حيث يتجمَّد نشاطها وتكاد تتوقف الحياة, حياة كل الكائنات, وتختفي حالة ظهور الألوان، كل الألوان.
وفي الربيع تهرب الحياة من المدينة إلى خارجها، وتصبح مدينة أشباح بكل شيء فيها، يعم التشاؤم والإحباط كل من يتواجد فيها.
وفي الصيف, فيعبر عنه أنه انعدام الحياة إلى درجة موتها, وتصبح المدينة ميتة بكل ما للكلمة من معنى, والخريف عندما يهلُّ عليها فإنه يحمل معه كل ألوان الطبيعة وكل مفاتنها.
وغريب قوله يتلخص بجملة شاعرية متفائلة، أن الخريف يحمل الهدايا والأوصاف, مما يعجز العاشق الإلمام بتعابير عشقه والتصريح بها لعشيقته.
في عبارة منفردة يكتب عن الخريف في المدينة:
إن اكتشافه لتأثير الخريف في جمال المدينة ليس فقط بتغير ألوان أوراق الشجر، ولا لبدء زيادة الرطوبة الناعمة المنبعثة من جريان النهر الهادئ، ولا من تبدُّل أثواب السماء الحريرية أكثر من مرتين أو ثلاثة في اليوم الواحد, ولا من التغيير في مزاج سرائر الناس الواضح بسلوكياتهم العامة، وكذلك ليس من التغيّرالواضح بألوان حجر البيوت، والأسوار والأبنية المتناوبة في المقامات، والمتناوبة أحيانًا والمكتظة أحيانًا أخرى، ثم يتوقف عند اكتشاف سر الجمال في خريفها، فيقول: إنها الأرصفة..!! فكيف اعتمل الجمال في نفس البطل؟ وكيف اكتملت أحداث القصة؟ وما معطياتها التي أجَّجت المشاعر والأحاسيس وتبادلتها معه...؟
أوائل الأزمنة هناك:
والتي عقد معها أواصر الألفة والصداقة، كانت ثلاث سنوات بكامل مواسمها وفصولها، وقد أكملت عدتها وغادرت آخر محطاتها، من هنا هذا الرصيف العتيق بأحجاره المرصوفة في تناوب عجيب غريب، أخذ يقارن
ما بين ازدحام روّاد الرصيف من المارّة في ذهابهم وإيّابهم، وما بين ازدحام هذه الأحجار بجانب بعضها بعضاً.
وقف يتأمّل انسياب أوراق الشجر المتساقطة وتقلبها وانزياحها مع أي نسمة هواء أو حركة أحد المّارة تدفع بها، كم كانت تلك الأحجار خجلى، في تواريها أحياناً خلف كثافة الأوراق وابتسامتها المتفائلة، عندما تتطاير بعيدة عنها بتدرج ألوانها وكأنها ألوان شفق شمس غروب يعاند الرحيل الإجباري، اشتد فيه تكالب العاشقين على طرفي نقيض ترددِ ، في لحظات ذروة اكتمال ملامح جمالِ أخّاذ، من صورة أي حبيب تستعد خيوط الليل لتمحوها شيئاً فشيئاً.
لم يكن وقوفه إلا ليرسم الصورة كاملة ويسجلها في ذاكرته حتى يرجع في مسائه عندما يشعل مدفأة أنينه وآهات وحدته الطويلة المعتادة، ويفرغ على أوراقه محطات قصصه المتتالية، مثل كل خريف مرّ عليه خلال سنواته الجامعية القاسية العجاف.
لم يكن يعلم أن صوته في هذه المرة كان مسموعاً لدى غيره من المارة عندما أخذ يكلم الرصيف وكأنه كائن حي يرافقه ويسجل معه كعادته التي ألفها.
هذه الساعة الفريدة الخالدة من مشاعره المتأججة الزاخرة بشجون عميقة أكثر من سابقاتها.
أراد أن يعتذر من أحدهم... عندما اصطدم وشكَّل له عائقاً في مروره، فقطع عليه ملامح صورة جميلة أخَّاذة كادت أن يكتمل رسمها ووقعها في مخيلته.
كان الصوت أنثوياً يافعًا في حدته, متعجبًا في تساؤله, مستغرباً من وقفته المفاجئة في طريقها.
قال لها بكل سذاجة: كنت ألاحق ورقة جميلة في ألوانها سقطت للتو.
أجابته بعفوية: وهل التقطتها؟
تلعثم في كلامه وشعر بالحرج فلم يجبها, ورجع يتابع الأوراق وهي تفرّ مسرعة إلى حيث تأخذها نسائم الهواء.
