جحافل الشوق

هل جربت أن يخترقك الشوقُ فيدمي صبرك وتجلّدك، ويبدد كل قلاع الإباء التي تتحصن مناعتك خلفها، وتهبُّ عليك جحافله كريحٍ غَشوم تنتزع من كفك القابضة على بقايا ثياب كانت تستر كبرياءك فتتشبث بها خوفاً من عُريك الذي تحرص ألا ينهار مرة واحدة؟!

وهل داهمك الحنين حتى بِتَّ لا تعرف النوم، ولا تلذُّ بطعام فاستعضت عن كل من حولك بخيالٍ خصب معطاءٍ لا يعرف الـــ (لا) وقد أسقطها من أبجدية متآكلة، ليترك لصدره أكثر أن يبتكر أبجدية جديدة، حروفها الدفء والوفاء والهناءة، فتحار بين حروفها، وتتمنى أن تُحسها بجسدك، وتُساكنها عيناك، فيرتعش قلبك، إذ ترسم الأصابع المتلاصقة فوق المنضدة علامة السر التي اخترعتماها معاً كعلامة لتحيةِ شوقٍ لا يفك رموز شفرتها إلا قلباكما.. قلباكما وحدهما.. ولا يحس من حولكما بالفرح المسافر بينكما.. وتضيع من عينيك إذ تريان "علامة السر" كل الرؤى التي خزَّنتها في ترسانة الرفض الذي اتشح بالإعراض وامتطاء الرحيل إلى سكون اللامبالاة الحارقة لكل ادعاء يملك وجهك أن يرسمه في براءة مُفتعلة تدفعك إلى حافة البله الذي يُعينك على تمثيل دور اللامبالي، وإذا الهجر الذي بدأته أنت ناراً بدأت بك فأحرقتك وأنت تكابر وتُصابر؟!

ويحك ماذا تريد؟

ويدفعك الشوق من حيث لا تدري إلى الغرب، فتمتطي وجدك مُسافراً إليها، وتهيم روحك إذ تخترقك نسمات الصنوبر التي تكاثفت أشجاره على جانبي الطريق، فيخفق قلبك، وتشعر بحميمية دافئة مع كل شيء حولك، حتى المطبات التي افتعلتها البلدية في الإسفلت لها خصوصيةٌ حبيبةٌ لقلبك.. قد يلعنها البعض إذ تقفز سياراتهم وتهبط مُحدثةً هزة منكرة في أعصابهم.. وحدك تشعر لهذه المطبات بحب شديد، فأنت في هذا الطريق بالذات لا تسرع.. ولماذا تسرع؟ .. والقلب يقودك ويرسم خطواتك، فتتهادى سيارتك صاعدة هابطة كأنفاسك الحرَّى التي يختزنها قلبك المحب...

ويَفْجؤك اللحن المتآمر عليك "هالبنت يلي بيتها فوق الطريق" فتضيع منك الإشارات، وكفقد تحديد المعالم، ولا تدري ممن كانت المؤامرة.. أمن فيروز التي ألهب صوتها هذا الشوق المسافر فيك، أم من برنامج "يسعد صباحك"؟! فيعلو وجيب قلبك، كأن الأغنية كشفت سرَّك الذي تُخفيه سنين حتى عن روحك، وتمضي موجوع القلب، وتتعلق عيناك بالعُلُوِّ الشاهق عن يسارك، تستنجد بهبة وجدٍ تسكن قلبك كما أسكنته راحتها ذات يومٍ! فلا تملك ردَّ زفرة صاحب ليلى "... ولكن حب من سكن الديار".. وهي تطفو على ذاكرتك، ويخضع لها لسانك، فيهمس بها موجوعاً فؤادك..

وتمضي مخلفاً العلو عن يسارك – رغماً عنك – وتصل إلى الستار الذي تعللك به.. أكنت تهربُ حقيقة من أن يُلجموك إلى الكلام وأنت تلوذ بالصمت المعتق في جرار الصوم الطويل؟! فإذا ما تخطت قدماك عتبته، وعشت في قُدسيته، وجدت شيخهم يتحدث.. وكم تكره الحديث قبل الصلاة يوم الجمعة يقذفك به جهل بعض الأئمة، وولع المتقاعدين في نرجسيتهم بعدما أفلت الشمس عنهم، فهم يتمسكون بذيول الظلال التي كانت لهم يوماً، فلم يجدوها إلا في مضطرين لسماعهم رغم أنوفهم، يُجبرهم على هذا مؤامرة بعض موظفي الوزارة الذين يُوزعون الأرزاق على الأصحاب والأحباب، وينشبون أظافرهم وأنيابهم في سنة المصطفى، إرضاءً لسُلطان الجهل المُعشش في العقول، ونرجسية تقاوم الأفول، والسيف المسلط على الرؤوس مُصر على استوائها تحت الخط جميعاً، والويل كل الويل لمن يبدي فهماً، أو يظهر عزماً، فالزمن زمن النفاق، والرضوخ لصولة الكرسي أياً كان شكله وحجمه والجالس عليه!!

