على الهامش

د. أحمد محمد كنعان

فتح "حسين" عينيه على الدنيا فوجد نفسه يعيش في بيت بسيط على طرف البحر، واكتشف أن عشرين خريفاً من حياته مرت وهو يجهل البحر تماماً ، فقد حرمته أمه من تعلم السباحة خوفاً عليه من الغرق، وحرمه أبوه من تعلم الصيد خوفاً عليه من رفاق السوء، ولهذا اكتفى برؤية البحر عن بعد من خلال النافذة الضيقة لغرفته الصغيرة التي بناها له ابوه فوق الغرفة الوحيدة التي تمثل دار العائلة، وهناك في الغرفة المنفردة عاش عمره منفرداً كورقة في مهب الريح، وكما عاش على هامش البحر فقد مضت زهرة شبابه على هامش الحياة، لا يهتم بشيء مما يحصل حوله كأن هذه الدنيا قد خلقت لغيره، فلم تكن تعنيه من قريب ولا بعيد، ولم يكن يفرح لشيء ولا يحزن لشيء ، ولا يهمه أن يربح أو يخسر،  فالربح والخسارة كانا عنده سيان، حتى إن موت أخيه "محمود" خلال مشاركته في الانتفاضة الشعبية التي اندلعت ضد الدكتاتورية في سورية عام ٢٠١١ لم يهز فيه شعرة، بل وقف إلى جانب جثة أخيه وكأنه غريب لا يمتّ له بأية صلة، بل استغرب دموع الآخرين على الجثة، ودهش لبكاء أمه التي كادت تهلك حزناً على ولدها البكر وهم يشيعونه إلى مثواه الأخير!

ولأن حسين عاش عمره على هامش الحياة فقد كانت الحياة عنده لغزاً عصياً على الفهم، واستمرت حاله على هذا المنوال إلى أن وضع القدر في طريقه "سلافا" زميلته في كلية الآداب، لكنه كالعادة لم يشعر بها طوال شهر كامل من اجتماعهما على مقعد واحد ، ولم يعرف اسمها إلا يوم نادى الأستاذ باسمها وأعلن أنها الأولى على الصف في امتحان الأدب الأندلسي، عندها فقط عرف اسم زميلته وجارته في نفس المقعد، وانتبه أن عليه أن يبارك لها هذا النجاح الكبير فاستدار نحوها  وهمس في ارتباك وتردد :

مبروك ... ألف مبروك !

وعاد إلى صمته وأخرج المنديل من جيبه يمسح العرق الذي بدأ يتصبب من وجهه، أما هي فقد استدارت نحوه ونظرت إليه بعينين دافئتين وقالت مداعبة :

- صح النوم !'

وضحكت ضحكة صافية ذابت في قلبه كالسكر وأجبرته أن يعود إليها مستفسراً :

صح النوم !؟ 

فمالت نحوه وقالت عاتبة :

- طبعاً ... صح النوم .. شهر كامل وأنا إلى جنبك لم أسمع منك كلمة واحدة !!؟

فقال يعتذر :

- آسف .. آسف جداً

فردت عليه في دعابة :

- وكيف أصرف هذا الأسف ؟!! 

وصادف سؤالها الجرس يعلن انتهاء الدرس، وبدأ الطلاب والطالبات يغادرون إلى الخارج فانتهز الجلبة التي حصلت واستجمع كل طاقته وقال لها بنبرة خافتة :

- هل تقبلين دعوتي على فنجان قهوة ؟!

فنفحته بابتسامة رائقة وهزت رأسها بالموافقة، وقامت ترافقه إلى مطعم الكلية ، ولما وصلا إلى الطاولة التي اختارتها للجلوس وجد نفسه يزيح لها الكرسي لتجلس كما رآهم يفعلون في أحد الأفلام ، وانتبهت إلى ارتباكه وهو يفعل فضحكت ضحكتها المنغمة التي زادته ارتباكاً وجعلته يبعد الكرسي أكثر مما يجب حتى كاد يوقعها على الأرض ، وانتبه إلى الوجوه تتجه نحوهما والابتسامات تلاحقهما فبدأ يتصبب عرقاً.

وبعد أن اطمأن لجلوسها جلس قبالتها صامتاً لا يدري كيف يبدأ الحديث معها، أما هي فما إن جلست راحت يداها على الطرف الآخر من الطاولة توقعان لحناً موسيقياً ساحراً جعل أصابعه تنطلق لتساير لحنها، وحين جاء النادل فوضع أمامهما فنجاني القهوة تشجع حسين فراح يتأمل وجهها فرآه يتلألأ بحمرة شفافة تغري باصطياد قبلة ، لكن أنى له أن يفعل وقد فاته أن يتعلم فنون الصيد؟!