تابعته مصرّة على استجوابه بسخرية واضحة: أظنها تلك الورقة المختبئة بين تلك الحجرتين, يبدو عليها الخوف.
- ربما...ولكن الخوف غيّر من لونها الجميل، ربما لم تكن هي.
- أجابته وهي تبتعد عنه وتلوح له بيدها:
- ربما...............
...........................................
قلت لصديقي الكاتب:
هل تمنحني حرية كتابة خاتمتها....؟
لم أحصل منه إلا ّعلى دموع فاضت بسرعة من عينيه, ثم قال لي: إن عمرها سبعة وثلاثون عامًا...!!
...............................................
كتبتُ على لحن ذات الوتر............... :
لا يهم... سوف أقضي وقتاً مفتوحاً هناك, وسوف أعود إلى تلك الأرصفة وبذات التاريخ، ما بين منتصف التشرينين ، سأواكب وقائع الصور الثابتة والمتحركة بحرفيتها, سأعيد إحياءها رغم مرور أكثر من خمس وعشرين سنة......
لا زلت وحيدًا، مثلما كنت وحيداً هناك، تأمَّلت وجهي جيدًا في المرآة، كان اللون الرمادي يتصارع مع الأبيض والأسود بكل جزء منه، وخاصة في شعر لحيتي غير المهذبة, وكذلك في شعر رأسي، حيث تركت لهما حرية النمو قدراً معقولاً... .
خرجت من بهو الفندق في ذروة الأصيل معتدلاً غير متكلفٍ في لباسي. أخذت طريقي إلى حيث احتفال الجمال وتجمعه, كنت أبحث مصرّاً عن تلك التي أخذت من ألوان وملامح أوراق خريفي الهارب، لقد لامست منذ تلك الساعة شغاف قلبي، في حين غفلة، ولم يخبرني عن ذلك غير مدفأة أنيني، حين بدأت أحرف كلماتي تتجمع على أسطر دفتري العتيق.
كنت أنا ونفسي أدخل المنظر شيئاً فشيئاً، رأيت كل الأشياء هناك، فبدأت تتطابق حواف وملامح أطراف كل المؤلفات المتحركة منها والثابتة.
ألفت نفسي مراقباًً وليس عضوًا، كما كنت في سنين الشباب تلك، لقد هربت غريبة وحيدة بكل أحرفها وكلماتها.. هي لم تهرب، هي لا تزال ترافقني ولم تتخلَّ عني، وإنما لمضي كل هذه السنين، أحب أن أصفها بالهاربة.
وضعت يدي على قلبي فشعرت بضرباته النشطة وتأكدت من يقضته، أوغلت الحديث مع نفسي وقلت لها بعفوية:
لا زال شغاف قلبي رقيقاً آحاد العدد، وما قدمت إلى هنا بعد سنين عجاف طويلة إلا ّ لأجعله شفعاً، أو يعود أدراجه ويبقى في أحرفه الوترية المغتربة.!!
بعد تجاوز منتصف أيامي، أخذت رصيف النهر من بدايته، منهياً حالة المراقبة، حاولت حذراً استعادة الصورة المخزّنة كما ولدت يومها، مشيت ومشيت.. كان بضع من الناس يسيرون على عجل، كل الألوان داكنة فقط, امرأة توقفت فجأة وغيَّرت اتجاه سيرها، وعادت من حيث أتت، لمحت بعضاً من ملاح وجهها... .
أعدت محاولتي في يوم ثان وتعمدت الوقوف بذات المكان الغريب عدة مرات, أكملت مسيرتي إلى حيث اتجاه تواري الشفق، ثم عدت إلى المرآة في الفندق وتأكد لي بقاء كل ملامح وجهي القديمة التي أعرفها، والحاضرة بأنينها، وكل في مكانه.
ألقت غمامة عابرة كريمة رشّة من زذاذ مطرها، بعثت رطوبة أثارت أبخرة من الرصيف العتيد، والشجر والأبنية كافية لتسجيل تأثيرها في النفوس، وتأكيدات حلول أيام خريف متفائل مثلي، أصبح الجو نديًّا معتدل الحرارة، تتلاعب في فضاءاته، دفقات هواء وكأنهن يلهون ويلعبن، تطارد بعضهن بعضًا، رغبت بالوقوف متعمدًا؛ لأحظى بصدمات نسائم لذيذة أكثر، غير مكترث بصدمات المارة، كنت محترساً من وقوف امرأة أمامي، وهي تنظر إلى الأرض متسمرة في حيرة واضحة، اقتربت منها وتجاوزتها قليلًا..تأكد لي قسمات ذات وجه المرأة منذ يومين..
