الْكِيسُ
لمّا كان قُرْصُ الشمسِ الأُرْجُوانِيُّ يُلامِسُ مِيَاهَ البحرِ،ويَبْدُو لِلْعيْنِ كَقُرصٍ منَ العسَلِ في صَحْنٍ أَزْرَقَ عظيمٍ،كانَ سَلْمَانُ الصّيّادُ يُدِيرُ بَكَرَةَ خَيْطِ قصَبَتِهِ بِخِفَّةٍ ورَشَاقةٍ، سَاحِبًا ما تَدَلّى مِنَ الخَيْطِ في المِيَاهِ الزّرْقاءِ الْمُوَشّاةِ بِرَغْوَةٍ بَيْضَاءَ، وهُوَ يقولُ لِنفسِهِ: " اَلْواضِحُ أَنَّ المِياهَ باردةٌ جِدًّا، لهذا تَفْقِدُ الأسْماكُ شَهِيَّتَهَا.." ثُمَّ الْتَفَتَ إلى ابْنِهِ الّذِي كان مُمْسِكًا بِقَصَبَتِهِ عَلى جُرْفٍ قَريبٍ:"وَدِيعُ..وَدِيع..!" تَمَاوَجَ نِدَاءُ سَلْمَانَ وَهَدِيرَ الأمْوَاجِ، وَلَمْ يَصِلْ إلَى طَبْلَةِ أُذْنِ وَدِيعٍ إلّا بَعْدَ أنْ صَاحَ ثانِيَةً :" وَديعُ.. يَا وَديعُ.. يَا وَلَدُ..!" اِنْتَبَهَ الولَدُ أخِيرًا إلى مَصْدَرِ الصَّوْتِ، دُونَ أنْ يَتَبَيَّنَ جَيِّدًا مَلامِحَ وَجْهِ أَبِيهِ في الضّوْءِ الذِي بَدَأَ يَشِحُّ نِهايَةَ ذلك النّهَارِ، وسَمِعَهُ يقولُ وهوَ يُسْنِدُ القَصَبَةَ الطويلةَ إلى ظَهْرِ صَخْرَةٍ:
"كَفَى يَا وَديع..اِجْمَعْ قَصَبَتَكَ..فَقَدْ حَلَّ اللّيْلُ.."
لَحْظَةً يا أبي أَرْجُوكَ..إِنّهَا تَهْتَزُّ..نَقَرَاتُ سمكةٍ كبيرةٍ لَا شَكَّ..
مَا عِيَارُ الرَّصَاصَةِ الّتي رَمَيْتَهَا معَ الطعْمِ ؟
عِيَارُ أرْبَعِينَ غْرامًا..
يا إلَهِي..! هَذَا العِيَارُ لَا يَلِيقُ عِنْدَ الصّيْدِ في الأحْوَاضِ القَرِيبَةِ..
لَكِنْ..
اِسْحَبِ الْخَيْطَ يا بُنَي..فَمَا النّقراتُ التي تَهُزُّ قصبتَك سوى حَركةِ الرصاصةِ مع المياهِ..
" لَسْتُ مَحْظوظًا اليومَ أَيضًا..اللّعْنَة.." يقولُ وَديع في نفسِه مُتَذَمِّرًا.
"ضَعْ مَتَاعَنَا في السِّلَالِ، رَيْثَمَا أُنَظِّفُ هَذِه السّمَكاتِ"..يقولُ أَبُوهُ، حامِلًا وِعَاءً فِيهِ بِضْعُ سمكاتٍ صَيْدِ ذلك اليومِ.."واجْمَعْ بَقَايَا طَعَامِنَا مِنْ عُلَبِ مُصَبَّراتٍ ومَشرُوباتٍ في كِيسٍ.." وَاسْتَدْرَكَ: "وَلَا تَنْسَ أنْ تَحْمِلَهُ معكَ إلى البيتِ لِجَمْعِهِ معَ القُمَامَةِ..أَسَمِعْتَ ؟؟".
