أسارير
مستجوبوك يقتنون منك أرذل صورك، ليس لأنّك أقبح ما جاءت بها ثورتك الحياتيّة، بل لأنك لم تختلف كما حدّدوه لك، نسبة لحساباتهم المتّفقة كواقع لا يوقف تمرّده، فلا تعكس مفاهيم متمرّنة في عمالة لامحلّيّة أصبحت محلّ فخر، وجعلتها تفوّقاً ذاتيّاً غير قابلة للنقد، بمعنى سياسيّ مُبتذل.
ذلك الرّأس الإسمنتيّ أنا أيضاً مشاركٌ في إعداده، لو كان جدّك حيّاً لقال لي ذات الشّيء، ليس ذكاءاً ولا تاريخاً مصنّعاً منّا، إلا إذا اكتفى الإدراك بهذا الوصف المهزوز... حاول أن تغيّر مكانك بنفسك، ولا تجعل أثرك أشخاصاً في كلّ مرّة، هذه ليست نصيحة، بل قانوناً مغلّفاً لسلوكيات موفدة في الفكر، فحسب.
كلّكم سمعتم شيئاً ممّا سآتيكم به لاحقا، وكلّكم محتواة في سبْقي الكتابي... هذه سيرة جبال مُغتالة.
كان يعود مسرعاً، في حضنه ذلك القِماط الذي كان هو وزوجته قد أعجبهما في ذلك المحلّ، يركض فيرتطم بهذا وذاك، ظنّه البعض ثملاً، والبعض مجنوناً، أرجله كانت تصرخ من شدّة ارتعاشها، يسقط الشبشب من قدمه فيتركها ويستمرّ، فجأة؛ نوبة قلبيّة توقفه وسط ازدحام المارّة... إنها كانت غبطة قويّة، مجيء طفله، أوقفت دقّاته، مات هناك. ترى ماذا حصل؟ ربّما كان طفله يتغذّى الإجرام في رحم والدته، وربّما كان والده طيلة تلك الأشهر يسمعه قصصاً عن الظلام ومصّاصي الدماء وعن كل أساليب العذاب، ربّما كان يحدّثه عن نفسه!! أم أنّ سعر القماط أفرغ جيبه الصّغير الذي لا يتواجد فيه أكثر ما يسدّ وجبتين يوميّاً، وأحياناً واحدة... إنّها كانت لحظة تعارف المولود على إجرام الغنى.
كانت الولادة عسيرة فلم تفلح الأمّ بالبقاء فتوفّيت قبل لحظة طفلها الدنيويّة، الخديج ملطّخ بدماء أمه، ربّما يكون قاتلها!!. ليس بيديه الصّغيرتين النّاعمتين، وليس بسكّين أو طلقة، إنّما بأدواته اللامرئيّة الخاصّة، إذاً والدته تكون أولى ضحاياه، أوّل دليل وإثبات حقيقيّ في سجلّ إجرامه.
لم يكن قد ذكر الطّبيب في تقريره أيّ خطئ طبّي، ولم يكن فيه أيّة إشارة توحي باتّهام المولود أو غيره، كان قد وثّق تلك الحادثة، حتّى أنه لم يكن قد رقد ليومين كاملين بحثاّ عن سبب مادّيّ ما، لكن لم يكن قد توصّل لشيءٍ قد يغيّر توقّعاته وخبرته، كانت أوّل حالة موتٍ فجائيّة تمرّ عليه، كانت الأمّ تبتسم حين ذهابها!!. الطبيب مريض الآن، في مستشفى المجانين يصارع فكره، كأنّ المخلوق ( المولود ) الحديث قد اجتمعت فيه كلّ قوى الإجرام، أو أنّ الإجرام نفسه كان ينهي كلّ ما يرتبط به.
صرخة وبعدها لحظات سكونٍ تكفّلت بفصل الموضوعيّة في هذه الحيوات المصطادة بطريقة متعنّتة، ففقدت كلّ الأهمّيّة في العبر، لا بل تجمّعت كلّ الشّتائم واللعان والأفكار اللاسويّة، وانقشعت تصنيفات ألوهيّة من عقول أولئك المبعدين عن أيّ أنواع راحة. ترانيم كفر متناغمة مع شدّة العذابات، فيتلاشى تناقض هذا البلاء القصصي بعجز نفس عن المتابعة، وجمود جسديّ دائم.
هل كان سيتحدّث عن كلّ ما حصل، وعن الموت، هل كان سيخبرنا ببعض الخفايا، هل كان سيعرّفنا ببعض النّهايات؟
لم يتوقّف أيّ شيء، لم يعارض أحد استمراريّة المأساة، كأنّ كلّ ذلك لم يكن، كأنّ الجميع يستمع لكاذب يروي مغامراته وذكرياته، للأسف هناك من لا يملك بعض أشكال البراعم الحسّيّة، كما الذين فقدوا الإحساس بالمذاق الحادّ. هناك أمور غير محظوظة حتى بمرورها في آذان البعض.
