أكرهها..

أكرهها كُرهاً شديداً، وهذا الكُرهُ موغلٌ في حياتي، ممتد في أيامي، وقد نبت منذ تفتحت عيناي على الحياة، ولم تزده الأيام إلا رسوخاً، والتجارب المريرة إلا وضوحاً، مع أن مِنَحَ الحياة مكنتني من صداقة بعض رجالها صداقة حميمة، إلا أن الكره بقي على حاله مُسْتكناً في العقل الباطن يأبى أن يُغادره. ومع أنني تنقلتُ في بلاد شتى على الكرة الأرضية، من خط الاستواء، إلى الرُّطوبة الخانقة، إلى الصقيع الذي يدق العظام، إلا أنني في كل بلد من هذه البلاد أكِّنُ لها كُرهاً شديداً، وأحذر من الاقتراب منها، إلا ما كان من ضرورة مُلْجئة.

هل كانت أمي- في زمن شقاوة الطفولة المبكرة- تهددني بالعسكري حتى أستقيم لها، وأنصاع لأوامرها، فانغرز في نفسي البُغْضُ منذ ذلك التاريخ؟!

هل كانت حكايات جدتي عن عَسْفِ « الجِنْدرمة » التركية، عندما كانوا يعيثون فساداً في القرى، فيصادرون الدجاج، ويَفْرضون على الأهالي ضيافتهم وعلف دوابهم سبباً لهذا الكره المستكن؟!

هل رأيت في طفولتي- وأنا عائد من مدرستي- عسكرياً يضرب رجلاً، والرجل يتلقى ضرباته باستكانة، ولا يدافع عن نفسه خوفاً من المجهول؟!

أو لعله منظر عسكري الهَجَّانَـةِ الذي رأيته حال انصرافي من يوم مدرسي في مدرستي الابتدائية، وقد امتطى بعيره، وربط في رَحْلهِ حبلاً يجر به رجلاً مكتوف اليدين، وقد علق في رقبته دجاجة؟!

هل منظر مأمور المركز- أعلى سلطة في البلد آنذاك- وقد رُشَّتْ له الأرض بالماء عصراً، ووزعت الكراسي المريحة في باحة المركز، وجَالَسَهُ عِلْيَـةُ القوم، وحُظِر علينا نحن الصغار أن نقترب من الشارع المار بمحاذاة الساحة، مما كان يضطرنا أن ندور دورة واسعة حتى نصل إلى بيوتنا، فَزَرَع ذلك في نفوسنا الهيبة؟.. لا.. بل الخوف والرعب!!

لا أدري بالضبط ما الذي جعلني أكره العساكر، ومن ثم وظيفتهم وعملهم ومكان تجمعهم منذ نعومة أظفاري، رغم أن عقلي يرفض هذا الموروث الثقيل.

لكن.. عندما كبرت، وتَمَرَّدْتُ على الكتب المدرسية، ولم تعد هي قبلتي الوحيدة، وبدأتْ تفد على يَدَيّ الكتبُ أشكالاً وألواناً؛ شهدتْ هذه الكتبُ بما عضَّدَ الكُرْهَ عندي وأَقَـرَّهُ في نفسي.

لقد كانت هذه الكتب حُبْلى بمآسي يشيب منها الولدان، ويتهامس بجرائمها الركبان، وتنخلع منها القلوب، رغم أنها لا تُكْتب إلا بعد أن مضى عليها زمان وزمان، وتغيرت الأجيال!! والتهمة ماذا؟ اختلاف في الرؤى!! غلفوها بطبل وزعيق، وصياح ونعيق، حتى يقنعوا مَنْ لا حول لهم ولا قوة بخطورة هؤلاء على المكاسب التي حققها النظام للشعب!! وتكررت اللازمة التي حفظناها عن ظهر قلب: « لا حرية لأعداء الشعب » فاستباحوا بها الحرمات، وطامنوا الهامات، ورَمَّلُوا الزوجات، وثـَكَّلُوا الأمهات، وكونوا الثروات.

أما سدنة النظام فهم ليسوا في حاجة لاقتناع، فالرواتب العالية، والحوافز المجزية، والآمال العراض.. تَفْرش الطريق أمامهم لإظهار براعتهم في التفاني والنفاق لخدمة هؤلاء وهؤلاء، طالما أنهم مربوطون بالنظام وجوداً وعدماً!!