وتنتهي حفلة الجلد التي تحسها العقول والأبدان من صوت الشيخ المعجون بالجهل والنرجسية والسادية بصوت المؤذن.. المؤذن الذي ألبسوه عباءة غير بُردة النبي (صلى الله عليه وسلم) فرضي بها، ثم صعد الشيخ المبجلُ – رغم أنوف الحاضرين – ليواصل الجلد وقرع الآذان، ولولا الحياء لأغلقت أذنيك حتى لا يتسرب إلى عقلك خطأ لا يجمل بك السكوت عليه، أو تستكين روح الرافضة لما يرضى به من لا يعلم فتصبحون في البلاء سواءً.

وتُقابل بعض قلبها هناك.. آه من "هناك".. لو كانت تدري ما وجعك؟ وما انفلاتُ الروح منك إذ لا تجد صنوك الأرضي يفهمك!! ويظل حزنك الغذاء الذي تستنيم له الروح..

وتقربه إليه.. فتحس أنفاسها فيه.. وتحنو عليه حُنوك على الرأس الذي تعوّد النوم في طمأنينة دافئةٍ في حضنك...

وتنتهي موجة الجلد.. وتقوم لمناجاة مولاك، وتغتسل الروح بنداه، وتخرج، فإذا الأرض غير الأرض، وإذا بعض قلبها قد ابتلعته الأرض، فلا تدري كيف اختفى؟ ولا أين؟ ويُسقط في يدك طول الحقيقة التي انتصبت أمامك واضحةً وضوح شمس الظهيرة في ذاك اليوم الصائف، وتلوك فجيعتك، وتمتطي حُزنك، وتعود أدراجك وقد تَضرَّج الفرح الذي جئت به، وأُثخن الحنين الذي حملك على المجيء..

وتعود مُشرقاً، ولا يُطاوعك قلبك أن تنظر يمينك إلى "فوق الطريق" وقد هاجمتك أسئلةٌ شتى، لا تدري من أين جاءت؟ ولا كيف نبتتْ؟.. كلُّها تدفعك إلى زاوية حرجة تلوذ بها من هذه الهجمة الشَّرِسة، وتهتز في وجدانك أحلامُ الليل والنهار، وتتساقط علامات الانبهار، لينتصب مكانها نُصب الحقيقة العارية التي تقودك إلى مراجعة النفس، وإذا بها تستقرُّ في مجرى نهرٍ حافتاه سؤالان: "هل العصا من العُصية؟" و "هل تُشبه طيور الحجل صخورها"؟

ويهزُّ رأسك نافضاً عنك الظن الموغل في يقينك حبٌ تغلغل في أعماقك، ولدته سُهومات النهار، وسُهاد الليل إذ ذراعك ممدودة لينام عليها خيالٌ تستحضره كلَما تاق رأسك لوسادته..

ما أفجع الحبَّ إذ يُغطي على عينيك فلا تُبصر موقع قدميك رغم وضوح الشمس ومخايلةِ الطريق لك..؟؟ وتنفض رأسك مرة أخرى لتتخلص من شكّك الذي انتصب أمامك بقوةِ مسلَّة فرعونية تغوصُ في عُمق ميدان تتقاذفها آلاف العيون فلا تتوقف عندها كثيراً.

وتعود أدراجك، والفرحُ المخبأ في صندوق سيارتك يئن من الفجيعة، وينزُّ وجعاً ممن اختارهم قلبك، فتلقي باللائمة على هذا القلب الغشيم الذي لا يُصدق إلا نفسه رغم انبلاج الشمس عليه كل يوم.. لكنه لا يرى!!

وتأتيك الاعتذارات ليلاً.. وتفرحً بها.. لا لشيء.. إلا لأن قلبك يحبُّ.. فيميلُ إلى التصديق.. غشيمٌ.. نقطةٌ من نقاط ضعفك التي تُسلِّم بها.. وتندلق عليك نعوتُ الوفاء.. تُصدق .. وتصدق.. وتنتظر!! ويقودك قلبك الحرون إلى هواه، ويرفض حوارات عقلك، وتقديرات من سبقك "الوفاءُ فعل يُؤتى وليس كلاماً يزخرف" فعل الشعراء الذين "يقولون ما لا يفعلون".. يا هذا!! دعْ الادعاء يُغادر يقينك، فالكذب بضاعة رائجة، يُحسنها من لا أخلاق لهم، وهو عند بعض الملاح سلاح.. ولا تُصدِّقُ!!

ويحك.. متى تُصدق؟!

