راية

عصام الدين محمد أحمد

قعدت فوق رصيف مقهى مغلقة ، العينان مطبقتان تمامًا،الخلايا تنتفض وكأنه يعاد تركيبها ، أتقيؤ مرة ومرة.

- هذه المرة ربما يُرْدِيك الاختناق !

- فعلًا هنا حرب حقيقية.

هكذا تفوَّهت بصوت مسموع ،أطياف الأولاد كأشباح طائرة،يتكدسون فى جميع الحارات المؤدية للداخلية ، الصور مهزوزة ، منذ دهر لم أزرْ المقهى الذي أنا على رصيفه.

(يتنقل روماني وهيئته الناعسة بين الطاولات ، أتجرع زجاجة البيرة الأولى دفعة واحدة، ترتخي أعصابي ، أأبتسم فى وجه جالسي الطاولات المجاورة؟ ،يزيحني الفارس من مَقْعَدى، يجلس قابضًا على مبسم الشيشة من بين أناملي المستسلمة،أناوشه الوجود، الأدخنة المبتلة برذاذ البيرة تركُسني أسفل شارة السكون ، سكوت (هيصور).

بنت حليبية البشرة أمامها عشر زجاجات بيرة، تُمعِن النظر إليَّ، هكذا يجنح بي الخيال، يتأجج الفارس غيظـًا،أخشى غضبه،فأتجرع الزجاجة الثانية،لحظتها تغمدني الإحساس بالقدرة على المقاومة،الفتاة صاروخ يحطم كل القلوب.

- بماذا ستحظى من هذه الفتاة؟

فأرد عليه مبتهلًا:

- ربما نظرة أو لمسة يد!

يخطف الزجاجة من يدي ، يدلقها فى جوفه.

يترنم:

- لن أدعك تحقق ما تريد.

الفارس لم يعترض على انتقالى من مقهى إلى آخر،أستحلب زجاجات البيرة،استأثر بالفتاة الحليبية دوني ، وها هو الآن يقذفني فى الطرقات،آملًا أن ترديني قذيفة آر بي جي أسفل الأقدام ، حتى ألعق الأحذية الميري.

- ألم أقل أن فارسى فنجري بق! )

أرجع إلى الوعي، ولا أملك تفسيرًا لتذكري المقهى؛ فالغبار والبكاء والترقب لا يتيحون لك رفاهية السفر، معظم من بالشوارع هم من الأولتراس،أعرفهم بصورة لا تقبل الشك.

- صادق يا باشا.

أنهض على مضضٍ،ألملم أشيائي المهلهلة، أرتدف مسيرة هائلة، مسحت شارع القصر العيني بحثـًا عن أفراد شرطة، وكأن الأرض ابتلعتهم جميعًا.

يرددون شعاراتهم:

- الداخلية وسخة.

- بخمسين فى الميه عاملي بيه.

انحرفنا إلى الكورنيش،لمحوا ضابطـًا ينظم المرور،وكأن الأولاد وجدوا قائدًا تتريًا، ألتف حوله ، سياجٌ بشريٌ حال دون إلحاق أذى به.

- أى نعم فر الضابط بين ممرات العمائر.

عبرنا الكوبري المؤدي إلى مستشفى القصر العيني ، اكتشفت أنني أتقدم الصفوف،لم يشغلني الأمر كثيرًا ،ركبنا كوبري عباس ، الشباب يغلقون الاتجاه المفضي إلى الجيزة، زحفنا إلى منتصف الكوبري،الصفير يعلو،إشارات التوقف تضيء ،يصطف الجميع، أنحرف جانبًا للراحة، وفى غمضة عين يجرون بأقصى سرعة،أرجلهم تهز أركان الكوبري،مدرعات الجيش تحيط بالعمارة التي على قمتها سفارة إسرائيل،ها أنا على الكوبرى فى مواجهة السفارة.

- أين الفارس الذى كنته؟

- اليوم لا نساء ولا خمر.

المعاول تأتي على بقية السور الخُرَاسَانِي، ثلاثة أولاد بالدور الخامس فى العمارة المجاورة، يحاولون الدخول  من النافذة الموصدة، نحبس الأنفاس ، فلا ندري ماذا ينتظرهم؟ ، لا يمر الوقت ، توقف العداد .

النداء يشق الصمت:

- سيبوهم.

أخيرًا تنفتح النافذة،يجاورُنِي رجل ، ينخله القلق.

يقول:

- أيذهب اعتصامنا الأيام المُنقَضِيَة سُدًى؟

الترقب مرجل غليان يكاد ينفجر، يظهر العشرات فوق العمارة،الهمهمات تبين.

- الأولتراس صعدوا.

أعقب:

- وكأنهم القرابين!

