سهير
الوقت بعد منتصف الليل، خرجتُ من المستشفى بعد يوم عمل شاق أجريت خلاله ثلاث عشرة عملية جراحية للمصابين خلال أعمال المواجهة بين عناصر الأمن والمتظاهرين الذين خرجوا عزلاً يهتفون بإسقاط نظام "بشار الأسد"، ولحسن الحظ أني لم أكد أخرج من المستشفى حتى رأيت الحافلة تقف عند بوابة المستشفى لإنزال بعض الركاب، فصعدت وجلست في المكان الشاغر الذي وجدته خلف السائق مباشرة، ولم تمض دقائق على تحرك الحافلة بنا حتى رنّ جرس هاتف جوال من المقعد المجاور للسائق، فأخرجت السيدة هاتفها ونظرت في الشاشة لكن قبل أن ترد على المكالمة التفتت نحونا معتذرة بأنها مضطرة للرد لأن الاتصال من "شخص مهم جداً" كما قالت، ووضعت الهاتف على أذنها وبدأت ترد، وعلى الرغم من ضجيج المحرك وثرثرة بعض الركاب فقد كان صوت السيدة واضحاً تماماً، فقد كانت تتحدث بصوت عالي وانفعال غير مبالية بالموجودين، وواصلت مكالمتها مؤكدة أن تأخرها عن الموعد حصل خارج إرادتها فقد اضطرت الحافلة للتوقف مرات عديدة بسبب كثرة الحواجز الأمنية في الطريق، لكن يبدو أن هذا العذر لم يرُق للمتصل فبدأت نبرة السيدة ترتفع للدفاع عن نفسها، وراحت تمطر المتصل بسيل من الكلمات الخارجة عن حدود الأدب، بل زادت نبرتها مهددة "معلمه" بأنها سوف تقاطعه نهائياً إذا لم يدفع ما عليه من دين لها ، مؤكدة أنها لن تقبل من الآن وصاعداً أخذ الأتعاب بالليرات السورية، وإنما بالدولار الأمريكي !!!
كان واضحاً أن السيدة من بنات الهوى، وأنها متمرسة بمساومة الزبائن ، ومعتادة على هذه اللغة السوقية، فإنها بعد انتهاء المكالمة بصقت في الهواء وقالت موجهة كلامها للمتصل :
- يخرب بيتك وبيت معلمك يا ابن الشرمو...!
فتفشّت في الحافلة همسات الاستغراب وضحكات الركاب لسماع السيدة وهي تطلق كلماتها الخارجة عن حدود الأدب بهذه البساطة وكأنها وحدها في الحافلة، أما جاري الطاعن في السن الذي تبدو عليه إمارات التدين فإنه عندما سمع كلمتها الأخيرة توقفت حبات المسبحة بين أصابعه وتوجه إليها قائلاً:
- يا بنتي ، هيك ما بيمشي الحال، لازم تهدي أعصابك .. شغلتك يا بنتي شغلة أعصاب، هدي أعصابك، وإلا خسرت الزبائن !!؟
فالتفتُّ إليه مستنكراً :
- معقول يا شيخنا ؟!!
فأشار لي أن أهدأ ومال برأسه نحوي وهمس :
- يا إبني طول بالك ( وأشار نحو السيدة وأضاف ) هذا النوع من النسوان لا يفهم إلا بهذا المنطق، ولو أني عنّفتها بهدلتني !!
هززت رأسي موهماً جاري بالموافقة على منطقه الأعوج الذي لم أتوقع أن يصدر عن رجل دين مثله، ورأيته يميل برأسه نحوي كأنما يريد أن يزيدني من حكمته الخرقاء لكن الحافلة قطعت عليه الحديث فتوقفت فجأة ما جعلنا ننزلق في المقعد حتى كدنا نسقط أرضاً، وتعالت صرخات الركاب مستنكرة التوقف المفاجئ من السائق الذي التفت نحونا بهدوء وقال :
- يا جماعة، آسف .. طلع قدامي فجأة حاجز أمني، والحمد لله أني توقفت على بعد مناسب قبل أن يشتبهوا بنا ويطلقوا علينا الرصاص !! هيا .. هيا .. جهزوا هوياتكم حتى لا يؤخرونا !!