مولودنا ( أحد أبطال هذه القصّة ) لم يعش أكثر من ذلك، في ثوان قليلة صفعته الحياة بأقسى ما عندها، فلم يثبت أكثر من ذلك، ولم يستطع قبول هذا العقد الدّمويّ معها، فاختار والديه، وربّما كان ذلك تراجعاً تكتيكيّاّ لماهيّة نفسها، فقتلته وهي في أرحم حالاتها. ذلك القماط أصبح كفناً له، لم يعلم أحد أين سيُدفنون، لم يكن لهم وصايا، كما لم يكونوا من قبل أبداً!!.
كلّ هذا السّرد مقتبس من ذاكرة وخلط وقائع، منكم، لم نعلم جنسيّة المولود، لم يعلم أحد ذلك، نفترضه ذكراً، تقاسماً مع هذا النّثر، فليس بسيطاً أن يعرفك النّاس " مولوداً " إسمك، صفتك، درجتك، بدايتك ونهايتك، أن تبقى هكذا دائماً، أن تكون في سياق مصطلحاتٍ مبهمة خاصّة بتحليل النفسيّة وقت التشكّل، وما قبل الصغر، أن تمتزج مثلاً مع اللعب والحليب والنّوم الطّويل في مخيّلة كلّ شخصٍ، وليس عدلاً أن تحاسَب هكذا، ألا ترضع من ثدي أمّك، وألا تعصر خاصرتك على الكثير من النّساء المثيرات، ولا تصبح صديقاً ولا حبيباً، وتؤخذ قبل أن تصبح أباً، ليس شيئاً عاديّاً أبداً، ليس ذلك قَدَراً أن تكون فقط شاذّاً، عدوّاً ومقتولاً في ما لا تكن لك فيها.
ما قد يوقظ الإحباط الفكريّ أو ما ينمّيه بطريقة التّلقين المؤجّج، لا يخدم ـ بأيّ حال ـ ما يتعافى به السّلوك في تلك المحطّة، من شاردة وحيدة ما، بل الإكتناف على زوال قادم، ما هو إلا الأرقش الأبرز في هذه الإستمارة المقدّمة للتوصيف، هذه ليست محاولة تفادي تعليق نسخة أو تطبيع شكلٍ مسخيّ مع مستويات قد تظهر بعد حينك، وذلك ما يعانيه من تحفّظ معانٍ لا تستطيع أن ترسم مسارها بوضوح في ما خلف هذه، كما معاق في أغلب أعضائه أو كما انجرافٍ بعد أعتى عاصفة، هو أيضاً في لواحق متوالية يصطدم بغفلان ذاته المتستّر على إطلاق استفهاماتٍ لا تحذو صرف قياماته المنفلتة، لإبلاغ لامحدوديّة أنانيّة منمّقة في استقرارٍ مهدّد يمتصّ حظوظه إلى اعتراف غير مجدي، ما أن تتأكد تأرجحاته اللاشعوريّة من عجز مساعيه في تعديل آثاره المبدّدة في محيطه، لأجل نمذجة وضعٍ في ظلّ اعتيادٍ مغرور بتسييرٍ لا يرقّم، ولا يصاغ بتمكينٍ واسع الإحتمالات، من آخرين يقبلون باقتراب إخفاق أبديّ مركّز لنفس يشرع بإحياء قهقهة، في مكانٍ وزمانٍ آخرين، من جديد.
ـ ولدي؛ وأخيراً، هنا في هذا الفراغ المطلق نحن أيضاً سيكون لنا منزل.
+ أنا أسمعكما، أراكما، أنا معكما.
ـ بعد الآن لن نكون في أحد!!. لا أحد سيقتلنا مجدّداً.
+هل يسمعنا أحد، هل يرانا أحد، هل يوجد غيرنا؟.
ـ كنّا نحلم لك بغرفة جميلة ونحن نحرسك في بابها، هذه اللاحدود كلّها لك الآن!!.
+ ليتنا لم نكن!!.
مكان زواجهما اللاتقليدي كان المكان السّابع ( المكان الأخير ) الذي تنقل تلك القطّة صغارها إليه، وبعد أيّام من العيش معهما، رحلوا، القطّة الأمّ قتلت وهي تأتي لهم بطعام، كان قصّاب الحيّ قد سكب السمّ على قطع اللحم التي تركها في حاوية المخلّفات، أما صغارها فتقطّعت بفأسه وساطوره. كان يبيع كلّ أنواع اللحوم، لا اعتراض صريح، فكلّها تؤكل، الفقراء لم تُخلق إلا لتؤكل.
لا طعن إذاً؛ تماثل مستحدث في بيئة يستلزم فيها صعوداً، يشمل تفسّخاً، فيما يبدو للمنتقد المتفرّج، شبه تطرّق خيالي مبالغ مخادع، شعوذة حسّيّة فريدة مغالطة للزمن الذي لا يملك ميّزة التّدخّل في تغيير المحتوى، وفي الأساس لا يقبل مسؤوليّةً أو توظيفاً فعليّاً... لا قبول.
لم أنتهي...
وسوم: العدد 681