انـفراط
" لا أعرف "... جواب غير مفهوم بالنّسبة للكثير، كما لها وله، فهي ترتكز على ما تشبه نظرة مجنون على كلّ أوجه الحياة في لحظةٍ لا يستطيع أن يحدّدها أو يقيسها، وبالأساس لا يملك حتّى أثرها، ومن ثمّ الإقرار فجأةً بفراغيّة وهامشيّة كلّ ما تشمل، ذلك المجنون كان من صنعها، لم ينتظر منها اعترافاً واضحاّ، لكنّه لا يختلف عن أشباهه فيما يتعلّق بردّات الفعل الآنيّة وبحركاته الملفتة لكلّ مَن حوله. و لو أنّ للأسف والاعتذار اعتبار في تفاصيل الزّمن، الذي لم يقبل أن يصمت، حتّى عندما انتهى في مفرق وداعٍ مميت، لكانت للأمور تصنيفات متداخلة جديدة محتواة في قوالب أحاسيس لا تتفاعل إلا بأرقّ ملامسات في النّتائج المقبلة، على أقلّ تقدير، ولذلك لا تتأخّر المسامحات في السّقوط إلى الحرج عند مواجهة أبسطها.
ذلك المجنون هو نفسه، أحياناً، بصيغته الأخرى التي لا ترافقه في كلّ ما يكون فيه.
ربّما لم يبدأ كما يحلو لها، ربّما لم تلاحظه أساساً
وعدها حين كان غريباً، هو غريب في كلّ تقاطعات الوقائع، كما غيره... بقي غريباً
وبقي يقف في ذلك المحدّد الذي وعد فيه أغلب نفسه، وأغلب ما ارتبط به
لم يتغيّر شيء، انفلقت كلّ ما هناك، وبقي ينتظر... وينتظر
بهيئة أشخاصٍ قدامى، كما أشباحٍ أو معانٍ ستظهر عندما لن تكونوا
كلّ ذلك بقي، كأنّه لا يزال هناك، أو هنا، من نفسه أو منها
لا يترك، لا يفكّر في أيّة محاولة، إنه سجينٌ في حالة سكونٍ
ولا يزال الزّمن يعاقب ذلك المكان، إلى الآن، سيعتقد البعض أنّه كان في متابعة إذلال تلك الإحداثيّات منذ أن سمع بها أوّل مرّة، وأنّ العلاقة بينه وبين الماضي ليست إلا صراع أنانيّة ومحاولة تغيير أيّ حدثٍ فيه بانفردايّة دون إدخال ندمٍ مستقبليّ ساحق ما.
بعد أكثر من ساعة وخوف من أن يعاد نفس الموقف ونفس اللعنة التي لم تفارقه لأيّامٍ كأنّها اختصرت له حياة مختلفة أخرى، فجأةً صوت جهازه، امتلأه الرّعب للحظات، هي تتّصل:
ـ أين أنت؟
+ هنا، أمام الباب أدخّن، أنتظركِ.
ـ أنا آتية، ساعة واحدة فقط، سنكونان قريبان من هنا.
+ كما تريدين، فقط تعالي.
في أقلّ من خمس دقائق أتت، كانت ترتدي أسوداً وأبيضاً، وترتدي أسراراً واستفهامات حسّيّة حادّة، مغطّاة بأملٍ مبهم غير مخطّط، من ظلام المكان تسرع بخطوات تعمي ما حولها وتخطفه سريعاً، أصبح لا يميّز الألوان وما تعنيه كلّ الإشارات، ركبا سيّارة واختار البحر شاهداً لمسائهما الذي لابدّ أن يعجّ بعض أجزاءٍ زمنيّة فيما بعد، كان يتحدّث دون ترتيب، لم يكن يخشى القواعد اللغويّة والخلط بين كلّ الأزمان وبين ما كانت تصبو إليه الجمل ومعانيها وأي تفسير قد يخطر لها، باختصار لم يكن يأبه بالنتيجة التي ستوصله كلّ كلامه، كان بكلّ بساطة يثق بمشاعره التي كانت تعصر دماغة وترقّص لسانه مع كلّ تفاصيلها. مزيج من الخجل والجرأة، من الذهول واللوم، من الغليان والرّجفان، من الإنتقام للحظات كانت لأيّامٍ تسمعه لحن قدَر ما.
لم يعدها بشيءٍ إلا بتوقيف الزّمن، من حيث التقى بها، تجزيئه، توليده، تمسيخه...