وفتح أبواب الحافلة فصعد إلينا ثلاثة عساكر يتقدمهم ضابط بدين، يمضغ في فمه ويحمل بيده سندويشة فلافل فاحت رائحتها في الحافلة، وعلى الفور راح يتفرس بوجوه الركاب وهوياتهم مثل كلب يبحث عن فريسة، وما بين مقعد وآخر كان يأمر مرافقيه بإنزال بعض الركاب وسوقهم إلى المكتب، حتى وصل إليّ، فنظر في هويتي وأمرني بالنزول، فأشرت إليه أني طبيب جراح في المستشفى الجامعي لعله يتركني لكنه نظر إليّ نظرة حاسمة وقال وهو يشير لمرافقيه بأخذي :
- يا دكتور ، الله بعتك لنا في الوقت المناسب، عندنا جندي مصاب بجرح في ساقه أجري له خياطة اليوم لكن جرحه الآن ينزف، وقد طلبنا سيارة إسعاف لنقله إلى المستشفى لكنها تأخرت، فأرجو الإسراع لعلك تستطيع وقف نزيفه
قلت :
- على عيني
وقمت لأنزل، لكن الضابط انتبه إلى السيدة في المقعد الأول فوضع يده على كتفي طالباً مني التمهل قليلاً، وذهب إليها ووقف خلف مقعدها ومد يده يداعب شعرها الأشقر ويقول :
- الله .. الله .. يا محاسن الصدف .. الآنسة سهير عندنا !! يا مرحبا .. يا مرحبا!!
فالتفتت إليه وردت :
- أهلين سلمان ، كيفك ؟!
قال بنبرة معتكرة :
- زفت.. في زفت .. صار لي يومين ما نمت، ألا ترين ما الذي يحصل في البلد، الإرهابيون قلبوا الدنيا على راسنا ،
فقاطعته بنبرة عاتبة :
- لا تقل إرهابيين !!!؟
فقاطعها مستنكراً :
- بل إرهابيين ولاد إرهابيين! هل عندك رأي آخر ؟!!
فعادت تناكفه:
- كل الناس صاروا عندكم إرهابيين !! حتى أخي قتلتموه وقلتم إرهابي !! أخي أنت تعرفه تماماً وتعرف أنه لا يترك الكأس من يده ليلاً ولا نهاراً، فهل تصدق أنه إرهابي؟!!
فقاطعها قائلاً :
- الله يرحمك يا فراس !!
وتابعت هي تقول :
- لقد اصطادوه عند خروجه من الجامع الذي تعوّد أن يعبر منه إلى المنزل اختصاراً للطريق !!
فعاد يردد :
- الله يرحمك يا فراس ( وتعلثمت نبراته وهو يضيف ) الله يرحمه ... لقد كان طبّالاً عبقرياً !!
فقالت سهير وهي تنشج بالبكاء :
- قتلوه .. المسكين قبل عرسه بأيام !!
وانفجرت بالبكاء لكنها عادت فتماسكت، وأخرجت منديلها ومسحت دموعها ووقفت في مواجهة الضابط وقالت بنبرة حاسمة :
- الآن دعنا من فراس وممن قتلوه (وأشارت عبر زجاج الحافلة ناحية الحاجز وتابعت) لماذا أخذت الركاب؟!
أجاب بنبرة متعالية :
- للتأكد من أوضاعهم الأمنية !