لَمْ يَقُلْ وَديعُ شيئًا، لكنّهُ انْحَنَى يَلْتَقِطُ الصَّنَانِيرَ المُبَعْثَرَةَ هُنَا وهُناكَ، ويَغْرِزُها في قِطْعةِ فِلِّينٍ، ثمّ عَمَدَ إلى لَفِّ الخُيوطِ المَنْفوشَةِ حوْلَ البَكَراتِ في سُرعةٍ، ولَمْلَمَ ما تَبَقَّى منَ الرصاصِ المُختلِفِ الأحْجامِ، وحَشَرَ الكُلَّ في سَلَّةِ أبيهِ. وغَيْرَ بَعيدٍ، عَثَرَ عَلَى بَقَايَا سَرْدِيٍن و دِيدَانٍ كَانَا يَسْتَعْمِلانِهَا طُعْمًا لِلأسماكِ، فَهَمَّ بِإلْقائِهَا في البحرِ، ثمّ عَدَلَ عنْ ذلكَ، وصَاحَ بِصَوْتٍ عَالٍ يُخاطِبُ الأسماكَ : " لَنْ أُكَافِئَكِ بِهذا مَجَّانًا أيّتُها الأسماكُ الذَّكِيّةُ..!!! اَلنَّوَارِسُ مَنْ يَسْتَحِقُّه..." وَأَفْرَغَ ما في يَدَيْهِ عَلَى جُرْفٍ، وَأَخَذَ كِيسَ الْقُمَامةِ، وتَوَجَّهَ بِهِ إلى البحْرِ، وقالَ سَاخِرًا: " أَطِلِّي أَيَّتُهَا الأسماكُ لِتَرَيْ بِعُيُونِكِ الجَمِيلَة.. إلَيْكِ هَذِه....هَاهَاهَا..!! " وفَرْقَعَ قَهْقهَةً في الفَضاءِ ثمّ طَوَّحَ بِالْكِيسِ، فَتَنَاثَرَ مَا فِيهِ في الهواءِ، قَبلَ أنْ يَهوِيَ في الأمواجِ الهادِرَة.
أَلْقَى نَظْرَةً سَريعةً نَحْوَ أبيهِ الذي لَازَالَ مُنْكَبًّا على سَمَكاتهِ، يَكْشِطُ حَرَاشِيفَهَا بِسِكِّينِهِ ويَقْتَلِعُ أحْشَاءَهَا، فَاطْمَأَنَّ إلى أنه لمْ يَلْحَظْ شيئا مِنْ فِعْلَتِهِ الطّائِشَةِ، كَمَا لَمْ يَلْحَظْهَا في مَرّاتٍ سابِقةٍ. كَانَ قَدْ وَضَعَ السِّلَالَ بِجَانِبِ بَعْضِها لَمَّا عَادَ أبُوهُ وقالَ لَهُ: " هَيَّا بِنَا..! " ، وَمَاهِيَ إلّا لَحَظَاتٌ، حَتّى انْطَلَقَا عَائِدَيْنِ، ومَع حُلولِ بَوَاكِرِ الظّلَامِ، لَمْ يَعُدْ يُرَى مِنْهُما سِوَى شَبَحَيْنِ، يَصْعَدَانِ أَوْ يَنْزِلَانِ، يَلْتَصِقَانِ أَوْ يَفْتَرِقَان..
فِي تِلْكَ اللّيْلَةِ، شَعرَ وَدِيعُ بِتَعَبٍ شَدِيدٍ، وَكَأَنَّ دِماغَهُ اسْتَحَالَ مَاءً، مَا جَعَلَ رَأْسَه يَنْخَضُّ مِنَ الداخِلِ كَبَيْضَةٍ فَاسِدةٍ..ذَهبَ لِيَنامَ مُبَكِّرًا دُونَ أنْ يَتناوَلَ شيئًا، وحِينَ انْزَلَقَ تحْت الغِطاءِ، تَخَدَّرَ جِسمُهُ سَريعًا..ونَامَ..
