ذو العطر الفرنسي
(1)
من شدة التعب لم ينم بعد عودته من عمله فجراً، وغفا قبل الظهر بساعتين أو ثلاث. استيقظ بعد الاقامة بربع ساعة. كان عليه أن يصلي في مسجد المدينة مع مَن تأخر مثله، لأنها الصلاة الوحيدة التي يمكنه حضورها. وعليه أيضاً أن يتدبّر أموره الأخرى، يزور الطبيب وغالبا سيصلي هناك، ويشتري طعامه.
توضأ وخرج بالكاد منع نفسه من الهرولة. كان ثمة مصلين جالسين، ولمّا اقترب منهم سلّم الإمام وسلّموا.
صلّى التحية والقبلية وانتظر وحده. أخيراً جاء من المتوضأ شاب في الثلاثين، صاحب لحية طويلة. أخبره أنّه سينتظر فراغه من السنة ليصليا معاً. تردد الشاب وهمَّ بقول شيء ثم سكت.
كانت أبطأ صلاة شاهدها في حياته لمصل، وندم على أنه ربط نفسه به. اعتقد عند سجوده الطويل أن شيئاً حصل معه وربما مات، وعند كل لحظة كان سينهض فيها ليتفحّصه عن قُرب، كان الشاب يأتي بحركة. لو كان يعلم عن بطئه هذا، لاستغل الوقت الملحّ في شراء حاجياته لعمل الليلة.
إنّه مرهق. لم ينم إلا قليلا، والعمل (عندهم) مرهق جداً وطويل لا يترك وقتاً إلا للنوم ومسافة الوصول، لكن لا خيار أمامه. إمّا هذا أو البطالة أو الأجر المتدني جداً الذي يذهب نصفه مع المواصلات. ولمّا كانوا هم مستفيدين على كل الأحوال، بيعا وشراءً ومواد جاهزة أو خاما، من اصحاب العمل المحليين أو سماسرة السلطة، آثر العمل عندهم.
ستكون الأجرة أعلى بثلاث مرات. سيفقد مع المواصلات وسمسرة المتعهد العربي وحاجياته الثلث، فيتبقى له الثلثان.
أخيراً فرغ الشاب ودعاه بوجهه ليصلي وافسح له ليكون الإمام. فكّر، لئن كانت صلاته بهذا الطول فإنه سيحتاج إلى نصف ساعة! لكنه حسم الأمر ورفض بهزة رأس. لا يحفظ إلا قصار السور، والشاب أولى مع أنه أصغر.
(2)
وصل المعبر الذي لا يسمح بمرور إلا من هويته من الفلسطينيين زرقاء أو العمال أو حملة التصاريح. عند البوابات الالكترونية، أي المرحلة الثانية، أعاقوه. انطلق صوت الانذار فانغلقت كل البوابات الالكترونية. علق من علق داخل المزالج، وعادت الأشرطة إلى الخلف فوقعت الحاجيات على الأرض، وتبعثرت قطع نقدية، وتحطّمت جوالات.
من حسن حظه أن جواله لم ينكسر وانطفأ فحسب. سيتأخر الآن، ما من شك. وسيخصم اليهودي ثلاث ساعات عن تأخّره لساعة واحدة.
كان غارقا في كآبة الخصم المنتظر، حين انتبه لتمتمة الرجلين اللذين معه. نظر إليهم متسائلا، فلم يقولا له شيئاً، بل شتم أحدهم شخصا ما بكلمة بذيئة، وضحك الآخر.
لم يفهم السبب، إلا عندما لمح على الأرض قطعا بلاستيكية مغلّفة ودائرية. عندما تمعّن فيها رأى أنها واقيات ذكرية. كانت من ضمن الحاجيات التي سقطت عن الأشرطة العائدة للخلف. تحفّظ وعزل نفسه. لا علاقة له بالأمر وقد تكون الواقيات من مؤسسات تنظيم النسل.
قدمها للشخص الضاحك حاسباً أنها له، فرفع كفّيه متراجعاً:
- أعوذ بالله، ليست لي!
قدمها للرجل الشاتم، فقال مشيراً بيده:
- إنها للمـ.... المحتجز في المزالج!
