الوليمة
قلت لك ما تهمتى
قلنا لك العروبه
يا ناس قولوا غيرها
اسألك عن تهمتى
ليس عن العقوبه
( من اشعار احمد مطر )
مصطفى عاصم
الى الدكتور / تيسير المغربى
الذى الهمنى الفكره
كانت قطعة اللحم كبيره جدا ... جدا تكفيهم جميعا ، كل من على المائده بلا استثناء ، بل وتكفى الكثيرين غيرهم ممن يرغبون فى اكل اللحم الطازج الذى يكاد يكون مطبوخا او كما يسميه كل من هو ماهر فى اعمال الطبخ والطهى (نصف سوا) .
كنت اجلس فى الدور العلوى لهذا المطعم الانيق المشهور الذى عرف باتساعه وبطهيه لكل أطباق كل الشعوب فى انحاء الكره الارضيه .
متكئا على هذا القضيب الحديدى المذهب اللامع ... الذى يحد الجالسين فى الطابق العلوى ويمنعهم من السقوط .
هذا القضيب البارد كان يلمع بذهبيته المتوهجه ويغرينى بنظافته أن امسك به بكل اصابعى وأن أريح ذراعى عليه .. وأستند .
منتظرا تقديم طبق السلطه .. وشوربتى المفضله التى طلبتها منذ دقائق .
وبغرض فضولى ... بعد استكشافى واستجلائى لحدود وأكان المكان بحاسة بصرى .. مستمتعا برقى نظافة الهواء فى الأجواء .. وبعد أن تدغدغت حاسة سمعى بالموسيقى الناعمه الحالمه الساريه بهذا الغرض ، القيت نظره إلى الأسفل.. لأمسك بتلابيب كل المشهد .. زمانه ، ومكانه .. أعلاه وأسفله .
هالنى هذا المشهد الغريب العجيب .. طبق كبير او صينيه ( سيرفيس ) .. عليها قطعة اللحم الكبيره .. ومن حولها .. اثنان وعشرون طبق صغير ..كل طبق حوله ادوات طعامه من ملاعق وشوك وسكاكين ...
أمام كل طبق قزم صغير .. كل منهم ينظر الى منتصف المائده بنهم وعلامات شهوة جوع مفترس ولكن على ما يبدو لم يجرؤ أى منهم أن يمد يده لمنتصف المائدة إلا بعد ان يأذن له هذا العملاق الواقف عند رأس المائده .
خيل إلىّ أن هذا العملاق له اكثر من أربع أذرع ... فركت عينى مرة .. واثنتين وثلاث وتأكدت من المشهد ، العملاق الذى لن يأكل احد بدون اذنه يملك اربعة اذرع . يغلب على اثنين منهم اللون الاحمر والآخران يميلان الى اللون الابيض.
ادقق النظر مره اخرى بعد ان عبث شكل المائده بخيالى .. مختلطا ببصرى وبصيرتى ، ادقق النظر اكثر واكثر.
أُثبت زوووم بصرى وأنقيه لأرى واتأكد مما كنت اخشاه .. واتحاشى تأكيده.
قطعة اللحم الكبيره ليست إلا شكل خريطة ( بنى عربان ) .
رائحة الشواء تتصاعد مع بخار اللحم ليقتحمان حاسة الشم عندى ذات الحساسيه العاليه .
ارى اطراف قطعة اللحم ( تطقطق ) من اثر تسخين اطراف الدهن فى حواف اللحم .
مما يدل على ان النادل اتى بهذا الطبق الكبير على موقد ناري مشتعل على الدوام ليحافظ على سخونة اللحم .
وعلى الرغم من وهج النيران ، ورائحة الشواء والبخار ، استيقنت انفى بحساسيتها ان اللحم الغير مطهو هو لحم عطن اوشك على العفن أو انه قد أوغل فيه ما أوغل
وان نيران الموقد مع الشواء هى لخداع من يريد ان يأكل .
لحم بنى عربان .. عطن .. موبوء يكاد أن يكون مسموما .
ومع إدراكى لحقيقة اللحم المستوره بواسطة حاسة الشم ، استنفرت باقى حواسى للإلمام بكل احداثيات المشهد .. ومع شحذ حاستى البصريه ادركت ان وراء كل قزم بطبقه الدائرى مسافة آمنه .. عازله كافيه ثم مجموعه كبيره من الاقزام الصغيره كلهم يصغرون قزمهم الاكبر حجما .
وكلهم يرفعون افواههم المفتوحه لاعلى ... جوعى كأنهم هياثم النسر الصغيره تنتظر من امهم ان تغذى كل منهم فى منقاره وجوفه .
كلهم بأعين كسيره ذليله ينتظرون ان ينعم عليهم قزمهم الأكبر بلقيمات او فتافيت من طبق اللحم ، لن يأكل اى قزم صغير ... من رعاع الشعب إلا بأذن القزم الأكبر .
ولن يأكل اى قزم صغير .. من رعاع الاقزام الاثنين والعشرين الا بأمر العملاق الاكبر ذو الاربعة اذرع على رأس المائده .
