إجهاض
قالوا لها :
ـ الدموع تغسل العيون وتريح القلب ..
أما هي فالدموع تشعر بها تنهمر انهماراً في داخلها ، ولكنها تأبى أن تندفع من العيون الصامتة ، صمت أخرس قاتل ، يقتل فيها كل شعور جميل ..
الأمومة .. يا حلم كل أنثى .. فمنذ أن تخلق الأنثى تخلق أماً ، تعطف على إخوتها وأخواتها عطف أمومة ، وربما تقلق على والديها قلق أمومة ، حتى حينما تحب زوجها تصبح بالفطرة له أماً ، تخاف عليه وتسهر على مرضه وتطعمه من نور قلبها وحبها ..
حبات المطر في الخارج تعانق بحب سطح الأرض اليابس الذي طال شوقه للمطر .. تنظر من النافذة .. تحدث نفسها :
ـ حتى السماء تستطيع البكاء إلا عيوني لا دموع فيها ..
بعد سنوات من الانتظار المرير .. قالت لها الطبيبة :
ـ مبارك .. حامل ..
ووضعت الأجهزة على بطنها وبدأت تسمعها دقات القلب الضعيفة التي بالكاد تُسمع ، قلب بجانب قلبها ، وبدأت تشرح لها على التلفاز الصغير أعضاء الجنين .. تخبرها أنها وإن لم تكن تفهم تفاصيله الآن ولكن شهراً بعد شهر ستتوضح تلك التفاصيل .. من يدين ورجلين وعينين ووو إلخ ..
وهي قلبها قد رآه وسمعه وقبلّه ..
كانت سعادة الكون في عينيها .. غفرت لكل إنسان استهزأ منها يوماً لأنها لم تحمل بعد ، تصالحت مع نفسها ومع المجتمع .. ولكن الجنين فجأة أعلن تمرده عليها وتوقف عن النمو ..
كانت سعيدة بأعراض الوحام .. تدخل الحمام لتفرغ ما في معدتها بعد كل وجبة ، وجهها أصفر شاحب ، عيناها متعبتان ، تميل إلى الخمول والنوم ، لا تتقبل أشهى الأطباق والمأكولات .. كل ذلك كان يشعرها بأنها على أعتاب الأمومة وأن هذه المنغصات هي أول مراحلها الحبيبة ..
فجأة بدأت تلك العلامات تختفي واحدةً تلو الأخرى .. وكأنها تنذرها بقرب عودتها للوحدة والوحشة .. الغصة تكاد تقتلها ، وهي تشعر أنها عادت شبه طبيعية ، قلبها أخبرها أن من جاوره شهرين قد احتضر وأنه يأخذ طريقه لينزل ويدفن في قاع الأرض ..
وضعت رأسها على وسادتها فوجدتها مليئة بالأشواك والأشواق .. وعرض شريط حياتها الممل أمام عينيها .. منذ الاستيقاظ صباحاً حتى النوم مساءً.. الهدوء يعم المنزل .. البيت بارد وبارد جداً .. لا حرارة الحب ولا حرارة الأجساد .. الشتاء ذلك الفصل الذي يبعث في القلوب برداً لا يدفيها إلا قلوب صغيرة كلها حب وحنان وحاجة فالحاجة تولد المحبة .. حياة مملة لا شيء يتحرك من مكانه ، الكراسي ، الكتب ، التحف ، وحتى الحلويات فلا يوجد من يأكلها .. تلك الليلة أيقنت أنها قد فقدت جنينها وفقدت معه شعاع السعادة الذي بدأ يدفئ حياتها .. إن رحمها يبكي دماً على فراقه .. ليلتها فقط بكت وبحرقة لم تعهدها من قبل ، وكأنها أفرغت دموعها كلها تلك الليلة ..
في الصباح .. نقلوها إلى المشفى .. كانت مستسلمة لقضاء الله .. لما خرجت من غرفة العمليات كان الجميع جالساً بقربها يواسيها .. أما هي فما كان منها إلا أن قالت :
ـ اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منه ..
وها هي ذي بعد سنوات كانت عجافاً ، رزقها المولى أطفالاً أوقدوا شعلة الحياة في قلبها كما لم توقد من قبل ..
وسوم: العدد 697