فقاطعته برباطة وحزم :
- أية أوضاع ؟!! هؤلاء مساكين راجعين لبيوتهم بعد منتصف الليل ... بعد نهار طويل من التعب والمشقة، فكيف تتوقع أن تكون أوضاعهم؟!! أم أصبح كل الناس في نظركم إرهابيين ؟!! ( ورفعت سبابتها نحوه وأضافت ) رجّعهم لو سمحت، واتركهم يعودوا إلى بيوتهم وأهاليهم ( ورفعت الهاتف إلى أذنها وأضافت ) لا تدعني أتصرف بمعرفتي !!
فقاطعها بنبرة ذات مغزى :
- يا ست سهير ، هذه إجراءات أمنية، رجاءً لا تتدخلي فيها !!
فردت عليه وقد بدأت تضغط الأزرار في هاتفها الجوال :
- بعد إذنك سأتصل بالعميد أصلان ....
فسارع سلمان يمسك يدها ويمنعها وقال :
- لا، لا، رجاءً لا تبهدليني معه، دعيني أتصرف ، ولن يحصل إلا ما تريدين !!
قالت :
- هذا ما أتوقعه منك، فقلبك طيب ، ولا تقبل بهدلة هؤلاء المساكين (ودسّت الهاتف في محفظتها وأضافت ) ومن أجلك لن أتصل بالمعلم، فنحن على كل حال أصحاب، ولا أرضى لك البهدلة
قال :
- شكراً ( وأضاف وهو يهم بمغادرة الحافلة ) لكن .. يا ست .. خلينا نشوفك،
قالت :
- سأتصل بك ... سأتصل ..
وجلست في مقعدها، وحين رأته اختفى خلف الحاجز تابعت تقول :
- الله يخرب بيتك وبيت معلمك يا ابن القحب ... ، كلكم أوغاد تبيعون البلد من أجل سيقان امرأة
وبدأ الركاب الذين اعتقلهم يعودون إلى الحافلة فتوجه جاري إلى سهير قائلاً :
- الله يحيي البطن اللي حملك !!!
فردت عليه :
- شيخي لم أعمل سوى الواجب ( والتفتت إلى الركاب وأضافت ) يا جماعة سامحوني إذا صدرت مني كلمات غليظة، فهذه هي اللغة الوحيدة التي يفهمها هؤلاء الأوباش ! ( وعادت تخاطب جاري ) يا شيخنا لا تقل لي إن شغلتي شغلة أعصاب، فأنت ترى أن الحالة في البلد أصبحت لا تطاق ، فاعذرني إذا فلت مني العيار!!
ولم تكد تكمل كلامها حتى فوجئت بواحد من عناصر الأمن يشهر في وجهها فوهة بندقيته عبر النافذة ويأمرها بالنزول لكي تواجه رئيس الحاجز، لكنها تمنعت وصرخت به أن يذهب فيرسل معلمه لكي تتفاهم معه ، فدفع العسكري الفوهة حتى لامست وجهها مؤكداً أمره صارخاً فيها :
- انزلي يا شرمو ..
فدفعت الفوهة بعيداً وردت عليه :
- أمك الشرمو .. : رح من وجهي وإلا فرجيت عليك العالم !!
وأخرجت هاتفها من المحفظة واتصلت برقم وتعمدت ضغط الزر الذي يجعل المكالمة علنية وإذا بصوت يقول :
- من معي ؟!
فردت عليه قائلة :
- أنا الست سهير .. يا أزعر .. أما عدت تعرفني ؟!!
ردّ عليها :
- سامحيني .. سامحيني ست سهير .. أنا تعبان ونعسان ، سامحيني !!
فصرخت فيه :
- سامحتك، لكن صحصح، واعطني معلمك العميد أصلان .. أبو بشار !!
وإذا بصوت آخر يرد :
- أهلين ست الحسن ، من زمان هالقمر ما بان ؟!!
فردت عليه بدلال :
- أهلين سيد راسي .. أبو بشار ( واصطنعت نبرة عاتبة وقالت ) بس إذا لم تلحق هالقمر فلن يظهر مرة أخرى ، فهذا واحد من عناصركم يضع فوهة البندقية في وجهي ويهددني بالقتل !!