اكاد اشم رائحة الجوع تخرج مندفعه من افواه وبطون الاقزام الاثنين والعشرين.. وكذلك من المئات ممن يقفون معزولين من ورائهم .. شعوبهم الاقزام .
اكاد ارى تفاصيل الجوع فى قسمات وتجاعيد وجوههم كلهم رغم منظور رؤيتى الرأسيه من فوق الرؤوس.
رغم رائحة الشواء الواضحه للحم العطن التى لا ينكرها ناكر .. ويعيفها كل ذي عقل وان كان جائعا .
اكاد ارى قطرات لعاب الاقزام اصحاب الاطباق على المائده ... اكاد اراها تترقرق .. تتدفق وتتساقط من شهوة جوعهم ، لأكل الميته المطروحه امامهم .
اعاود التدقيق فى شكل قطعة اللحم الميته ، ارى خطوطا عرضيه وطوليه ... مائله ومنحدره عاليه ومتقاطعه .. وكلها توحى بـأن هذه الميته .. قطعة اللحم المحترق قد قسمت بالفعل منذ زمن قبل ان يلقوها على المائده .
وأن كل قزم له قطعه مخصصه سيقطعها له العملاق بأذرعه الاربعة ويضعها فى طبقه فقط على كل قزم ان ينتظر دوره .. يناهض جوعه وشهوته .. وينتظر.
يبلع سيل لعابه ، يغمض عينيه وينتظر ، وليموت باقى رعاع الشعب الصغير من ورائهم فلن يأكل أحد منهم الا بعد ان يأكل القزم الرئيس .
اثنان وعشرون قزما ، كلهم رؤساء ..
ولكنهم ينتظرون ؟ !
اذن ليتظروا ولينتظر الرؤساء ولأنتظر انا .
وارى كيف يقطع العملاق قطعة اللحم الميته بشوائها ورائحة حرقها ، لننتظر كلنا ، وحدث ما توقعت .. تساقطت قطرة لعاب لاحد الرؤساء الاقزام فى اقصى الركن اليسارى الجنوبى للمائده . احدث سقوطها رنه مع صداها .
تماثلت فى اذنى كرنات قطرات المياه فى زنزانه صلداء مظلمه من زنازين الطغاه فى بلاد الطغاه ، لتعذيب الابرياء من الشعوب التى رضيت واستكانت بظلم الطغاه .
قطرات الزنازين التى تغرق الزنازين بالمياه ... قطره قطره .. فلا ينام البرئ من غمر المياه وان وجد وعاء لجمع مياه القطرات وجفت الارض فيكفى صوت تساقط القطرات لمنع النوم فتتحطم الاعصاب قطعه قطعه مع كل قطره وقطره.
لم اشك ان كل الرؤساء الاقزام فى هذه اللحظه تسبح كل السنتهم داخل لعاب سميك غزير يغمر افواههم .
ولكن هذا القزم الرئيس فى اقصى الركن اليسارى الجنوبى هو اول من تساقط لعابه من فمه رغما وسهوا ، انهارت مقاومته وبدت رعونته .
ولم يكتفى هذا القزم الرئيس بجرم سقوط قطره لعابه على طبقه الخزفى اللامع ، وفضيحة رنين سقوطها. بل تمادى فى رعونته وامسك شوكته وسكينته وصرخ بملء جوع جوفه وفيه .
أنا جوعان .. وهذه قطعتى .. سأبدأ الاكل .
فوجئت بهذا التغيير الاستراتيجى الفجائى ، الدراماتيكى للموقف . واهتزت رأسى بل وتدلت مع كل كتفى خارج حدود القضيب الذهبى البارد اللامع .
كدت اسقط ، استرددت انفاسى بسرعه وعدت لموقعى مسندا رأسى وذقنى لظهر كف يدى ولاتابع تطورات الموقف .
تتابعت رعونات الاقزام بسرعه كأنها احجار دومينو تتساقط سريعا لا يمكن ووقفها او تعطيلها .
كل الاقزام بأفواه مفتوحه .. وشفاه مدلاه ولعاب يتساقط كأنهم اطفال حضانه جاعوا فى وقت واحد ويطلبون الطعام فى نفس اللحظه على شرط ان هؤلاء الاطفال لايزيد عددهم عن رقم مقرر. اثنان وعشرون .
وجدت كل قزم رئيس يرفع كلتا يديه .. كل ممسك بشوكته وسكينته ولم يعبأ اى منهم بابتلاء شدقيه وصدره .. وفعلوا كما فعل اولهم .. القزم الايسر الجنوبى غرز كل منهم ادواته فى اقرب قطعة لحم مقسومه وصرخوا فى نفس واحد .
( نحن جوعى ).. وهذا نصيبنا .
منذ بداية كل هذا المشهد .. وانجذاب نصف جسدى وكل ملكاتى له كمغناطيس عنيف الجاذبيه .
لم ارى اى حركه او التفاته لهذا العملاق القابع والرابض عند صدر المائده.... حتى اننى ظننت ان اذرعه الاربعه هى .. بلا جدوى مشلوله تماما.