سألتها بجرأة غريبة...:
- هل أضعت شيئاً سيدتي..؟
حدَّقت بعينيها فيّ، ثم جالت بها إلى الأرض باستدارة خفيفة يميناً ًوشمالاً, وأجابت بدون تردد..:
أبحث عن ورقة شجر جميلة سقطت للتو، ولعلها ذهبت إلى هناك مع صويحباتها.
فار دمي وأخذ يتدفق بغزارة إلى عيوني وأذني، مع اشتداد ضربات قلبي العجوز ذي الشفاق الرقيق. وعقبت على كلامها بسرعة حادة....
- لعلها تلك سيدتي.. تلك المختبئة بين الحجرتين من طرف الرصيف.
- هل هي خائفة؟ تفحصها جيداً... .
- لا, سيدتي, يبدو لي ليست خائفة هي مستوحشة فقط، تلوذ آمنة؛ لئلا يحطِّمها أحد المارة.
- هل تعرف كم عمر هذه الورقة...؟
لم أستطع تمالك نفسي، ولم أستطع حبس دموعي.
أجبتها بصوت متهدج................
- أكثر من خمسة وعشرين عاماً.........
حكاية الأرصفة القديمة
د. أسعد بن أحمد السعود
قصة عمرها سبعة وثلاثون عاماً، كتبت بتاريخ 19/6/1979 م مذيلة بتوقيع الكاتب.
أنقل عنه القصة بتصرف؛ لأنها لم تُنشَر ولا تزال مخطوطة بقلم كاتبها في كراس قديم جميل بقدمه,
وأقول الصدق: إنني عقدت اتفاقًا شفهياً معه بأن أقرأ عليه ديباجة القصة فقط... وعندما تُنشَر أتلو عليه
القصة كاملة وبصوتي, ليس لضعف في بصره، وإنما لسبب واحد فقط، هو رغبة في نفسه أن يسمع شجن القصة، ولحن النبرات، لتعود به إلى تلك الأيام التي هربت منه، يوم أن كان عمره ثلاثة وعشرين عاماً.
تقول الديباجة:
كان أثناءها في مدينة من مدن بلاد الشام الفريدة بطابعها وتاريخها، يقضي دراسته الجامعية. يكتب عن هذه المدينة جملة من الأوصاف في تعبير شاعري مرهف، ويذهب إلى حد وضعها في فصول السنة، بحالات منفصلة عن بعضها تماماً.
ومما كتبه يقول عنه: إنه إحساس وتعبير شاعري, عايشه بكل ثقة, ويبدأ ذلك بخط يده كالعنوان:...
"يتفجَّر جمال هذه المدينة في فصل الخريف.!!
فالشتاء يتقوقع ويختبئ في أماكن مظلمة قاتمة، حيث يتجمَّد نشاطها وتكاد تتوقف الحياة, حياة كل الكائنات, وتختفي حالة ظهور الألوان، كل الألوان.
وفي الربيع تهرب الحياة من المدينة إلى خارجها، وتصبح مدينة أشباح بكل شيء فيها، يعم التشاؤم والإحباط كل من يتواجد فيها.
وفي الصيف, فيعبر عنه أنه انعدام الحياة إلى درجة موتها, وتصبح المدينة ميتة بكل ما للكلمة من معنى, والخريف عندما يهلُّ عليها فإنه يحمل معه كل ألوان الطبيعة وكل مفاتنها.
وغريب قوله يتلخص بجملة شاعرية متفائلة، أن الخريف يحمل الهدايا والأوصاف, مما يعجز العاشق الإلمام بتعابير عشقه والتصريح بها لعشيقته.