وهل اقتنع المغلوبون على أمرهم بخطورة هذه الفئة أو تلك على مكاسب الشعب التي لا ظل لها، وهم- في حقيقة الأمر- آباؤهم وإخوانهم وأبناؤهم، وفي كثير من الحالات نساؤهم أيضا؟..

أصابتني الرّعِدة عندما بدأت أقرأ، وتلبسني الهم وأنا أرى نماذج من خيرة الناس تُستل من الشعب، حتى لا يبقى فيه إلا من يحسن هز الرأس، فأصابتني لوثة التكذيب لما قرأ، لكن صَفَعَ رفضي هذا حقائق السنين، وكَرَّ الليالي، ومَرُّ الأيام، وتشابه الشكوى في كل قُطْرٍ تميز بهذه الميزة، فبات التصديق عندي يقيناً، ولم أعد أشك فيما كتب هؤلاء.. وكيف أُكَذِّبُ صاحبة « أيام من حياتي »، و« خمس دقائق وحسب » وصاحب « أقسمت أن أروي » و« البوابة السوداء » و « أحداث صنعت التاريخ » و« شاهد ومشهود » و« سنة أُولى سجن » و.. و.. و.. عشرات الشهادات على حقبة من التاريخ مضت، أما الحقبة التي ما زالتْ حَمْلاً في أرحام الأقطار، فستلدها الأيام المقبلات، عندما يصبح لكل زمان دولة ورجال، وسبحان مبدل السلطات.

« ويكاد يقلقني الرفاعي بقوله »: « هو طيب الأخلاق مثلك يا أبي » وهل يَدَعُونَ في السجن سَجَّاناً طيب الأخلاق مثل أبيك؟! حاشا.. وكلا.. إنهم ينتقونهم بعناية خاصة، وبصيرة نافذة، لا بد أن يكون « سادياً » موغلاً في ساديته، وحشياً متباهياً بلاإنسانيته، جاهلاً متبجحاً بمكانته، دموياً ينتشي لموت ضحيته!!

فهل يكونُ مثل أبيك، من يُجْبِرُ الأستاذَ الجامعيَ على انتهاك عِرض ابنته ذات الأربعة عشر ربيعاً في جوٍ من الدموع والقهر هنا، والضحكات الفاجرة من هناك؟

وهل يكون مثل أبيك من يُلْزِمُ الأخ باللواط بأخيه في حَضْرَةِ أبيه، وخمسون عيناً مجبرةً على البحلقة في هذه المأساة، لتزداد المعاناة حِدَّةً وقهراً، والنفوس ذلاً وانكسار؟

هل يكون مثل أبيك من يبصق على الأرض، ثم يَقْهر مسجونه ليركع على ركبتيه ويلعقها عن الإسفلت الأسود؟

هل يكون مثل أبيك من يُحَطِّمُ رأسَ ضحيته لأنه لم ينصع إلى أوامره فيبتلع الفأر معفناً؟

هل يكون مثل أبيك من يتلذذ بإطفاء جمرة (سيجارته) في عورة مَشْبُوحِهِ الخبير العالمي؟

هل.. وهل.. وهل.. حاشا لله أن يكون واحد من هؤلاء مثل أبيك طيب الأخلاق.. وحاشا أن يكون واحد من هؤلاء طيب الأعراق.

انتشلني من هذا الشريط المرعب صوتُ سيارةٍ تمرق كالبرق، مفسحة الطريق لنفسها بزمارتها المميزة، إنها سيارة النجدة، ها هم أولاد خيرون، يسهرون للنام، فعلام اللوم والبغض المستكن في الأعماق؟.. لا أدري.. لا أدري.. لكن الذي أدريه أنني عندما تَفَـتَّحتْ آفاقُ النور في أيامي، وبدأ الناس يَفِدُون للجلوس أمامي، وأَيْقنت بوضوح الرؤية، وصلابة الأرض تحت خطواتي، وأخذتُ أشير أصبعي للناس يميناً وشمالاً، وربما كشف هذا التنوير السَّفَّاحَ، والمتاجر، والمرتشي، والحرامي.. ضايقهم كلامي، وأخذوا يَزْفُرون غيظاً وحنقاً من تضلعي المتنامي، وكثرة الزحام على درسي وأشرطتي.. وجاءني « رجل من أقصى المدينة يسعى » فَحَذَّرَ وأَنْذَرَ، لكن « الكريم لا تُـحَنِّـكُهُ التجاربُ »، وأنى لمن وضع قدمه على أول الطريق أن يتراجع أو يُراجع أو يُغَمْغِمَ، وقد أَسْفَرَ الصُّبح، وانقشع الظلام، وبات منا السكوت حراماً.