اَلنّهَارُ صَافٍ وشَفِيفٌ، كَمَاءٍ زُلَالٍ في كُؤوسٍ مِنْ بِلَّوْرٍ. خَرجَ ودِيع مع أبيه كَعَادَتِهِمَا، لِيَوْمِ صَيْدٍ جَديدٍ، حامِلَيْنِ معهما قصَبَتَيْهِمَا وَكُلَّ ما يَلْزَمُ مِنْ أَمْتِعَةٍ وطعامٍ.اِسْتَغْرَبَ وديعٌ أَنْ رَأى الطريقَ التي يَسْلُكانِها اليومَ لَمْ تَعُدْ كَمَا تَرَكَاهَا أَمْسِ،إنّها اليومَ مَفْروشَةٌ بِنُفايَاتٍ غَريبَةِ الْمَصْدَرِ، كَريهَةِ الرّائِحَةِ، عَجيبةِ الأشْكالِ والْألْوَانِ، وَيَبْدُو أنَّ أقْدامًا كثيرةً مَرّتْ مِنْ هناك قَبْلَهُمَا، وأَلْصَقَتِ القاذوراتِ الْبَلِيلَةَ بالأرض. اِنْزلَقَتْ قَدَمَا وَدِيعٍ فَوَقَعَ مُنْبَطِحًا، قَامَ بِسُرعةٍ وَانْقَضَّ على مَلابِسِ أبيه يَتَمَسَّكُ بِها كَيْ لَا يَقَعَ مِنْ جَديدٍ، تَرَكَ قَصَبَتَهُ تَغُوصُ في الْوَحْلِ، و صَرَخَ فِي هَلَعٍ: " أبِي..أبِي..خُذْ بِيَدِي..!" أبوه لمْ يَلتَفِتْ إليهِ، بَلْ كان يَخْطُو في ثَبَاتٍ إلى الأمَامِ، كأنّهُ تِمْثالٌ بْرُونْزِيٌّ عِمْلاقٌ تُحَرِّكُهُ قُوَّةٌ خَارِقَةٌ خَفِيَّةٌ.
طَالَ بِهمَا المَسِيرُ، وكان وَديعٌ يَتَعَثّرُ بَعْدَ كُلِّ خُطْوتَيْنِ، سَرَى تَعَبٌ رَهِيبٌ في كُلِّ جِسمِه، اِلْتَفَتَ وَرَاءَهُ، أَبْصَرَ بُيوتَ القرْيَةِ في مكانِها، وكَأنّهُمَا لَمْ يَتَقَدَّمَا إلّا شِبْرًا. أَخَذَ الْعَرَقُ يَتَصَبَّبُ غَزِيرًا مِنْ جَبِينِهِ، وأَحَسَّ بِضَرَبَاتِ قَلْبِهِ تَتَسَارَعُ، وبِتَنَفُّسِهِ يَضِيقُ، وبِقَبْضَتِهِ الْمَقْفُولَةِ عَلَى ثَوْبِ أَبِيهِ تَهِنُ وتَتَرَاخَى شيئًا فَشَيْئًا.." يَا إِلَهِي.. لِماذا يَحْدُثُ لِي هَذَا..؟؟" ثُمَّ أَطْلَقَ لِحنْجَرَتِهِ الْعِنِانَ بِالصُّراخِ:" أَبِي ..أبِي..!" لَمْ يَسْمَعْ سِوَى الصَّدَى يُرَدِّدُ:" أبي..أبي..أبي..!"..
فَجْأَةً، أَطَلَّا على المياهِ الزرْقاءِ لِلْبَحْر.اِرْتَاعَ وديع لِلصَّمْتِ الغَرِيبِ الذي رَانَ على المكان.. ماءٌ أزرقُ دَاكِنٌ كَالمِدَادِ، هَامِدٌ بِلَا مَوْجٍ، وَلا زَبَدٍ، ولا طيورَ في سمائه. اِنْقَلَبَ على عَقِبَيْهِ لِيَرْجِعَ الْقَهْقَرَى، ومَا كادَ يَخْطُو خُطْوَتيْنِ حَتَّى انْقَضَّتْ على رَقَبَتِهِ يَدٌ ثَقِيلَةٌ بَارِدَةٌ كالحَدِيدِ، فَصَاحَ في رُعْبٍ: " أبِي..أَرْجُوك..دَعْنِي أَعُود.." ،ولَمْ يَنْتَبِهْ إلّا وهُمَا على شَطِّ البحر.