السّعادة في كلّ مكان، معكم، في أوجه مَن تقابلون، كالعاهرة تتجوّل في كلّ الأزقّة، تعاشر النّهايات التي لا ندركها مجتمعة، وكشبحٍ في أرجاء مخيّلتكم، بهيئاتٍ مختلفةٍ في أحلامكم، إنّها تمارس الموت أو تمارس معه، ولربّما ستختلف التوقّعات حين نرمّز دون غيرها، فنهايتها قد لا تعني سوى نفسها، هي مجموعة أرواحٍ لا شك، ليس الأمر كمحرّكٍ وهي كوقود أو أيّة أشكال طاقة، لسنا كما نعوّد رؤوسنا ولا نحن إلى ما أنتجناه يااا... لا أعرف.
إنّها التّعاسة صراحة
وقاحة الفكر في كلّ تحايلاته
لا تبحثوا عنها، هي تحتضنكم
السّعادة هي أنتم أنفسكم في اللحظة التي تضيعون فيها، حين لا تكونون
قد تكون انهيار أحاسيس
تنتهي حين ستسقط أوّل دمعة
وكأنّي أعلم أنّها لن تأتي إلا مع أكبر فضيحة حياتيّة
جلست أمامه كأنها كانت متعجّبة من بعض التّفاصيل التي ربّما لم تكن تتوقعها، بدأت تنصت إليه بغرابة، كان واضحاً أنها تحاول أن تتماسك وألا تتهدّم أسوار اعترافها بعشقها له، لذلك حاولت ونجحت في إخفاء تلك الحقيقة لوقت طويل، في بعض اللحظات أوهمته بأن آذانها سمعت مثل تلك الجمل كثيراً، وأنها استلمت الكثير مثل هذه الوعود، دون أن تعلم بأنها تتّهمه وفي أوضح ما هو قائم في ذلك المساء الذي بقي لا يوصف بأيّة كلمات. مضى الوقت سريعاً، تركا ذلك المكان عائدين، مئات الأمتار كانت تنسج مع خطواتهما ذكرياتاً ربّما ستلعن كلّ غير عاشقٍ سيمرّ من أثرهما، وكأنّه كان يرتشف من يدها أرواحاً قد تسعفه حين لن تكون، وحين سيلتقي بقامشلو لمرّة أخرى، أو ربّما لحظة انتزاع نفسه.
ذلك الطريق، سائق السيّارة اللامبالي واللافضولي، وكل تلك الأزقّة التي له فيها ما يجعله يُمحى في عفويّة ظلمتها الغريب ذلك المساء. أنفاسهما وضحكاتهما سبقت ما سيعانيه المستقبل لأجلهما.
ليس لأنّها حاولت أن تغيّر ما يجب فيه، أو تعيد ما كان يختبئ منه طيلة سنوات، بل لأنّ أصداؤه منعت كلّ تجاوزاته الذّاتيّة، إلى أن بدا وكأنه على أكتاف أحلام طفولةٍ خليطةٍ مملوءةٍ بغرائز لا محدودة، وهبته قدْراً من الشيطنة في مجمل الوصف الأخلاقي أو الفكر الإجتماعي الطّاغي، فهي هندسة مُجبرة لا تنتهي سلفاً، لا تتذوّق كلّ روحٍ يافعة بالضّرورة.
كذلك وكهذا الإعتقاد في محاولة التّذكّر الوحيد، أو محاولة التّحريض الهادف إلى التّفكّر الوحيد لغاية الوصول إلى احتماليّة مجرّدة من باقي المؤثّرات الحاصلة على حظوظٍ في التّكوّن لتكوّن ما قد يتطلّب لمسيرةٍ ستؤدّي إلى لا نهايةٍ حتميّةٍ، بالمطلق، فيستند بما سيعفيه من صداعٍ لن يفرز أيّة سماحة قد تجرؤ على الإقتراب بما سيتلقّفه حامله الزّمني، وتتقدّمه مطبّات القدر، لا محالة.
أنتنّ يا أمّهاتي
ويا كلّ ما استحوذ منّي شيئاً
حتّى أنّي لم أعد...
وأنتم كما أنا
لسنا في ترتيبٍ أو تسلسلٍ معيّن
والكثير من الأمور في استمرار دوننا
ليس كلّها لنا
بل ليس هناك ما هو لنا...
كلّنا والآخرين
أنا هنا، أتيت سائلاً عنكم
هذه الكلمات تملك نفسها
كأنّها حياة رمية... إن صحّ إلى ما أهدف
ونحن إلى ما سوف يكون يااا... أنت أيضاً لا تعرف.
وسوم: العدد 697