ابن الحرابة
حين قال الضابط بالانجليزية، وهم يغادرون: "سنصطادك يوماً أمام حظيرة دجاج"، عرف أن تهديده جديّ.
//
فتّشوا البيت وقلبوا كل شيء رأساً على عقب، وخلطوا السكر بالملح والزيت بالكلور، وصادروا عدة أوراق إضافة للجوال. وكانت هي معهم، بزي الجندية، وتراقب بكل خنوع، لا هي امرأة ولا هي جندية.
لم يكن خائفا، منذ شهور يتوقع الاعتقال في كل لحظة. لم يكن لديه ما يقلق بشأنه. فليفعلوا ما بدا لهم، تهمة لن يستطيعوها ومصادرة للأرض لن يدخل حيزها أبدا. ولو سجنوه ألف سنة، فإنه لن يبالي بشيء.
كانت هي آخر من يخرج، ومالت عليه:
- لا تنس أبراهام.
أبراهام وليس ابراهيم!
لا يبالي. معروف أنه مستقيم كالسطر، وليس متورطاً في أي اختلاط ناهيك عن العلاقات، ومهما قالوا فستحتكم الناس في النهاية لما يرونه.
أما قانونيا، فالدي أن إيه حتى في محاكمهم ليس بالاثبات، إذ يمكن الحصول عليه بطرق مختلفة، منها حين كان في الزنزانة، حين اعتقلوه قبل خمس سنوات، إذا صحّ ما قالوه عن الطفل. وهذا ان انفضح تزلزل الرأي العام، وشك القسيس في أمّه، ورفض الرأسمالي ابنه أو السيناتور زوجته.
ليستعملوه وسيلة اكراه، عليه أن يقبل هو بها أولا نقطة ضعف.
أمّا شرعا، فلا يؤخذ به، ولله حكمته المتعالية ابد الدهر. الاشهار والشهود والوليمة والايجاب والقبول.
هي لا تؤثر فيه. ولو كلفوه باعدامها ذات يوم، فسيطلق الرصاصة بنفسه عليها. سخر منها:
- مبارك عليك! قد يحرّكه الدم يوما، فيتصرف على فطرته!
//
- ما ذنب ابراهام؟
ويكرر الضابط بانجليزية أمريكية واضحة اللكنة. هو نفسه من طلبه للتحقيق قبل شهور. وعلى المكتب رمى ورقة المختبر وعرض عليه صورة الطفل وحاول ابتزازه والايقاع به. لاحظ فورا الشبه.
لا إنسانية ولا ما يحزنون. يقتلون في الغارة الواحدة العشرات من كل الأعمار ومعهم الأطفال. ابن الزنى أو الحرابة ينسب لأمه. هذا هو حكم الشرع. ليس عبثاً أن النسب عندهم يعتمد على الأم لا الأب، لأنهم على ما يبدو يعرفون أنهم أبناء حرام.
هدفهم الأول والأخير هو الأرض، وهذه سيبحث لها عن أم جديرة لابن يحافظ عليها ونسب يعتد به.
//
يفتّشون ويبقرون الفراش والأثاث يفتشون عن شيء ما. لن يجدوا شيئا. الوثائق المهمة صور أكثر من صورة عنها وصدّقها كلها وحفظها في أماكن خارج البيت، مختلفة.
تذكر ما قاله الضابط في المكتب عن سعيه الدؤوب لايجاد امرأة:
- اسمع، نحن لا نستطيع فرضها عليك، ولكننا لن نقبل بأن تتزوج من أخرى. يجب أن نحل مشكلة ابراهام.
تلك مشكلتهم هم وليس هو، والله سبحانه وتعالى يحيط بالمصائر. من يستعمل الزنازين كمختبرات لأخذ النطف، من ثم استغلالها والتوريط، يتحمل المسؤولية.
- هي عربية مثلك، وبكر حتى هذه اللحظة.
هذا ما يعتقدون أنه يحرك العرب. بكارة! العرض الوهمي لا الدين أو الأرض.
يعني ذلك، إن صدق، أنها ولدت بعملية قيصرية وأنها خصّبت بالتلقيح. ها هي معلومة متسربة سينتفع منها في المستقبل. لا يبالي. بكر أم حسناء أرضية أو ثيب مليون مرّة. الصراع عقائدي وأحد تجلياته الأرض، وسيجعل الله له مخرجاً. يوما ما، إذا أراد الله، سيخبر ابراهيم ما الذي حدث.