صَفٌّ طويلٌ مِن رِجالٍ جَاثِينَ على رُكَبِهِمْ، على خَطِّ تَمَاسِ المياهِ المِداديّةِ والرَّمْلِ، يَسْتَقْبِلُونَ البحرَ. زَالَ خَوفُ وَديعٍ وهو يَرَى أَبَاهُ يَجْلِسُ إِلَى جَانِبِهمْ، مُتَّخِذًا نَفْسَ جَلْسَتِهِم.
تَحَرَّكَ وَدِيعٌ لِيَسْتَطْلِعَ كُنْهَ هَذا المَشْهَدِ الْغَرِيبِ، وعندما تَقَدَّمَ قَليلاً، اسْتَدَارَتْ إليْهِ الوُجُوهُ في حَرَكَةٍ الِيَّةٍ وَاحدةٍ، صَاحَبَتْهَا رِيحٌ لَها صَرِيرٌ مِثْلُ صَرِيرِ بَابٍ لَمْ يُفْتَحْ مُنذُ قَرْنٍ، فَذُهِلَ لِمَلَامِحِهَا الْغَامِضَةِ.. وُجُوهٌ بِلَا عُيُونٍ ولا أُنُوفٍ ولا اذَانٍ، سِوَى أَفْوَاهٍ فَاغِرَةٍ بِاتِّسَاعٍ كَأَنَّهَا عَطْشَى.. أَجْسَادٌ بِلَا أَذْرُعٍ ولا أَيْدٍ، كَتَمَاثِيلَ غَيْرِ مُكْتَمِلَةٍ قُدَّتْ مِنْ حَجَرٍ،ولِأَنَّ الشمسَ في كَبِدِ السماءِ، فَلَيْسَ لهذه الأجسادِ ظِلالٌ أَيْضًا. لَا يَدْرِي وديع كيف تَعَرَّفَ عَلَى أَصْحَابِ الوُجُوهِ بِالرَّغْمِ مِنَ التَّشَابُهِ و الْغُمُوضِ الذي يَكْتَنِفُ مَلَامِحَهَا. إِنَّهُمْ أَهْلُ قَرْيَتِهِ، لَقَدْ عَرَفَهُمْ وَاحِدًا واحِدًا.. أبُوهُ أيْضًا صَارَ مِثْلَهُمْ، بِلَا عَيْنَيْنِ ولا ذِرَاعَيْنِ.. فَمُهُ مَفْتوحٌ وكبيرٌ، كأنه يَنْتَظِرُ مَنْ يَدْلِقُ فيه جُرْعَةَ ماءٍ.
بَغْتَةً، انْبَثَقَتْ رُؤوسٌ ادَمِيَّةٌ كثيرةٌ مِن المياهِ الرَّاكِدةِ، وتَشَكَّلَتْ حَوْلَ كُلِّ رَأْسٍ دَوائِرُ مُتَمَاوِجَةٌ على صَفْحةِ الماءِ، سُرْعَانَ ما بَرَزَ مِنْ بَيْنِها وَجْهٌ كَبِيرٌ بِلِحْيَةٍ بَيْضَاءَ طويلةٍ تَقْطُرُ ماءً، وصَاحَ بِصَوتٍ اهْتَزَّتْ لِنَبْرَتِهِ تِلْكَ الْأَرْجَاءُ:" هَيّا..! " ولَوَّحَ لِلرُّؤوسِ الطّافِيَةِ على سَطْحِ المياهِ بِكَفٍّ كبيرةٍ بِلا ذِراعٍ، مِثْلِ زِعْنِفَةِ سَمكةٍ عظيمةٍ، فَتَحَرَّكَ الجَمِيعُ دَفْعَةً واحدةً كَجَيْشٍ عَرَمْرَمٍ يَتقدَّمُ إلى مَعْركةٍ. إنّها أسْماكٌ عَظِيمةٌ بِرُؤوسٍ بَشَرِيَّةٍ، عَدَدُها بِعَدَدِ الرِّجالِ الجَاثِمِينَ فَاغِرِي الْأَفْوَاهِ، وَحْدَهُ ذُو اللِّحْيةِ البيضاءِ وَسَطَ الماءِ يُرَاقِبُ الوَضْعَ في ثِقَةٍ وثَبَاتٍ.كان وَديعٌ يَتَأَمَّلُ المَشهَدَ وقدْ فَقدَ كُلَّ الأحاسِيسِ، لَايَدْرِي أَهُوَ خَائِفٌ أَمْ مُطْمَئِنٌّ؟؟ أَرَاضٍ أَمْ مَشْدُوهٌ؟؟
