إجترار

عصام الدين محمد أحمد

يساوم بائع الصور ،ينتخب صورتين ، أتأمل اللوحة الأولى ؛ وجه طفل كابى ،أنسال سترة ، أنكسار خطين منهمرين من الدمع ، شعر معفر، فم متشقق ، بكارة تجاعيد فحمية ، يئد التفرس قائلا:

-          أتذكر القرية ؟

يدبق التذكر حلقومى :

-          جسر القرية يفصم مخيلتى .

أهينم مفتونا مبهوتا :

{ يغازل الفأر ماجور الفخار الملقى أسفل الزير ، يترقب هطول ماء الثقب ،تنشرخ مؤخرة الزير ، تصلب الأسمنت لا يفيد الرتق ، ينهد الفأر مجونا ، يعب بحيرة القاع ، تشمخ الأشباح ، تهرب الحركة جفوة ، أنعقد ضوء اللمبة الصاروخ ، عهد الأحتراق ، ذبل العويل ، غرق فى قاع الأرمدة ، يقعى شبح العفريت مطرحه ، أضمحل ، يغشانى النوم المتقلقل .}

يتملظ حكمة اللحظة :

-          الأيام هى الأيام .

يطنب قا د حا أوتار السيرة :

-          صعدنا القطار الحديدى ، تعبرنا المحطات الغفيرة .

أتجرع رشفات الشاى الدافئة ، أستنهض الحكى :

-          بعنا (المعزة ) ، أبتعنا تذكرتين درجة ثالثة ، ستك ( حميدية ) تغادر القبة مودعة ، ترفس كراكيب التعثر .

يرجم الغيب ، يعلق محللا :

-       يقبع أسفل قبوتها التاريخ ، تحوى صحارتها كل الأوراق ؛ خرقة بكارتها ، وثيقة زواجها المصفرة ، صرة النظل ، لفة الحناء ، حبات القرظ ، هلاهيل أنوثتها الغاربة .

ينتفض نافضا الجمرات المتناثرة ، تتناوب أكواب الشاى المتدثرة بخارا ، تخفت نبراته :

-          هى الوحيدة الرافضة سفرنا .

أحاوره منتشيا بالتذكر :

-          لكن أبيك أصر على هجرتنا تشبثا بوفرة الرزق .

يمضغ الكلمات ، يسترجع مشهدا :

( يخترق القطار ستر المجهول ، يتخبطنا غدر الفلنكات ، غادرنا الرصيف التائه الصاخب ، أستقبلنا (صلاح ) خبير حياة القاهرة )

أمخض الأيام :

( تبعناه كالأنعام إلى الحلمية ، أستأجرونا عربة فاكهة ، صقيع الليل لا يرحم ، أمسى الرصيف ثلاجة ، لم يف هامش الربح الأجرة ، رحلنا إلى سوق روض الفرج بحثا عن الفرج .)

يضيف متهكما :

-          ظننت إنه كسوق الأربعاء بالقرية .

أقاطعه عاقدا المقارنة :

-       قرمة وحمال عمك حنا الجزار ، صفيحة ملوحة عمك زكى العتيقة ، مقلاة طعمية خالك محمود ورقعة المهن القذية ، أجولة الغلال والماكييل المضفرة بالصاج المزخرف ، البقر المستكين المترقب أيادى العسس ، أعواد قصب السكر المتشققة سوسا ، أقفاص الطماطم المعطوبة ، بائع العنادى والكستور ، بهلوان العسلية وغزل البنات ، حلاق الحمير .

-          أهذه الأشياء تشبه سوق روض الفرج ؟

يجيب مستأنفا المقارنة :

-       خيال ساذج ؛ زحام المحشر، تتداخل العربات المحملة أطنان الفاكهة والخضروات ، تتعانق تلال القمامة وجموع الشيالين ، لا تنفض المزادات ، أجران المعروضات لا تنضب ، الحركة دؤوبة ليلا ونهارا ،نساء كالرجال ، ورجال كالنساء ، هرج ، مرج ، تناطح ، تآزر ، استهلكن العمل عند سيد العمدة .

أتمثل التدبر :

-          ألم أنصح : لا نعبر جسر القرية ؟

-          أرادنا أبوك شبحين !

أستنفر غلالة السكوت :

-       غريب أمر المدينة / المأوى هذه ! سيارة كبيرة مكتظة بأعناق لولبية ، تتشبث أيادى كثة الشعور بالسقف الزلق ، تتمايل الجيد ، تتنافر ، تتجاذب ، يزملهم الصاج العملاق .

نفد صبر بائع اللوحات ، اسكنت أرتياعه منزل الكسب ، أعجبتنى لوحة ثانية ، أراقب أبجدياتها ؛ نمر منقط ، عنقود عنب ، ثمرة تفاح مشطورة ، زجاجة نبيذ دائرية ، قنينة عطر هرمية ، وجه أنثوى طافح جمالا ، قرص الشمس الشاحب ، زرقة وصفرة مزرودة يتخللان النثار ، أبتهج متفلسفا :

-          ما أجمل الصور !

يثمن البائع سلعته :

-          بعشرة جنيهات الصورة .

أضحك لاحدا مرارة السخرية :

-          ما أضطررنا إلى لحس السخام !

أستدرك :

-          قد يكون كلامك صائبا !

أصمت مفكرا مزمجرا فى خفر :

-          ولكن أين العشرة جنيهات وقتها ؟

يهجرنا البائع ، مازالت فى الأكواب بقية ،ألف الصورتين بأوراق الصحف ، يتنحنح ، تشرد نظراته :

{ يثور العمال ، يتخبطهم الشيطان ، أختبأ بالمحصول الوفير ، أجتث أوراق النقد الجديدة ، أعلن فى تحد :

-          من رغب عنا فليس منا .

أقر منتفخا :

-          السوق مزدحم بالعاطلين . }

-       أستلهم المناجاة ، أرفض ـ فى سريرتى ـ المثول تحت أمرته ، ألتمس جسر القرية ، تنتصب المشانق على ضفتيه ، تتدلى الأعناق فاغرة الفيه ، لا أحد بالقرية سوى العجائز .    

وسوم: العدد 679