جحيم الغوطة

محمد محمود عبَّار

أشجار مكسرة.. زروع محرقة.. بيوت مهدمة.. أنقاض وأطلال على مد النظر، عيون اغرورقت فيها الدموع والرؤيا صارت على ضوء الشموع، شم النسيم العليل بالعجاج يفوح.

لم يتمكن أبو محمد منع الدموع أن لا تسيل على وجنتيه عندما راح يروي قصته في جحيم الغوطة التي كانت يوماً ما تغني للطيور المغردة، بجمالها وعطر ورودها.. شقت الآفاق بأريجها.. متعت الأنظار برونقها.. شدت الأرواح برياحينها.

الآن ما عاد يسمع سوى تغريد طائرة الميغ بدويها وانفجارات قذائفها، ما وجد غير جسمه يغطي به أطفاله الزغب النِحال يحميهم مما يجود به طائر معدني حلق في السماء قبل أن يهبط المساء:

- بينما نحن على هذه الحال أعاود لقطات من النظر في وجه أم أطفال كالح أكل الرعبُ كثيراً من نضارته التي كانت في الماضي، إذا بواحد من الرجال الأشاوس يدفع باب الدار بقوة يعالجه حتى إذا قدر على خلعه ركض نحونا منادياً:

- هيا قوموا معي لا تبقوا ها هنا.. البقاء هنا خطر عليكم.

أخذ يشدنا بعنف حمل اثنين من الأولاد، أنا وزوجي تكفلنا بالثالث، رحنا نعدو معه مئات الأمتار، كلانا يلهث.. كدنا ننكفىء على وجوهنا من شدة الإرهاق عبر بنا قبو بناية، أودعنا المكان إلى جانب من غصت بهم القاعة، غادرنا مسرعاً وهو يقول:

- أنا ذاهب لإنقاذ أسرة ثانية بعون الله.. سأعود إليكم سريعاً.

مضى جل النهار ثم هبط الليل بعتمته ودجاه لكن ذلك الشاب الشهم لم يعد، تناولنا شيئاً من الزاد مع الآخرين.. عل ذلك الطعام القليل يقيم صلبنا ويعيننا للبقاء على قيد الحياة.. منذ يومين لم نذقه نحن وأطفالنا المساكين، ما كان للنوم أن يداعب أجفاناً قرحها السهاد وعيوناً محمرة من النحيب والبكاء.

أصبح الصباح ولم نكد نصدق أنّا ما زلنا على قيد الحياة، حتى الساعة لم يخترق طائر الدمار جدار الصوت، خرجنا نتنفس قليلاً من الهواء الطلق قبل أن يخالطه التراب ويمتزج بالغبار، تجولت قليلاً في الشارع، يا إلهي ماذا أرى الرجل الشهم الذي أنقذنا ملقىً على القارعة تناثرت من شبابه الأشلاء، بجواره أفراد عائلة أخرى.. أجساد ممزقة وأيد مبتورة وبركة دم قد جف من البارحة، هكذا نُقتل بسلاح دفعنا ثمنه من عرق جبيننا.. من قوت أطفالنا.

لا أراكم الله مكروهاً مثلما رأينا في هذا اليوم والأيام السالفة، هكذا جمال الغوطة ببساتينها الغناءة تحولت إلى جحيم من نيران ودمار وركام.

ناديت بعض رجال القبو ومن النساء من هن قادرات، يتعاون كل اثنين على حمل حرام قديم ضم مجموعة أعضاء لشهيد واحد كي نواريهم التراب في شق طويل سلف إعداده من سائق جرافة متطوع قبيل أن تصاب آليته بصاروخ مقيت.

بيدي دفنت الشاب العشريني، مزق جسده صاروخ أعمى، رماه والعائلة التي معه عربيد أصم أخرق.

ما كدنا نفرغ من مهمتنا المضنية المبكية حتى جاءنا الطائر الأسود من جديد يتصيد فريسته الدسمة، تفرق شملنا سراعاً، منّا من ألقى نفسه بين الأنقاض، آخرون اختبئوا خلف الأحجار، سقطت براميل في فراغ وأخرى أصابت أبنية متأرجحة لم يكتمل سقوطها حتى اليوم.

كان لا بد من الإجهاز عليها مثل ذبيحة ظلت تصارع مصيرها بين حياة وموت.

بعدما انصرفت غربان الموت هرعنا راكضين من حلاوة الروح إلى مخبئنا الذي اختاره لنا المرحوم الشهيد الفذ الحي في قلوبنا، ستبقى ذكراه مرافقة لنا ما حيينا وأنّى ذهبنا.

ما زلنا ننتظر الخروج من وسط الجحيم الملتهب والركام المنحدر.

أجيل ناظري في البطاح وأرسلها نحو الآفاق وراء الركام والدماء والاشلاء.. أرقب يوماً تغمر بلادنا ظلال حرية ونسمات سلام.. خضرة وسلسبيل ماء زلال.

وسوم: العدد 683