شَرَعَتِ الْأسماكُ الْعظِيمَةُ تَغْرِفُ الماءَ مِنَ الْبَحرِ بِمَغَارِفَ مَعْدِنِيَّةٍ كبيرةٍ، وتَرْفعُها إلى الْأفْوَاهِ الْفَاغِرَةِ لِلرِّجالِ الْجَاثِينَ، تَصُبُّ.. وَتَصُبُّ...أَخَذَتِ الْأجْسادُ تَهْتَزُّ كَمَرَاجِلَ تَغْلِي على النَّارِ، وبَدَأَ يَصْدُرُ مِنْها أَزِيزٌ كَأَزِيزِ صَرَّارٍ في الْأيّامِ الْقائِظَةِ، صَارَ نَشِيجًا، ثُمّ تَحَوَّلَ إلى عَويلٍ رَهيبٍ. جَفَل وديع مِن مَكانِهِ، لَكَأنّ الْخَدَرَ قَدْ زَايَلَهُ، وهَرَعَ نَحْوَ أبِيهِ صارِخًا:" أَبِي..!أبِي..!". فَجْأةً تَلَقَّفَهُ ذُو اللِّحْيَةِ البيضاءِ بِزِعْنِفَتَيْهِ العَظِيمَتيْنِ، واحْتَضَنَهُ على صَدْرِهِ اللَّزِجِ، وضَرَبَ بِذَيْلِهِ الماءَ عَائِدًا بِهِ إلى حَيْثُ كانَ. كَادَ عَقْلُ وديعٍ يَطِيرُ مِنَ الخَوْفِ، وهو يَسْمَعُهُ يُنَادي الأسْماكَ الأُخْرَى: "كَفَى..كَفَى..!..تَعَالَوْا..حَالاً.." رَدَّدَ الجَميعُ: " أَجَلْ أيها الْحَكِيم..".
كَانَ وَدِيعٌ يَرْتَجِفُ، وَيَنْزَلِقُ على الصَّدْرِ الْأَمْلَسِ واللَّزِجِ لِحَكِيمِ الأسماكِ، الذي لَا يَكُفُّ عَنْ ضَمِّهِ إليْه كُلّمَا أَوْشَكَ أَنْ يَنْفَلِتَ مِنْ بَيْنِ زِعْنِفَتَيْهِ. قالَ الحَكِيمُ مُخَاطِبًا الْأسماكَ وهو يُشِيرُ إلى الْوَلَدِ :" أَرَأَيْتُمْ..؟..إِنّه هُوَ.. أَلَيْسَ كَذلِكَ..؟؟ " أَجَابَ الجميعُ في صَوْتٍ واحدٍ: " بَلَى.. بَلَى.. أيُّهَا الحَكِيم..". قَالَ الحكيمُ بِصوتٍ امِرٍ:" أَحْضِرُوا الْوِسَامَ..!" . اِلْتَفَتَ الْحكيمُ إلى وديعٍ الذي لَمْ يَفْقَهْ شَيْئًا مِمَّا يَجْري، وهَمَسَ له:" نُرِيدُ أنْ نُكَافِئَكَ أيُّها الولدُ الذَّكِيُّ.."، ولَمْ يَكَدْ يُنْهِي كَلَامَهُ حَتّى ظَهَرَتْ سَمكةٌ ضخمةٌ تَحْمِلُ على ظَهْرِهَا قُرْصًا مَعْدِنِيًّا كبيرًا بِحَجْمِ مائدةٍ، يَلْمَعُ في ضوْءِ الشمسِ، وقَبْلَ أنْ يَفُوهَ وديعٌ بِكلمةٍ، قال له الحكيمُ في مَرَحٍ:" إنّهُ وِسَامٌ صَنَعْنَاهُ لَكَ.. هَدِيّةً مُتَوَاضِعَةً من الأسماكِ التي طَالَمَا أَحْسَنْتَ إليها..مَعْدِنُهُ ليسَ نَفِيسًا جِدًّا..إنه مِمَّا يَصِلُنَا مِنَ الْبَرِّ..أَوْ مَا تُسَمُّونَه أنتمْ أَهْلَ البرِّ بِالنُّفَاياتِ.."
