الحجاب والمحبة
من يوميات داريا المحاصرة
كانت "أم حسن" تعتني بحديقتها الصغيرة في ركن الدار عندما سمعت طرقات قوية متلاحقة على باب الدار، فتركت ما في يدها وقامت تفتح الباب، فوجدت "حمدان" ابن الجيران وعدد من رفاقه المجاهدين يحيطون بثلاثة من الصبايا مقيدات بالكلبشات، سألت حمدان عن الصبايا، فأجاب أنهن "شبيحات"، أسرهن المجاهدون بعد معركة طويلة في مواجهة مع الميليشيا التي يقاتلن ضمنها، وأخبرها حمدان أنه يريد الاحتفاظ بهن هنا بضعة أيام ريثما يجري تبادلهن مقابل عدد من الأسيرات في سجون النظام، وطلب من أم حسن العناية بهن ، فطلبت منه فك الكلبشات عنهن، فهؤلاء ولايا ، حرام ربطهن هكذا، على حد تعبيرها، لكنه رفض تحريرهن خشية هروبهن أو ارتكاب عمل ضد أم حسن، وغادر الشباب بينما أخذت أم حسن الصبايا إلى الغرفة الوحيدة التي بقيت من الدار التي تهدمت تحت انفجارات القنابل والبراميل المتفجرة!!
جلس الصبايا في الغرفة، ولاحظت أم حسن عليهن علامات التعب فعبرت عن أسفها وحسرتها على الظروف التي انتهت بهن إلى هذه الحالة، ولم تتوقف أم حسن عن الترحيب بهن كما هي عادتها مع زوارها وضيوفها الأعزاء ناسية أنها تتعامل مع شبيحات، بل رفعت كفيها تضرع إلى السماء أن يفك أسرهن، وكلما وقعت عيناها على الكلبشات بأيدي الصبايا ترقرقت دموعها، وكررت مراراً تعتذر إليهن لأنها لم تستطع رفع الكلبشات عنهن، وترجوهن أن يسامحنها إن قصرت بخدمتهن مذكرة إياهن بالمثل ( العين بصيرة واليد قصيرة ) تعبيراً عن قلة ما لديها من طعام وشراب، وأقسمت عليهن أن يعدن لزيارتها بعد أن تنتهي الأزمة وتنتهي هذه الحرب الكريهة ويعود السلام على الكل، وقامت فأحضرت لهن كوز الماء ليشربن، وبينما هن كذلك لاحظت أم حسن وجود آثار دم على قميص إحداهن ، فأحضرت لها قطعة قماش بللتها بالماء ونظفت الجرح ، ثم نزعت القمطة التي تربط بها شعرها وربطت بها الجرح لتمنع نزفه، وإذا بالشابة ترتبك عندما رأت مساحة فارغة من الشعر في رأس أم حسن، كأنما تذكرت شيئاً، وبينما تربط الجرح لاحظت الشامة الكبيرة على ساعد الصبية، فداهمها إحساس بالدوار ، فقد أعادتها الشامة إلى يوم عاصف من أيام عام ١٩٨٠ عندما أمر "رفعت الأسد" بنزول كتيبة من المظليات لينزعن الحجاب عن نساء الشام نكاية من انتشار الدين الذي يقف سداً منيعاً في وجه مشاريع "حزب البعث" !!
تذكرت أم حسن ذلك اليوم فعاودها الرعب الذي انتابها يومذاك عندما أقدمت هذه اليد صاحبة الشامة فنزعت عنها حجابها وسط الشارع على مرأى من الناس، واشتد الدوار بأم حسن وهي تستعيد تفاصيل ذلك اليوم الأغبر، وزاد من حزنها وألمها أن تجد نفسها اليوم وجهاً لوجه أمام نفس الشابة التي نزعت عنها حجابها جهاراً في وضح النهار على مرأى من الرجال الذين وقفوا بعيداًيشاهدون الحادث دون أن يجرؤ أحد منهم على التدخل خوفاً من العساكر المرافقين للمظليات، ولم تكتف تلك الشابة بنزعرحجابها بل هجمت فلكزتها بالرشاش في خاصرتها وجعلتها تهوي الى الأرض تتلوى من الألم، وانقض عليها بقية المظليات ركلاً وضرباً بأحذيتهن العسكرية الصلبة، تذكرت أم حسن ذلك اليوم الأغبر الذي صحت فيه لتجد نفسها تائهة بين حارات الشام، بعد أن أفقدها الحادث ذاكرتها ، وظلت طوال اليوم تدور من شارع إلى شارع على غير هدى، إلى أن التقى بها أحد المعارف من أهالي داريا، فرافقها حتى أوصلها إلى دارها حيث بقيت شهرين كاملين فاقدة لذاكرتها فلم تعد تعرف احداً من عائلتها!!
مر شريط الذكريات أمام أم حسن فكادت تهوي الى الارض لولا أن صاحبة الشامة التي كانت قربها انتبهت لها فأمسكت بها وأجلستها، وهي تقول :
- ارتاحي يا خالة ، هذا أمر طبيعي يحصل للكثيرين عند مشاهدة الدم، فلا تخافي!!
ردت ام حسن :
- ليت الأمر كذلك يا بنتي
- إذن ما الأمر يا خالة ؟! خير؟ هل تشتكين من مرض؟!