نظر فإذا به شاب قصير الشعر، مهندم، حليق الوجه، وبشرة وجهه شديدة البياض. كان يطأطئ رأسه خجلاً ويضع وجهه في الأرض.
اقترب منه واعطاها له، فتسلّمها الآخر بعينين منخفضتين.
ثم صدر صوت الموظفة بعربية مكسرة منبّهة العالقين أنها ستشغّل المزالج فليستعدوا للعودة إلى الخلف.
وعاد العالقون وانضموا للآخرين، وطُلب من الجميع النظر إلى كاميرات غرف الانتظار. وقف الحليق الشاب إلى جانبه، وعطر نافذ فواح ينبعث منه.. لم يجهل نوع العطر!
صارت الأرض المقدّسة محرّمة إلا على العجائز والعمال الأذلاء والداعرين واضعي العطر الفرنسي المثير! أشاح بوجهه عنه.
وسأله الضاحك الشابَ المنزوي يحاول أن يسخر منه أو يفتح حديثا:
- كم تأخذ منك؟
- ...
- أهي روسية أم يهودية؟؟
ولمّا لم يرد تمادى واقترب واضعاً كفّه على كتف الشاب. استنفر الأخير وتحرك بشكل دفاعي ورفع الكفّ عن كتفه. حينها عرفه..
لقد كان مَن أمّ به في الصلاة!
وكاد شجار ينشب، لولا أن انبعث صوت الجندية من السماعة مجدداً، ينبّه الجميع أن يستعدوا للتحرك.
(3)
لقد صُدم صدمة كبرى.. خاشعٌ في صلاة الظهر طويلُ اللحية، وبعد العصر يحمل معه واقيات في طريقه لـ.. أو امرأة ما!
وهمّ بقول شيء لائم شاتم لكن شيئاً آخر تقلقل فيه، فأخذ يحاول فهمه.. لقد كان يطيل الصلاة عن شعور بالذنب إذاً؟؟ هل هذا سرّ خشوعك؟؟
عندما التقت اعينهما تناقلت معان خفية شديدة الجدّية وليست متّضحة. يكاد الشاب يقول شيئا بصمته البارد.
عندئذ أحسّ بالذعر وتمالك نفسه!
(4)
بمجرد أن تجاوز المزالج الدوّارة الأخيرة وابتعد عن الكاميرات التي ترصد كل شيء، ثقب جيب بنطاله بمفتاح بيته وأخذ يوقع عن عمد نقوده. لحسن الحظ كانت كلها معدنية. بعثرها على مسافة مئة متر وتمنى ألا ينبهه أحد إليها. إن صوّرت الكاميرا عند التفتيش قطعه النقدية أو التقطتها آلة الأشعة، سيكون الثقب مبررا لفقدانها.
لمّا وصل السيارات تشاغل باستخراج ماله والدهشة. ثم بدأ يطوف على سوّاقي السيارت والحافلات أن ينقلوه معهم وسيدفع لهم في المرة القادمة. لم يقبل أحد. وكان ذلك كل ما يحتاج إليه.
اتّصل بالمتعهّد العربي، السمسار الذي يشبه السلطة، وأخبره أنه أضاع نقوده ولا أحد يقبل بايصاله. طلب منه المتعهد أن ينتظر، ثم سمع على الطرف الآخر صوت اليهودي:
- ما بتيجي اليوم بتروخ تلات أيام. غيب كمان مرة بروخ التصريخ.
وعاد إلى بيته مشياً على الأقدام. عجز عن النوم أو التفكير أو الأكل أو قول شيء لأحد، وتظاهر بالنوم.
بعد صلاة المغرب بثّت الفضائيات الخبر العاجل. على مقعده أمام التلفاز تكوّر كقنفذ على السرّ الذي اطلع عليه. كانوا يبثون صورته لكن مع لحية. وبسبب التحفّظ والصدمة، أحسّ أن سجوده أو جلوسه في صلاة العشاء أطول كثيراً مما اختبرهما من قبل. الآن سيحققون وربما لحقه شيء. الذي شغله كثيراً ونام على وقعه، هو أنه يستطيع أن يبرر كل شيء أمامهم، أولئك، لكن ماذا عن هؤلاء، أصحاب الكاميرا التي تراقب المسجد ومصليه، والتي صورت الشاب وهو يؤم به؟
وسوم: العدد 688