في تلك الأثْناءِ، ودُونَ أنْ يَحْفَلَ أَحَدٌ بِالدُّوَارِ الذي أصَابَ وَدِيعًا، وُضِعَ الطَّوْقُ الذي يَحْمِلُ الْقُرْصَ الْمَعْدِنِيَّ حَوْلَ عُنُقِ الْوَلَدِ بِإحْكامٍ. نَظَرَتْ سمكةٌ صغيرةٌ إلى وديعٍ في إِشْفَاقٍ، وهَمَسَتْ لِنَفسِها في أسًى:" لَيْتَ الْوِسَامَ مِنْ خَشَبٍ..!".
سَأَلَ الحكيمُ الولدَ في تَهَكُّمٍ ظَاهِرٍ:" أَتُحْسِنُ السِّبَاحةَ أيُّها البَطَلُ ؟!" رَدَّ وديعٌ مُرْتَجِفًا:
" نَعَمْ..بَلْ..لَا..لَا..! " لَمْ يَكْتَرِثِ الحَكِيمُ لِتَوَسُّلَاتِه، وإِنّمَا غَاصَ بِجِسْمِه في الماءِ تَارِكًا وَديعًايَتخَبَّطُ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، مُحَاوِلًا بِكُلِّ قُوَاهُ أَنْ يُبْقِيَ جِسْمَهُ طَافِيًا أَعْلَى، وهو يَصيحُ: " اَلنَّجْدَةاااااااااا...اَلنَّجْدَةاااااااااا.."، أَلْقَى نَظْرَةً خَاطِفَةً إلى حَيْثُ كَانَ أبُوهُ وأَهْلُ قَرْيَتِه جَاثِمِينَ، عَسَى أَنْ يَهُبُّواْ لِإِنْقَاذِهِ مِنْ هَلَاكٍ مَحْتُومٍ، لَكِنْ لَا أَحَدَ لَبَّى لَهُ النِّدَاءَ، إِذْ لَمْ يُبْصِرْ هُناكَ أَحَدًا أَصْلًا. صَرَخَ وَدِيعٌ صَرْخَةَ الْيَأْسِ وهو يَشْعُرُ بِثِقْلِ (الْوِسَامِ الْمَلْعُونِ) يَهْوِي بِهِ شَيْئًا فَشيئًا إلى الْقَرَارِ. كَادَتْ تَفِيضُ رُوحُهُ، لَوْلَا أنْ سَمِعَ طَرَقَاتٍ على بَابِ غُرْفةِ نَوْمِهِ. كانتْ تلكَ طَرَقَاتِ أبيهِ، جَاءَ يُوقِظُهُ لِيَوْمِ صَيْدٍ جَدِيدٍ :" أَيْ بُنَيَّ...قُمْ..فَقَدْ طَلعَ النَّهَارُ..!"، فَتَحَ وديعٌ عَيْنَيْهِ فَزِعًا، وَجَسَدُهُ مَغْسُولٌ بِالعَرَقِ، وقال في صوْتٍ مَبْحُوحٍ دُونَ أنْ يَقُومَ مِنْ سَرِيرِهِ:" اِذْهَبْ وَحْدَكَ اليَوْمَ يَا أبِي..أنَا مُرْهَقٌ جِدًّا.." واسْتَدْرَكَ :" ولا تَنْسَ أنْ تَحْمِلَ مَعَكَ كِيسَ الأزبَالِ وأنْتَ عائِدٌ إلى البيتِ..!".
انتهت
وسوم: العدد 676