في عبارة منفردة يكتب عن الخريف في المدينة:
إن اكتشافه لتأثير الخريف في جمال المدينة ليس فقط بتغير ألوان أوراق الشجر، ولا لبدء زيادة الرطوبة الناعمة المنبعثة من جريان النهر الهادئ، ولا من تبدُّل أثواب السماء الحريرية أكثر من مرتين أو ثلاثة في اليوم الواحد, ولا من التغيير في مزاج سرائر الناس الواضح بسلوكياتهم العامة، وكذلك ليس من التغيّرالواضح بألوان حجر البيوت، والأسوار والأبنية المتناوبة في المقامات، والمتناوبة أحيانًا والمكتظة أحيانًا أخرى، ثم يتوقف عند اكتشاف سر الجمال في خريفها، فيقول: إنها الأرصفة..!! فكيف اعتمل الجمال في نفس البطل؟ وكيف اكتملت أحداث القصة؟ وما معطياتها التي أجَّجت المشاعر والأحاسيس وتبادلتها معه...؟
أوائل الأزمنة هناك:
والتي عقد معها أواصر الألفة والصداقة، كانت ثلاث سنوات بكامل مواسمها وفصولها، وقد أكملت عدتها وغادرت آخر محطاتها، من هنا هذا الرصيف العتيق بأحجاره المرصوفة في تناوب عجيب غريب، أخذ يقارن
ما بين ازدحام روّاد الرصيف من المارّة في ذهابهم وإيّابهم، وما بين ازدحام هذه الأحجار بجانب بعضها بعضاً.
وقف يتأمّل انسياب أوراق الشجر المتساقطة وتقلبها وانزياحها مع أي نسمة هواء أو حركة أحد المّارة تدفع بها، كم كانت تلك الأحجار خجلى، في تواريها أحياناً خلف كثافة الأوراق وابتسامتها المتفائلة، عندما تتطاير بعيدة عنها بتدرج ألوانها وكأنها ألوان شفق شمس غروب يعاند الرحيل الإجباري، اشتد فيه تكالب العاشقين على طرفي نقيض ترددِ ، في لحظات ذروة اكتمال ملامح جمالِ أخّاذ، من صورة أي حبيب تستعد خيوط الليل لتمحوها شيئاً فشيئاً.
لم يكن وقوفه إلا ليرسم الصورة كاملة ويسجلها في ذاكرته حتى يرجع في مسائه عندما يشعل مدفأة أنينه وآهات وحدته الطويلة المعتادة، ويفرغ على أوراقه محطات قصصه المتتالية، مثل كل خريف مرّ عليه خلال سنواته الجامعية القاسية العجاف.
لم يكن يعلم أن صوته في هذه المرة كان مسموعاً لدى غيره من المارة عندما أخذ يكلم الرصيف وكأنه كائن حي يرافقه ويسجل معه كعادته التي ألفها.
هذه الساعة الفريدة الخالدة من مشاعره المتأججة الزاخرة بشجون عميقة أكثر من سابقاتها.
أراد أن يعتذر من أحدهم... عندما اصطدم وشكَّل له عائقاً في مروره، فقطع عليه ملامح صورة جميلة أخَّاذة كادت أن يكتمل رسمها ووقعها في مخيلته.
كان الصوت أنثوياً يافعًا في حدته, متعجبًا في تساؤله, مستغرباً من وقفته المفاجئة في طريقها.
قال لها بكل سذاجة: كنت ألاحق ورقة جميلة في ألوانها سقطت للتو.
أجابته بعفوية: وهل التقطتها؟
تلعثم في كلامه وشعر بالحرج فلم يجبها, ورجع يتابع الأوراق وهي تفرّ مسرعة إلى حيث تأخذها نسائم الهواء.
تابعته مصرّة على استجوابه بسخرية واضحة: أظنها تلك الورقة المختبئة بين تلك الحجرتين, يبدو عليها الخوف.
- ربما...ولكن الخوف غيّر من لونها الجميل، ربما لم تكن هي.
- أجابته وهي تبتعد عنه وتلوح له بيدها:
- ربما...............
...........................................
قلت لصديقي الكاتب:
هل تمنحني حرية كتابة خاتمتها....؟
لم أحصل منه إلا ّعلى دموع فاضت بسرعة من عينيه, ثم قال لي: إن عمرها سبعة وثلاثون عامًا...!!
...............................................
كتبتُ على لحن ذات الوتر............... :
لا يهم... سوف أقضي وقتاً مفتوحاً هناك, وسوف أعود إلى تلك الأرصفة وبذات التاريخ، ما بين منتصف التشرينين ، سأواكب وقائع الصور الثابتة والمتحركة بحرفيتها, سأعيد إحياءها رغم مرور أكثر من خمس وعشرين سنة......
لا زلت وحيدًا، مثلما كنت وحيداً هناك، تأمَّلت وجهي جيدًا في المرآة، كان اللون الرمادي يتصارع مع الأبيض والأسود بكل جزء منه، وخاصة في شعر لحيتي غير المهذبة, وكذلك في شعر رأسي، حيث تركت لهما حرية النمو قدراً معقولاً... .