ها نحن نتنفس الصُعَدَاء، صراخ الإعجاب يزمجر:

- اقتربتم يا شباب.

العشرات فوق العمارة الملاصقة،يتشعلقون فوق المواسير،المؤدية إلى سطح عمارة السفارة، ولد يتشبث بحوائط الشقة الموجودة أسفل السفارة،لحظات ويصبح علم إسرائيل بين الأيادي .

 يتعالى الصياح:

- انزلوا من جوه.

تسح السماء أوراقـًا، يتزاحم الناس على القصاصات، أدخنة أسفل السفارة،المخاوف تربك العقول، أخيرًا يستجيب الشباب للنداء،ينزلون،يندفع الجمهور إلى المدخل،يكشرون عن أنياب الغضب،يستطيل الوقت،يتحرش الشباب بالجنود،ما بين خوف ورجاء تترقب القلوب،تتعانق الأدعية،أمسى الهبوط مقلقـًا كالصعود تمامًا،تهل شمسهم على الباب ، تزفهم الزغاريد، يكللهم الهُتاف،على أنغام التصفيق يتوسطون الحشود،يتمزق العلم ، يحترق ، ينثرون رماده ، ألعاب الأولتراس النارية ترُجّ السماء،تُزَينها بدوائر ومثلثات فسفورية،تتراص عربات الأمن حول المديرية، لم تبرز هذه التشكيلات من قبل ، فجأة تشتعل النيران بإحدى غرف السفارة الداخلية، وتتردد أنباء عن احتراق سيارة مطافي، تتراوح الأفكار في ذهني.

- لن تمر الأمور بسهولة.

- من المؤكد مسلسل البلطجية سيبدء عرضه الآن.

حملت بدني ، قررت العودة ،انتشرت (غرز الشاي)على رصيف حديقة الأورمان، سيارات لا تحمل أرقامًا ، بها بعض الأفراد القليلين،تتجه إلى موقع الحدث، تزاحمها عشرات التكاتك،لا تنقطع أرتال الدراجات البخارية ، أدلف إلى مقهى هادئ ،يكاد يكون فارغـًا،يتصدر مطلع كوبري ثروت،أعصابي مضطربة،مشاعري متباينة.

- ربما تكون متماوجة ما بين الفرح والحزن.

كان اليوم شاقـًا عويصًا، يجثمون فوق صدري منذ سنوات، يسفكون دماء النساء والأطفال والتماثيل ، ولا أفعل شيئـًا سوى الانكفاء حزنـًا،أزحنا الراية ،ولكن مسلسل التطاحن قد بدأ الآن، كالعادة رواد المقهى يشتمون المعتصمين، يصبون عليهم جردل اللعنات ، يتهمونهم بالغباء.

- لا يفهمون القانون الدولي والمواثيق.

يكررون كالبَبَّغَاوَات أقوالًا تبدو صعبة،تتداول الأبواق مثل هذه الكليشيهات، يحتويني الشك عن هُوِيَّتهم،أجدهم فى جميع المقاهي،تنطق حلوقهم عبارات بعينها.

يتمطع الواحد منهم قائلًا:

- عاوزين استقرار.

يُرَبِّت الثاني على ذهنه بالشكوى:

- دع عجلة الإنتاج تمشي!

يتجهم الثالث ناصحًا:

- هيبة الدولة.

حتى لا يعتريني السّأم،انشغلت بالفرجة على حركة الرّوَّاد،تخيم البلادة المقيتة على الوجوه،وكأنهم تنابلة سلطان مملوكي،أخشى الصدام مع أحدهم ؛يسخرون من كل ما هو خارج ذاتهم ، منذ الشرارة الأولى يتقوقعون فى شرانقهم.

- ربما تكتنفهم الحيرة!

- ربما غادر النضج عقولهم!

- أبَيْنَ جوانحهم قلوب؟

- أمكوثهم بالمقهى بهت عليهم بالبلاهة؟

- دعك منهم،انثر الرَّمَاد المحترق،اركل الهواجس، سرْ خلف قلبك.

أدفع ثمن المشروبات، أغادرهم،أسير على الأقدام،ينعشني الجو،أخرج من جيبي قصاصة سداسية الجنبات ، أفحصها بعيون مِجْهَرِيّة ، يرن هاتفي الجوال،أعرف لمن هذا الرقم،ومن الكياسة الرد.

- كفاية؛تلتهم الحرائق المدينة.

- لم نَحْرِق إلا الراية.

- تكذب ، انظر إلى شاشة التلفاز.

- أنا بالشارع.

- كم دفعوا لك؟

- حرام .. حرام.

أغلق الهاتف نهائيًا ، أستأنف المسير.

تمت بحمد الله

وسوم: العدد 694