لم تجب أم حسن بل سألتها :
- أحسب أنني رأيتك يا ابنتي قبل الآن ؟!
فلاحت الدهشة على الصبية وعادت تتفرس في وجه أم حسن وتتفرس بالفراغ في رأسها وقد تذكرت ذلك اليوم ، وبعد تردد عادت تقول :
- أجل، أجل، تذكرتك يا خالة،
وانحنت تريد تقبيل يدها وهي تقول :
- سامحيني ، من شان الله سامحيني، والله كان غصباً عنا، إنها الأوامر العسكرية كما تعلمين !
وأرادت أن تكفّر عن فعلتها فعادت تسحب يد أم حسن لتقبلها، لكن أم حسن أخفت يدها خلف ظهرها، ونظرت إلى الصبية بحنان، وهمست بصوت حنون :
- لا بأس يا ابنتي، لا تشغلي بالك ، كلنا وقع علينا الظلم،
واستعادت أم حسن توازنها، فقامت إلى حديقتها الصغيرة فجمعت حبات من الباذنجان والبندورة، وعادت إلى الكانون فأضرمت فيه النار وطبخت طعاماً للصبايا، وحملت القدر إليهن بما فيه من طعام فوضعته بين أيديهن، وغادرت الغرفة برهة ثم عادت تحمل كسرات من الخبز، واعتذرت في خجل :
- سامحوني ، والله ما عندنا غير هذا ( وترقرقت الدموع في عينيها قبل أن تضيف ) هذا الحصار الظالم لم يترك لنا شيئاً ، سامحوني
قالت صاحبة الشامة :
- سوف نسامحك خالتي ، إذا سمحت لي أن أقبل يدك الطاهرة
فأعادت أم حسن :
- يا بنتي ، والله سامحتك ، لا تشغلي بالك !!
قالت الصبية :
- إذن اجلسي كلي معنا حتى أحس أنك بالفعل سامحتني
ردت أم حسن وهي تجلس جانباً :
- كلوا يا بنات ، صحتين وهنا، أنا صايمة اليوم
رددت الصبايا معاً :
- الله يتقبل
قالت أم حسن :
- آمين، ونسأله تعالى أن ينهي هذه الأزمة ويعود السلام والمحبة إلى بلدنا
رددن معاً :
- آمين
وتحلقن حول الطعام وحجبنه عن أم حسن احتراماً لصومها
وبينما هنّ منهمكات في الأكل سمعن ضربات قوية على الباب، فقامت أم حسن تفتح الباب، لكنها قبل أن تصل إلى الباب فوجئت به يفتح بعنف على مصراعيه، واندفع منه عدد من المسلحين وهم يصرخون :
- وين البنات ؟!
سيطر عليها الرعب من السؤال الغاضب فالت بصوت متهدّج :
- موجودات، في الحفظ والصون
فرماها كبيرهم بنظرة تقدح شرراً، وصرخ فيها :
- لا أريد علك ، وكلام فاضي دلينا وين البنات ؟!!!
أدركت أم حسن أن أمر البنات قد انكشف، وما عليها إلا مسايرة المسلحين، لكنها لشدة الخوف الذي ملأ قلبها لاذت بالجدار وأشارت إلى الغرفة التي فيها البنات، فأسرع أحدهم الى حيث أشارت، وغاب في الغرفة برهة ثم خرج برفقة البنات، وعندما رأهنّ الكبير مكبلات أطلق سيلاً من الشتائم البذيئة، وأشار إلى أم حسن وسأل البنات بنبرة محملة بالتهديد والوعيد ويشير :
- خبروني، هل أساءت لكم عجوز الجن هذه ؟!!
فردت البنات معاً:
- لا، أبداً،، لقد عاملتنا الحاجة بكل أدب
فصرخ الكبير :
- أدب !!؟ وهل يعرف هؤلاء الكلاب ما هو الأدب
فعادت تجادله :
- لا، يا سيدي، لا تقل هذا عن الخالة أم حسن، فوالله ما وجدنا منها إلا كل خير !!
فنهرها مستشاطاً :
- أنت اخرسي، ألا ترين ما فعلت بك هذه الإرهابية وجماعتها ...
فقاطعته :
- إرهابية ! مستحيل !! لقد كانت معنا في غاية الأدب واللطف وعاملتنا أحسن معاملة !!
فزعق فيها بغضب :
- تقولين أحسن معاملة !! الآن ترين المعاملة الحسنة التي يستحقها هؤلاء الإرهابيون !
ووجه فوهة بندقيته نحو أم حسن المستندة إلى الجدار، وهيأ الرصاصة في بيت النار، فسارعت الصبية نحو أم حسن لتحجزها عنه وتمنعه من إطلاق النار، لكن غضبه كان الأسرع فانطلقت الرصاصة ووقعت في صدر الصبية وأردتها بلا حراك.
فانكبت أم حسن فوقها وضمتها إلى صدرها وهي تجهش بالبكاء وتردد :
- والله سامحتك، لا تروحي ! من شان الله لا تروحي ...
ومسحت دموعها وسددت نظراتها إلى الكبير الذي وقف ذاهلاً من المشهد وأضافت :
- نزعتم حجابي لكن لن تنزعي المحبة من قلبي!!!
وسوم: العدد 675