فقال لها بانفعال :
- وينه ؟!! أعطيني ياه .. ابن الحرام .. وشوفي شو رح أعمل لك فيه !!
والتفتت لتعطي جوالها للعسكري، لكنه كان قد سحب بندقيته عندما سمع صوت العميد وركض متعثراً إلى داخل الحاجز
فقالت للعميد :
- خلاص سيدنا، راح !!
قال العميد :
- طيب ، روقي حالك .. لا تعكري دمك .. وامسحيها بدقني هالمرة !!
قالت وهي تتنهد :
- مسحناها !!
ومع انتهاء المكالمة زفرت زفرة خرجت من أعماق روحها وقالت توجه كلامها للعميد :
- الله يخلصنا منك ومن كلابك المسعورين !!
وعادت تضغط الأزرار في جوالها واسترخت في مقعدها، فيما انطلق من الهاتف صوت المقرئ بسورة من القرآن الكريم ، فالتفتَ إليّ جاري مبتهجاً وهمس وهو يشير نحو سهير :
- شفت .. شفت .. لا يغرنّك المظهر .. البلد فيها خير كتير !!
فهززت رأسي موافقاً ، ورأيت سهير تميل نحو السائق وتشير له بيدها كأنما تطلب منه عنواناً محدداً فاستدار بالحافلة وانطلق بنا، وما هي إلا دقائق حتى رأيتنا في الحي الذي يقع فيه بيتي ، ورأيت سهير تشير للسائق أن يتوقف، فتوقف ، فيما جمعت هي أشياءها ونزلتْ ، وهممتُ أن أنزل لأني وصلت إلى مقصدي، لكني خشيت أن يظن الركاب أني أنوي اللحاق بسهير لهذا فضلت التريث، ونزلت بعد مرحلة يسيرة ، وعدت أدراجي صوب بيتي ، وعندما دلفت مدخل العمارة فوجئت بسهير تتوارى خلف البوابة، وعندما رأتني مدت يدها تصافحني فبادرتها بالسؤال :
- خير ؟! أراك عندنا !!
قالت :
- أهلاً دكتور ، وهل تقيم هنا ؟!!
قلت :
- أجل، بيتي في هذه العمارة، فماذا تنتظرين هنا ؟!
قالت :
- موعدي مع اللواء عزوز في هذه الحارة لكني خشيت الوقوف في الخلاء في هذا الوقت المتأخر من الليل فدخلت أتوارى هنا بانتظار السيارة
قلت :
- خير، أنا شقتي في الدور الثاني، رقم ٤، إذا احتجت أي شيء فأنا بالخدمة
فشكرتني واستمرت تنظر إلى الخارج بانتظار مجيء السيارة ، بينما صعدت أنا إلى شقتي، وما كدت أخلع ملابسي حتى سمعت صوت الفرامل في الشارع، نظرت من النافذة فرأيت سيارة جيب عسكرية تقف جانباً، ورأيت رجلاً بلباس مدني يترجل منها ويتوجه نحو سهير التي خرجت نحوه عندما رأت السيارة، وعندما أصبح الرجل على بعد خطوة منها مد يده لها فمدت يدها لتصافحه ، وإذا بلهب الرصاص ينطلق من المسدس بيده دون صوت فأرداها تتلوى على الأرض ، فاقترب وانحنى فوقها وأفرغ طلقات أخرى من المسدس في رأسها ، فهمدت تماماً، وحين اطمأن إلى موتها بصق على جثتها وركلها برجله وعاد إلى السيارة التي انطلقت به واختفت في العتمة!! فيما داهمني البكاء لهذه النهاية المأساوية، ووجدتني أردد :
- مسكينة .. الله يرحمك يا سهير ، لقد كنت كبيرة بحق، لكن كان حقدهم أكبر !! كل خدماتك لهم وتضحياتك ذهبت أدراج الريح !!
وسوم: العدد 682