وانتبهت له يتأمل وجهها فارتبكت وتشاغلت بإصلاح شالها لتخفف من ارتباكها ولعله يصرف نظراته عنها، لكنه ازداد تعلقاً بتأمل وجهها وتوقفت أصابعه عن مسايرتها بالموسيقى، وكأن الشال الذي أحاط بوجهها قد حدد هدفه أكثر فأكثر ولهذا رأت أن تشغله بأمر آخر فنظرت إلى فنجاني القهوة وقالت باستغراب :

- أول مرة أراهم يحضرون القهوة دون كأس الماء !!

فقال :

- ولا يهمك ، أنا أحضر لك الماء 

وقام ليحضر الماء لكنه قبل أن يذهب عاد يتأمل عينيها الزرقاوين وتشجع فقال :

- أستغرب كيف تعطش من عندها هذه العيون !! 

فابتسمت في دلال وغضت طرفها وقالت :

- من أين تأتي بهذا الكلام الحلو !؟ 

أجاب :

- هل نسيت أنني طالب في كلية الآداب ( وابتسم قبل أن يضيف ) ثم إنني شاعر عندي الآن  قصيدتان 

فقاطعته وهي تضحك ضحكتها الرقيقة المنغمة التي جعلت الوجوه كلها تلتفت إليهما،لكنها لم تكترث بل تابعت تقول :

- قصيدتان !؟ عظيم .. عظيم .. قصيدة ثالثة وتصبح متنبي عصرك !!

قال :

- أكيد ... عيناك ستجعلان مني أعظم من المتنبي

فعادت تضحك في دلال وقالت :

- مهلك .. مهلك .. فأنا لا أحتمل كل هذا الغزل ( وعادت تضحك قبل أن تضيف ) لكن أخشى أن ينطبق عليك قوله تعالى  ( الشعراء يقولون ما لا يفعلون )

فقال باعتداد :

- بل يفعلون !! يفعلون ! لست حجراً حتى أرى هذه العيون ولا أفعل !

قالت وهي تستر وجهها بكفها حياءً :

- الآن صدقتُ أنك شاعر، لكن يا شاعري هل تشعر بعطشي

فتذكر طلبها للماء ، فقام مسرعاً إلى ثلاجة الماء وأحضر لها كأساً من الماء المثلج وعاد، فوجدها تدندن بالغناء، فوقف خلفها ينصت، لكنه لم يفهم من كلمات الغناء شيئاً، فلا هي كلمات عربية، ولا هي إنكليزية كالتي يتعلمانها في الكلية ، وسمعها تختم غناءها بوصلة طويلة ختمتها بآهة دافئة جعلته يصرخ ( الله .. الله ) وانطلق يصفق لها بحرارة، فالتفتت مرتبكة وقد أدركت أنه كان ينصت لغنائها، وسمعته يسأل : 

- ماذا كنت تغنين ؟!

قالت :

واحدة من أجمل أغانينا الكردية

قال مستغرباً :

- أنت كردية إذن ؟!! 

ردت :

- أجل ، أنا كردية وأفتخر ( وابتسمت ابتسامة ذات مغزى وأضافت ) هل عندك مانع ؟

قال :

-أبداً... بل جعلني غناؤك أتمنى لو كنت كردياً لأفهم ماذا تقول الأغنية ؟!

فتورد خداها وتلألأت عيناها بالفرح قبل أن تقول بنبرة دافئة :

- هي أغنية حبّ تقول (كيف ترحل وتتركني وحيدة؟ لمن ألبس وأتزين؟! لمن أقول حبيبي ؟ ومن يقول لي حبيبي؟! لمن أضحك ولمن أفتح قلبي؟! 

قال وهو يصفق إعجاباً :

- معاني رقيقة وجميلة جداً .. لكنها حزينة !!

ردت :

- وكيف لا تكون أغانينا حزينة وقد عشنا حياتنا مشردين بلا وطن ؟!

قال مستغرباً :

- بلا وطن !!؟ ألستم سوريون مثلنا ؟! ألستم مواطنون مثلنا؟!

فنظرت إليه بعينين دامعتين وقالت :

- أجل نحن مثلكم ، ولكن هل نحن وأنتم مواطنون حقاً !!

ردّ مستنكراً :

- طبعاً ... طبعاً ، كلنا مواطنون، لا ينقصنا شيء !

فقاطعته باستنكار : 

- يا صديقي .. بل ينقصنا كل شيء ( ودمعت عيناها قبل أن تضيف ) وأول شيء تنقصنا الكرامة ! هل نسيت ما فعلوا بأستاذ الأدب الأندلسي " عماد" هل نسيت كيف جرجروه أمامنا إلى السجن كأنه مجرم هربان لأنه اعترض على تحرشات حراس أمن الجامعة ضد الطالبات ؟! هل نسيت ؟!!

