إجترار
يساوم بائع الصور ،ينتخب صورتين ، أتأمل اللوحة الأولى ؛ وجه طفل كابى ،أنسال سترة ، أنكسار خطين منهمرين من الدمع ، شعر معفر، فم متشقق ، بكارة تجاعيد فحمية ، يئد التفرس قائلا:
- أتذكر القرية ؟
يدبق التذكر حلقومى :
- جسر القرية يفصم مخيلتى .
أهينم مفتونا مبهوتا :
{ يغازل الفأر ماجور الفخار الملقى أسفل الزير ، يترقب هطول ماء الثقب ،تنشرخ مؤخرة الزير ، تصلب الأسمنت لا يفيد الرتق ، ينهد الفأر مجونا ، يعب بحيرة القاع ، تشمخ الأشباح ، تهرب الحركة جفوة ، أنعقد ضوء اللمبة الصاروخ ، عهد الأحتراق ، ذبل العويل ، غرق فى قاع الأرمدة ، يقعى شبح العفريت مطرحه ، أضمحل ، يغشانى النوم المتقلقل .}
يتملظ حكمة اللحظة :
- الأيام هى الأيام .
يطنب قا د حا أوتار السيرة :
- صعدنا القطار الحديدى ، تعبرنا المحطات الغفيرة .
أتجرع رشفات الشاى الدافئة ، أستنهض الحكى :
- بعنا (المعزة ) ، أبتعنا تذكرتين درجة ثالثة ، ستك ( حميدية ) تغادر القبة مودعة ، ترفس كراكيب التعثر .
يرجم الغيب ، يعلق محللا :
- يقبع أسفل قبوتها التاريخ ، تحوى صحارتها كل الأوراق ؛ خرقة بكارتها ، وثيقة زواجها المصفرة ، صرة النظل ، لفة الحناء ، حبات القرظ ، هلاهيل أنوثتها الغاربة .
ينتفض نافضا الجمرات المتناثرة ، تتناوب أكواب الشاى المتدثرة بخارا ، تخفت نبراته :
- هى الوحيدة الرافضة سفرنا .
أحاوره منتشيا بالتذكر :
- لكن أبيك أصر على هجرتنا تشبثا بوفرة الرزق .
يمضغ الكلمات ، يسترجع مشهدا :
( يخترق القطار ستر المجهول ، يتخبطنا غدر الفلنكات ، غادرنا الرصيف التائه الصاخب ، أستقبلنا (صلاح ) خبير حياة القاهرة )
أمخض الأيام :
( تبعناه كالأنعام إلى الحلمية ، أستأجرونا عربة فاكهة ، صقيع الليل لا يرحم ، أمسى الرصيف ثلاجة ، لم يف هامش الربح الأجرة ، رحلنا إلى سوق روض الفرج بحثا عن الفرج .)
يضيف متهكما :
- ظننت إنه كسوق الأربعاء بالقرية .
أقاطعه عاقدا المقارنة :
- قرمة وحمال عمك حنا الجزار ، صفيحة ملوحة عمك زكى العتيقة ، مقلاة طعمية خالك محمود ورقعة المهن القذية ، أجولة الغلال والماكييل المضفرة بالصاج المزخرف ، البقر المستكين المترقب أيادى العسس ، أعواد قصب السكر المتشققة سوسا ، أقفاص الطماطم المعطوبة ، بائع العنادى والكستور ، بهلوان العسلية وغزل البنات ، حلاق الحمير .
- أهذه الأشياء تشبه سوق روض الفرج ؟
يجيب مستأنفا المقارنة :
- خيال ساذج ؛ زحام المحشر، تتداخل العربات المحملة أطنان الفاكهة والخضروات ، تتعانق تلال القمامة وجموع الشيالين ، لا تنفض المزادات ، أجران المعروضات لا تنضب ، الحركة دؤوبة ليلا ونهارا ،نساء كالرجال ، ورجال كالنساء ، هرج ، مرج ، تناطح ، تآزر ، استهلكن العمل عند سيد العمدة .
أتمثل التدبر :
- ألم أنصح : لا نعبر جسر القرية ؟
- أرادنا أبوك شبحين !
أستنفر غلالة السكوت :
- غريب أمر المدينة / المأوى هذه ! سيارة كبيرة مكتظة بأعناق لولبية ، تتشبث أيادى كثة الشعور بالسقف الزلق ، تتمايل الجيد ، تتنافر ، تتجاذب ، يزملهم الصاج العملاق .
نفد صبر بائع اللوحات ، اسكنت أرتياعه منزل الكسب ، أعجبتنى لوحة ثانية ، أراقب أبجدياتها ؛ نمر منقط ، عنقود عنب ، ثمرة تفاح مشطورة ، زجاجة نبيذ دائرية ، قنينة عطر هرمية ، وجه أنثوى طافح جمالا ، قرص الشمس الشاحب ، زرقة وصفرة مزرودة يتخللان النثار ، أبتهج متفلسفا :
- ما أجمل الصور !
يثمن البائع سلعته :
- بعشرة جنيهات الصورة .
أضحك لاحدا مرارة السخرية :
- ما أضطررنا إلى لحس السخام !
أستدرك :
- قد يكون كلامك صائبا !
أصمت مفكرا مزمجرا فى خفر :
- ولكن أين العشرة جنيهات وقتها ؟
يهجرنا البائع ، مازالت فى الأكواب بقية ،ألف الصورتين بأوراق الصحف ، يتنحنح ، تشرد نظراته :
{ يثور العمال ، يتخبطهم الشيطان ، أختبأ بالمحصول الوفير ، أجتث أوراق النقد الجديدة ، أعلن فى تحد :
- من رغب عنا فليس منا .
أقر منتفخا :
- السوق مزدحم بالعاطلين . }
- أستلهم المناجاة ، أرفض ـ فى سريرتى ـ المثول تحت أمرته ، ألتمس جسر القرية ، تنتصب المشانق على ضفتيه ، تتدلى الأعناق فاغرة الفيه ، لا أحد بالقرية سوى العجائز .
وسوم: العدد 679