الصاحب الناصح
د.عثمان قدري مكانسي
قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: لأزورَنَّ أخي وصاحبي أبا الدرداء ((عويمراً الأنصاري))، فلقد تأخرت عنه أياماً وأسابيع، لا أدري ما يفعل الآن، وقد آخى النبي بيني وبينه، فما ينبغي لي أن أقطع أخي أو أغيب عنه كثيراً ..
ثم قال: ما أجمل الأخوَّة في الله وأطيبَ اللقاء في حبه، إنها المحبة التي لا شبهة فيها ولا مراء، حب لا تشوبه شائبة ولا يعكر صفوه مصالح الدنيا ومراميها الدنيئة.
أنا ذاهب إليه أرجو رضا الله وبره.. ألم يذهب رجل إلى قرية فيها أخ له يزوره فيها، فأرسل الله تعالى على مدرجه ملكاً يسأله سبب سيره إليها: ((هل لك عليه من نعمة تربها؟)) فقال للملك: إنما أزوره حباً في الله، فقال له الملك داعياً: ((أحبك الله الذي أحببته لأجله)).
اللهم إن المسلمين جميعاً إخوتي وأحبتي، دربهم دربي، وطريقهم طريقي، فاكتب لنا السعادة جميعاً واكلأنا بعين رعايتك الحانية يا رب العالمين.
واستأذن للدخول إلى الدار فأجابته أم الدرداء: حللت أهلاً ونزلت سهلاً، إن أخاك أبا الدرداء في حاجة له وسيعود سريعاً، البيت بيتك يا سلمان، وقدّمت بين يديه الماء البارد وقليلاً من التمر.. ورحبت به أيما ترحيب.. قال لها وقد نظر إليها فرآها متبذلة، قد تركت ثياب الزينة، وعهده بالنساء يتجملن لأزواجهن ويتزيّن راغبات في أن تقع عيون بعولتهن على كل جميل فيهن.
ولعلك أيها الأخ القارئ تتعجب إذا نظرتُ إليها وأنت تعلم أن من التقوى غض البصر وعدم النظر إلى النساء؟! هذا صحيح، فأنت تعلم أنني كنت من هؤلاء، أهلِ العفة والشرف، وسيزول عجبك حين تعلم أن الحجاب لم يكن قد فرض على نساء المسلمين إذ ذاك، وأن الآية الكريمة في سورة النور: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ لم تكن نزلت بعد، وأنني وزوجَها متآخيان، ثم إن الإسلام هذَّب نفوسنا وصقل أرواحنا فلم نعد نهتم إلا بكل طهر وفضيلة، وعفة ومروءة، على هذا أنشأنا الإسلام وعليه ربانا.
قلت لها: لم – يا أخية – أراك معرضة عما تحبه النساء من زينة وتجمل واعتناء بالمظهر؟ ردت بحياء وخفر: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا.
وكان جوابها القصير الحيِيُّ أبلغ من مقالة مدبجة وقصيدة مطولة، فأبو الدرداء إذاً راغب عن الدنيا وملذاتها، منصرف إلى عبادة الله، يصوم النهار ويقوم الليل.. هذا من حقه، ولكن لا ينبغي له أن يظلم زوجته فيغمطها حقها ويحجب عنها حظها من حياتها..
وجاء أبو الدرداء، فاعتنق صاحبه سلمان وسلم عليه مرحباً به منبسطة أساريره سعيداً بلقائه، وسأله عن أحواله وطول غيابه، فلما اطمأن بهما المقام كانت أم الدرداء قد صنعت لهما الطعام، فقدمه زوجها لسلمان قائلاً: كل، فإني صائم..
قال ذلك معتقداً أن الأخوة تسمح أن لا يؤاكل ضيفه، وأن بإمكانه أن يظل صائما، وعرف سلمان رغبة أخيه في الصوم، لكنه كان قد أضمر أن يُعرِّفه حقوق زوجته عليه، وحقوق ضيفه عليه فقال: إذا نزل الصائم على أخيه فقدم له الطعام وجب عليه أن يفطر إكراماً لضائفه، فما تقول في مُضيف يمتنع عن طعام قدمه لضيفه؟ .. ما أنا بآكل حتى تأكل.. فأكل أبو الدرداء محتسباً ثوابه عند الله تعالى، فلما أديا مع المسلمين صلاة العشاء الآخرة وأويا إلى البيت، أوى سلمان إلى فراشه، وقام أبو الدرداء إلى قيامه.
فأمره سلمان أن ينام، وعزم عليه أن يأوي إلى أهله، ففعل أبو الدرداء ذلك ناوياً أن يشكوه إلى رسول الله ، أيحق لسلمان بما له من حق الأخوة والقِرى أن يمنعه العبادة والصيام والقيام، فلما كان من آخر الليل أيقظ سلمان أخاه أبا الدرداء، فصليا جميعاً فلما أذِن الفجر بانبلاجٍ وانطلقا إلى مسجد رسول الله قال سلمان له ناصحاً ومذكراً:
((إن لربك عليك حقاً)): ومن حقه أن تعبده، فتصوم وتقوم.
((وإن لنفسك عليك حقاً)): ومن حقها أن تأكل، وتنام، وتستريح.
((ولأهلك عليك حقاً)): ومن حقها أن تهتم بها فتلاعبها، وتداعبها.
((فأعط كل ذي حق حقه)): وهكذا الإسلام دين الحق والصدق والعدل.
فلما انتهت الصلاة عرض أبو الدرداء ما فعله سلمان معه وما قاله، والرسول يصغي إليه ويتابع حديثه، ووجهه الوضاء يلمع، وفهمه الشريف يفتَرُّ بابتسامة تُنمي عن إعجابه بفقه سلمان، ومعرفته دينه، فهذه سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، فهو يفطر ويصوم، وينام ويقوم، ويتزوج النساء، فمن رغب عن سنته فليس منه.
إن الإسلام دين الواقعية، ودين الحياة الطبيعية، وإن المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى..
وينظر أبو الدرداء إلى رسول الله فيسمع منه: ((عويمر: سلمان أفقه منك، لقد أوتي سلمان علماً)).
رياض الصالحين: باب الاقتصاد في الطاعة
الحديث /99/