قال :

- لا، لم أنسَ ، لقد كان بالفعل عملاً مخزياً، لكن ما الذي كان يمكن أن نفعل ؟! 

قالت :

- كان علينا ان نمنع هذه المهزلة، فإن للجامعة حرمتها، ومعلمونا بشر، لهم حقوق، وكان عليهم أن يحترموا حقوقهم، وأن يحترموا حقوقنا نحن الطلبة، لكنهم لم يفعلوا ( وتنهدت تنهيدة شجية خرجت من أعماقها وأضافت ) يا صديقي، نحن نعيش في بلد بلا قانون، ولا مواطنين، فلا مواطن هنا إلا من يوالي الطاغية، أما أنا وأنت  ومن مثلنا فلسنا مواطنين، بل لسنا بشراً ( وترقرقت عيناها وهي تضيف ) يا صديقي هذا ليس وطن .. هذا غابة !! 

قال بانهزام :

- صحيح ، لكن ما باليد حيلة !!

قاطعته :

- لا تقل هذا ، ففي أيدينا أن نفعل الكثير، المهم أن نتحرك .

ولم تكد تكمل حديثها حتى دوت هتافات المتظاهرين تنادي بإسقاط الدكتاتور، فنظرت إليه برباطة جأش وقالت :

- ها هم الثوار وصلوا الجامعة ، ويجب أن ننضم إليهم !! 

فنظر إليها مندهشاً  :

- كيف ؟!! وهل نحن ثوار لننضم إليهم ؟!

قالت بحزم :

- طبعاً، فهذه الثورة ثورتنا جميعاً، وعلى كل منا أن يساهم فيها بما يستطيع 

قال :

- وما الذي يستطيعه طلاب عزّل مثلنا ؟!

قالت :

- يا صديقي ... كل الثورات العظيمة انطلقت من الجامعات !!؟

قال :

- أنا لا دخل لي بما يحصل، فهذه خلافات وتصفية حسابات  بين النظام والمعارضة ...  فخّار يكسّر بعضه، نحن لا دخل لنا بذلك !!!

وقام يجمع أشياءه يستعد للمغادرة، لكنها شدت على يده ليجلس، فجلس وهو يتمتم شيئاً بينه وبين نفسه، وإذا بواحد من حراس أمن الجامعة يدخل المطعم ويصرخ بالموجودين ليغادروا المكان إلى مخبأ الجامعة بحجة أن "الإرهابيين"  أصبحوا على بوابة الجامعة ، فقامت سلافا تصرخ في وجهه :

- لن نغادر، وهؤلاء ليسوا إرهابيين !!

فقاطعها الحارس في غضب :

- اخرسي !!

وأسرع إليها ورفع الهراوة في وجهها يهددها بالمغادرة، لكنها تجاهلته، ورفعت فنجان القهوة بهدوء فرشفت منه رشفة طويلة متمهلة جعلته يخرج عن طوره فيضرب الطاولة بهراوته ويسقط ما عليها ، ثم مدّ هراوته إلى شالها يريد أن ينزعه، فانتفض حسين وانتزع الهراوة من يده وألقاها خارج النافذة، فاستشاط الحارس وأراد أن يشهر مسدسه ، لكن انزلقت قدمه لشدة انفعاله فسقط وارتطم رأسه بالأرض وراح يتلوّى من الألم، فانطلق الحاضرون ضاحكين شامتين لما أصابه، واهتبل حسين الفرصة فأشار لسلافا بالمغادرة للالتحاق بالمتظاهرين فقامت تمشي بجانبه، ويدها في يده، فلما خرجا إلى الحديقة مد حسين ذراعه فوضعها على كتف سلافا، ورفع ذراعها فوضعها على كتفه ، وراح يرقص رقصة" زوربا" الذي عرف الحياة وانتصر على الفشل،  فنظرت إليه سلافا سعيدة بانطلاقه وقالت :

- أنت بطل فعلاً ، فقد خلصتنا من هذا النذل ! 

فابتسم باعتزاز وردّ وهو يتأمل عينيها :

- الفضل للعيون التي أهدتني من رموشها سلاحاً أستطيع به محاربة العالم !

فقاطعته وقد توقفت عن الرقص :

- لا، أرجوك ، لا نريد أن نحارب العالم، يكفي أن ننتهي من هذا النظام الفاجر 

قال :

- سوف ننتهي منه ... سوف ننتهي منه مادمت إلى جانبي ومادامت عيناك تمدني بالسلاح !!

فضحكت ضحكتها التي تذوب في قلبه كالسكر، وقالت :

- سأعتبر هذه الكلمات منك هي قصيدتك الثالثة، يا شاعر الحب والثورة !

فابتسم وقد أحس بالامتلاء، وأمسك يدها منطلقاً بها نحو المتظاهرين .

وسوم: العدد 680