- ما ذنب الطفل المسكين؟
إنسانية شديدة الإنسانية! حتى الإنسانية هناك ما يسبقها، العقيدة، الحق والباطل. ليست الانسانية إلا أداة تنسجم مع منطلقها، ويختلف معناها بالتالي. بالنسبة لهم، الأغيار قطيع من الحيوانات التي يمتلكونها ويمكنهم تدجينها وتحسين نسلها لصالحهم، ولا مانع من موالفة هذا مع تلك، إن لم يكن بالحسنى والاغراء فبالاكراه، وفي الأثناء يمتلكون ما يستطيعون امتلاكه، الأرض.
- ماذا سيقول الناس؟
ليقولوا ما يريدون. مريم عليها السلام مرّت مع الناس فيما هو أسوأ. سيجعل الله له مخرجا. معركة الانسان فردية في لحظتها الأهم، وقد يجد نفسه ضد كل الناس. لا بأس، الدنيا أرض ابتلاء، لا جزاء.
- افعلوا ما بدا لكم!
//
كانت تقف بالسلاح جانباً، بين الجنود الذين يفهمون ولا يفهمون، متحفّزه لأي شيء. لتلقي الأمر مثلا وتنفيذه. فلتقتله. لن يقبل بها، وبعد ذلك سيتدحرج القتل بهم ليأخذهم واحداً واحدا. كان يتأمّلها متجاوزاً أي اعتبار. لم ير الا مغسولة دماغ. هذا ما يخافه في المرأة: أن يتحد ضلالها مع أنانيتها، وعندها لا اعتبار لشيء آخر عندها.
لا يهمها شيء. عربية تخدم في جيش الدفاع، ولا يهم إن كانت بدوية أو درزية أو شركسية. وستنفّذ لهم أي أمر، طالما لا يمسّ ذلك سمعتها المحددة. العار عندها ليس أنها خانت الله ورسوله أو أنها جندية معهم أو متصهينة، بل أن يتكلم أحد في شرفها، بكارتها. ربما لهذا هي عنيفة. أن تنفضح بين ربعها ويطيش صوابهم فلا يرون حتى "الدولة".. هههه!
سينقلب سحرهم عليهم ويتدافع القطيع المهجن في كل الاتجاهات ويدهسهم! وإذا عرف الناس ما يحدث، استماتوا عندئذ في الدفاع عن أنفسهم.
ليتصاعد الموقف وليحتد الصراع. هذا هو الحق الذي لا يمكن للباطل أن يحتويه أبدا.
- على الأقل، لا تتزوج من أخرى.. أهلها ينتظرون أن يحلوا المشكلة معك.
صارت مشكلة عربية الآن!
لو استطاعوا -نخوة الزيف أولئك- لظهروا وفرضوها عليه، لكن ماذا يقولون للناس؟ واعتبارات الدولة الأكبر تمنعهم، أن يتكشف سرّ أمني. ومضى الوقت ولم يظهر للطفل أب وانفضحوا جميعا.
الله أعلم. لا بد أن لهم سجل نسب سريا في خزانة ما يستعملونه وقت الحاجة. يخلطون الدماء عن عمد ويدنسون، وفي اللحظة المناسبة يستغلون. ولا بد أن لهم تغطيات ووضعوا خططا جانبية. لم يبال. كان مستقيما كالسطر وكل الناس تعرف يومه. بل انه احتمى بالرقابة ذاتها ليؤكد وجوده بين الناس، فيشهد هذا على ذاك، وهؤلاء على اولئك، وفي النهاية جميعهم على بعضهم.
بلى، سيتزوّج. سيجد امرأة صلبة، لكن هذه أين سيجدها؟؟
ولاحت له امرأة، متدينة وأهلها أشداء، وجسّ النبض. ولكن في ليلة الطُلبة، هذه الليلة، اقتحموا البيت. سيخرجهم من الصراع وسيخرجها. غالبا بعد أن يعرفوا الحكاية لن يقبلوا. لا أحد يضع نفسه في بوز مدفع، خاصة إذا كانت غريمتهم جندية متحدة مع أنانيتها الأنثى، شديدة الشراسة، وقومها تحركهم النخوة المزيفة، الفضيحة!
هؤلاء إن تصاعد الموقف سيتواجهون مع أولئك، انسبائه. لا. سيخرجهم من الصراع، وسيبحث عن عقائدية فقيرة صلبة تتقن حمل السلاح واستعماله.
//
ولما لم يجدوا شيئاً في البيت ولم يقل هو شيئاً، قال الضابط وهو يخرج:
- لا نستطيع فرضها عليك، لكن سنصطادك يوما أمام حظيرة دجاج!
فهم أنه يعني امرأة ما يزجونها عليه أو يتورط معها. ومالت عليه وهي تخرج:
- لا تنس ابراهام.
(لي تأمل، أن الاغتصاب –ونحوه، كما في هذا النص- حرابة وليس زنا، وهذه دعوة للمعنيين..)
وسوم: العدد 689