ويأتيك خنجرها المسموم من قِبل ظهرك.. فينفذ إلى أعماق قلبك!! يستأهل!! إي والله يستأهل.. كم من الإشارات والصور مرَّ عليها ولم ينتبه؟! آلافٌ يطعنون في الظهر.. لكن أوجعها – حتى وإن لم تُمِتْك – إنْ كانت من لسانٍ ذاب وجداً في فمك ذات ضحوةٍ، أو أنامل ناعمة دبَّتْ على جسدك في نشوةٍ، أو ريقٍ انزلق في جوفك وأنت في غيبوبة الوجد تستزيد، وشريك روحك إذ يمسح خده بخدك متأوهاً طلباً للمزيد...

وتُصدق..

وتصدق..!!

وقلبك الذي تمترس الحُزن في أزقته ودُروبه ينسى.. يُسامح.. ويلوذُ بالصمت الموجعِ.. وكلما هبتْ ريحٌ زعزعت سكونه، وأيقظتْ همومه، وإذا بك أمام فجيعة أشد، عندما تتيقن أنك أمام تاجر.. يبيع بضاعته – وأي بضاعةٍ هي؟! – يا ويحها من بضاعة.. لكنها رائجةٌ.. نعم رائجةٌ.. لم تكسدْ في يوم من الأيام.. بل يشتد عليها الزحام.. ويكثر فيها الخصام – وإذا من منحك هذه البضاعة ردحاً من الزمن قد باعها لغيرك!!

باعها من قبلك..

وباعها من بعدك..

وتمتلئ خزائنه شُهرةً وصيتاً، ويُنحر الوفاء من الوريد إلى الوريد، وتبقى المزايدة في الادِّعاء.. كل الناس ينتهبون الفضائل ادعاءً وانتساباً نعم يدَّعون الوفاء كما يشاؤون، لكن هل اعترف الوفاءُ بهم؟! ويطنُّ في أذنك صوتُ الحقيقة المجردة مرةً أخرى "الوفاء فعلٌ يؤتى لا ادعاء يُدلق"..

وتندمْ..

تندمُ إذ ألغيت عقلك فترةً من عُمرك لتركض خلف قلبٍ مخموم، فساقك إلى غير دربك، وتُعاودك المطبات التي في الطريق.. إنها نزقةٌ مزعجةٌ.. ابتكرتها أيدٍ لئيمةٌ تتآمر على حسِّك الموغل في غيبوبة الفكر الموجع الذي تلَبَّسك حال الرُّجوع..

وتدفن نفسك في الرحيل لعلك تنسى.. لعلك مسامح..

ويمضي بك قطارُ العمر.. وتسامح..

وتغزوك موجاتُ الحنين.. وتسامحْ..

وتقولُ: دربي أن أسامح.. الحاجة إلى صلاةٍ نقيةٍ مؤهلةٍ للعروج أن أُسامح.. وتمرغ الوجه في الأرض تقرباً لمولاك.. وتسامح.. يُصرُّ أن تسامح.. وتدعو الله أن يجعل دربك درب مُسامحٍ (ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا)... وتسامح..

لكن الليل والنهار .. ومُتساقط الأخبار.. الحرارة التي تحسها بجسدك ولا تُبصرها عيناك تقول: الغدر لم يتوقف.. الطعن في الظهر لم يتوقف.. الكذب لم يتوقف.. جراحُك ما زالت تنزف.. ألا يُحسُّ؟!

بلى أُحسُّ!!.. أحسُّ في الإعراض والإفساد.. أحسُّ في خطوات القَتَّات تدبُّ خلفي.. تتبع ظلي.. بالأمس كانت مريم.. واليوم سميرة – وبينهما أسماء كثيرة.. وتحار.. أهي غيرة؟!

فإن كانت غيرةً.. فالحبُّ ما زال مغروساً في عمق القلب لم تُزحزحهُ العواصف!! لكنه أخطأ الطريق في الإعلان عن نفسه، وسلك درباً تُدمي أشواكهُ الأقدام، وتستجلب الأسقام، وتهدم الروح إذ تُرفرف وجداً وحنيناً..

وإن كان كُرهاً.. وحُباً في الانتقام لأنك هجرت مُبكراً.. وسافرت في روعك من غير وداعٍ – وهل تنسَ المرأة من تركها؟! – لا .. لا .. لا .. ويبقى من هجرها الرقم الصَّعب في حياتها، مهما ادعتْ غير ذلك، وأمعنت في الكتمان.. وتظاهرت بالنسيان لكن يفضحها اللسان.. ووجعُ الحرمان. فلتعلن كرهها إذاً .. فتتقيه ويتقيها..  أو تسلك الدرب الصحيح وإن كان في  غير اتجاه الريح.. أو يلتقيان لتكفين الحب الذي كان، ودفنه بلا أحزان!!

وسوم: العدد 689