خرجت من بهو الفندق في ذروة الأصيل معتدلاً غير متكلفٍ في لباسي. أخذت طريقي إلى حيث احتفال الجمال وتجمعه, كنت أبحث مصرّاً عن تلك التي أخذت من ألوان وملامح أوراق خريفي الهارب، لقد لامست منذ تلك الساعة شغاف قلبي، في حين غفلة، ولم يخبرني عن ذلك غير مدفأة أنيني، حين بدأت أحرف كلماتي تتجمع على أسطر دفتري العتيق.
كنت أنا ونفسي أدخل المنظر شيئاً فشيئاً، رأيت كل الأشياء هناك، فبدأت تتطابق حواف وملامح أطراف كل المؤلفات المتحركة منها والثابتة.
ألفت نفسي مراقباًً وليس عضوًا، كما كنت في سنين الشباب تلك، لقد هربت غريبة وحيدة بكل أحرفها وكلماتها.. هي لم تهرب، هي لا تزال ترافقني ولم تتخلَّ عني، وإنما لمضي كل هذه السنين، أحب أن أصفها بالهاربة.
وضعت يدي على قلبي فشعرت بضرباته النشطة وتأكدت من يقضته، أوغلت الحديث مع نفسي وقلت لها بعفوية:
لا زال شغاف قلبي رقيقاً آحاد العدد، وما قدمت إلى هنا بعد سنين عجاف طويلة إلا ّ لأجعله شفعاً، أو يعود أدراجه ويبقى في أحرفه الوترية المغتربة.!!
بعد تجاوز منتصف أيامي، أخذت رصيف النهر من بدايته، منهياً حالة المراقبة، حاولت حذراً استعادة الصورة المخزّنة كما ولدت يومها، مشيت ومشيت.. كان بضع من الناس يسيرون على عجل، كل الألوان داكنة فقط, امرأة توقفت فجأة وغيَّرت اتجاه سيرها، وعادت من حيث أتت، لمحت بعضاً من ملاح وجهها... .
أعدت محاولتي في يوم ثان وتعمدت الوقوف بذات المكان الغريب عدة مرات, أكملت مسيرتي إلى حيث اتجاه تواري الشفق، ثم عدت إلى المرآة في الفندق وتأكد لي بقاء كل ملامح وجهي القديمة التي أعرفها، والحاضرة بأنينها، وكل في مكانه.
ألقت غمامة عابرة كريمة رشّة من زذاذ مطرها، بعثت رطوبة أثارت أبخرة من الرصيف العتيد، والشجر والأبنية كافية لتسجيل تأثيرها في النفوس، وتأكيدات حلول أيام خريف متفائل مثلي، أصبح الجو نديًّا معتدل الحرارة، تتلاعب في فضاءاته، دفقات هواء وكأنهن يلهون ويلعبن، تطارد بعضهن بعضًا، رغبت بالوقوف متعمدًا؛ لأحظى بصدمات نسائم لذيذة أكثر، غير مكترث بصدمات المارة، كنت محترساً من وقوف امرأة أمامي، وهي تنظر إلى الأرض متسمرة في حيرة واضحة، اقتربت منها وتجاوزتها قليلًا..تأكد لي قسمات ذات وجه المرأة منذ يومين..
سألتها بجرأة غريبة...:
- هل أضعت شيئاً سيدتي..؟
حدَّقت بعينيها فيّ، ثم جالت بها إلى الأرض باستدارة خفيفة يميناً ًوشمالاً, وأجابت بدون تردد..:
أبحث عن ورقة شجر جميلة سقطت للتو، ولعلها ذهبت إلى هناك مع صويحباتها.
فار دمي وأخذ يتدفق بغزارة إلى عيوني وأذني، مع اشتداد ضربات قلبي العجوز ذي الشفاق الرقيق. وعقبت على كلامها بسرعة حادة....
- لعلها تلك سيدتي.. تلك المختبئة بين الحجرتين من طرف الرصيف.
- هل هي خائفة؟ تفحصها جيداً... .
- لا, سيدتي, يبدو لي ليست خائفة هي مستوحشة فقط، تلوذ آمنة؛ لئلا يحطِّمها أحد المارة.
- هل تعرف كم عمر هذه الورقة...؟
لم أستطع تمالك نفسي، ولم أستطع حبس دموعي.
أجبتها بصوت متهدج................
- أكثر من خمسة وعشرين عاماً.........
وسوم: العدد 674