وجاءت « القشة التي قصمت ظهر البعير » ومعها الرؤى والأحلام والكوابيس، وأنا مطمئن البال، راض بكل حال، وركض الناس يميناً وشمالاً، وشمر الخَيِّرون أَذْرِعةً وسيقاناً، وتحركتْ في أفواههم ألسنةُ طالما ترددتْ، فشهدوا وأطنبوا، وبكى باكيهم، وحزن جَافِيهم، ومضى قدرُ الله على خُطَّةٍ لا تحيد، وخرجتُ من البلد الذي أحببتُ، وفيه نشأتُ وتَرَعْرَعْتُ، وكَوَّنْتُ من الثقافةِ والأصدقاءِ والأحبابِ ما كونتُ، وكانت هي خلف خروجي، وكأي مُغَفَّلٍ يقفُ عند ظواهر الأمور، ولا يرى إلا القريب الأدنى، حِزِنْتُ.. وغضبت.. واضطربتُ.. ولكن قدرُ الله ماضٍ إلى غايته.

تَزَعْزَعَ الأولادُ، وتغيرتِ العاداتُ، وتبدلتِ الأولوياتُ، ولاح في الأفق بداياتٌ جديدةٌ، وكشفت لي المحنة وجوها غطاها عني القُرْبُ والإِلْفُ، فإذا أَنَا من أغنى الرجال ولا أدري، وهل هناك أعظم ولا أكرم من وضعٍ تفوز فيه بكنز لا ينضب من محبةٍ كانت مُسْتِكنَّةٍ في الضمائر والصدور، فإذا وقع المحذور (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ) لله در المحنة ما أعظم نورها، وأجود نارها، وأروع نتائجها..

ها هي ذي تضع أمامي خِيرة من حباني الله بهم من أحباب، فَتَصْهَرُ معادنهم، وتُجَلِّي لي محاسنهم، وتُبعِدُ زائفهم، وتُقرب رائقهم، وتُنبت لي أخاً لم تلده أمي، وشقيقاً للروح لم يختلطْ دمُه بدمي.

وسارت بنا الأيام هُوينا، لا يمر شهر إلا ويأتيني هاتفه سائلاً مستفسراً مسانداً مواسياً، ولا تمر له طائرة إلا نزل وجالسني ليالٍ، واطمأن على حالي، وما مر بمكتبةٍ إلا حمل لي منها كتاباً أو كتابين، فنشترك في قراءة فكر واحد، وعِلْمٍ واحد، وأنا كذلك، ما قرأت كتاباً إلا لخصت ما فيه، وعرضت له نواحيه، وأسهبت في دفعه لقراءته.. حتى مذكرات « ثريا » حرصت أن يشاركني فيها بعد أن وشحتها بخطوط قلمي الحمراء، وتعليقاتي التي تفسر وتوضح.. وبذا تتوحد الرؤى وتَتَضَامّ الذكريات، وتتشاركُ منا القرائح، وتتشاكلُ فينا المواجع.. حتى كادت أن تكون همومنا واحدة، ومشاربنا واحدة، فاستقر القلب على روائح الشرق تهب بريح الصَّبا فتخفف من لظى الفراق، وحَرّ الغربة والعزلة.

وسارت بنا مركب الحياة، تعلو حيناً وتهبط حيناً، ومودتنا ماضية رَخِيَّة هنية، ونحن في ظلها في بُلَهْنِيَةٍ، حتى شعرت بشيء من التبدل والتغير.. لم تعد هواتفه منتظمة شهرية كما كانت، ولا طائرتُه تجد المتسع من الوقت للنزول في موطن إقامتي، ولا الكتبُ بيننا تصول وتجول، حتى قرائحنا تسير في طريق الجفاف، وأخبارنا يعتريها النقص لطول فترة الفصل الذي يقطع التواصل..

فَتَّشْتُ في ذاكرتي.. واسترْحَمتُ مُفكرتي.. عساي أجد لهذا الأمر تعليلاً.. قلت في نفسي: ما الذي دهاه؟ قالوا: شُغل عنك!! قلت: ما الذي شغله؟! قالوا: أصبح للداخلية وزيراً!! قلت في نفسي: حتى هذه يا هذه.. ثم يقولون: لماذا تكرهها كل هذا الكُرْه؟!*

وسوم: العدد 697