بدات اسمع حك وقرع سكاكين الاقزام بسطح طبق اللحم المعدنى الكبير وكل منهم يحاول قطع ونزع قطعته المقسومه منذ زمن .
كانه جراح قد حدد كل قطعه بمشرطه الطبى .. الحاد والرفيع للغايه.
اغرى سكون العملاق بأذرعه الضخمه الاربعه كل الاقزام بالتمادى فى رعونتهم وتقطيع كل المقطع والمقسوم من قطعة اللحم الميته العطنه .
فانهمك كل منهم فى محاولته بفجع وقح .. ينهش ويقطع مأكله العطن .
وفى ذروة هذا المشهد الميلودرامى احسست ورأيت انتفاضة وارتعاشة جسد العملاق وبدأت اذرعه الاربعه فى الاستيقاظ والنهوض والارتفاع لاعلى .
كل ذراع ينتهى بكف غليظ واصابع سميكه توحى بالقوه والصلابه كأنها قنابل يدويه معقوده .. مسلسله .. كعقلات اصابع ضخمه لعملاق اسطورى .
ارتفعت اذرعه الاربعه الى اعلى نقطه ممكنه نصف متر تقريبا فوق رأسه .
ظل ثابتا لعدة ثوان كانه راقص باليه يستعرض اذرعه الممشوقه .
وفجأه انهالت الاذرع الاربعه بالصفع على اوجه الاقزام .. كلهم .. وجوههم.. رقابهم .. نواصى رؤوسهم .
لم يترك العملاق اى فرصه لردة فعل من اى قزم حتى ردة فعل الخوف ذاته لم يلحق اى منهم ان يستوعبها او يدركها .
بل استسلموا جميعا لصفعاته التى تدفقت بسرعه غريبه .. كأنه ريتم سريع لمقطوعة كورسا كوف السريعه جدا ... النحله .
وبدلا من سماع طقطقات احرف قطعة اللحم العطنه بحوافها المتخمه بالدهن،
تحترق مع زيادة اشتعال النارمن تحتها .
صرت اسمع طرقعات اصابع العملاق العشرين على اوجه واقفية وروؤس الاقزام .
وبعد عدة دقائق من الصفع المتواصل .. صمتت اذرع ثلاثه من اذرع العملاق.
ووجدت كل الاقزام وقد تفرقوا وتصاغروا وتقوقعوا فى اسفل مقاعدهم حتى كادوا ان يغوصوا وسط جموع شعوبهم المتفرقه والمقزومه من وراء كل منهم .
بقى ذراع واحد للعملاق بنشاط قمعى عقابى .. لم يتوقف عن صفع القزم الاول الذى بدأ هذا التمرد الارعن .
بقوه غاضبه وعنف فاق الحد ورغبه صريحه بالقمع والتنكيل .
استمر الصفع .. والقزم الرئيس قد فقد القدره تماما على المقاومه او حتى التلميح بالرغبه فيها .
ظلت رأسه تتأرجح يمينا ويسارا كأنه دميه قماشيه يضربها طفلها ومالكها وهو فى قمة نشوة التقمص للقوه... فى اروع صورها .
لم يستمر الامر اكثر من دقيقتين .. حتى سقط القزم الرئيس ساكنا .. وقد فاضت روحه .
شر عظيم فى المسأله .. خطر عظيم فى المشهد ، قتامه داكنه تلوح فى افقى .
ان نُبلى ويُبلى الناس بالجوع .. فهذا فى حدود احتمالنا ، اعتدناه فى كل سهول الوطن والربوع.
ان نضرب ونصفع ونهان فهذا فى حدود الإمكان ، ان نجبر على اكل الميته وما دونها فهى ضروره لابقاءنا على قيد الحياه حتى لا تموت الهره ولا تعطش وتفنى كل نبته .
اما ان نموت بالعذاب قمعا وضربا وصفعا فهذا ما تأباه الاعين وتستنكره الاحاسيس حتى وان كان الفانى .. رئيس قزم خسيس .
ارتدت رأسى الى الخلف ودفعت معها كل جسدى كسياره صغيره تدفع قاطره ضخمه من سفح جبل لاعلاه .
وابتعدت تماما عن مجال الرؤيه .
اصطدم نظرى بارجاء سقف المطعم العالى ، الفاخر المزدان بالمصابيح الفاخره والثريات .
ولأول مره الحظ اسم المطعم مكتوبا .. ضخما مضيئا متلألئا فى صدر القاعه .
وفى كل ركن من الاركان .(UN)
حرفان فقط .. هما سر المسأله ... وسم المأكله وكل المقتله .
ادركت فى هذه اللحظه تحديدا اين انا .
ولكنى لم اتيقن بتاتا عن ما يدبر لنا .. كلنا .
لهذا علىّ ان اعود لمستوى الرؤيه .
ان اصيب بسهمى نواة ذرة قلب كل العمليه.
امسكت القضيب الحديدى ، المذهب اللامع البارد بقبضتى يدى وشددته ليندفع نصف رأسى الى ما بعد حدود الفراغ .. اكاد اسقط .. اكاد انهار.
وقبل السقوط .. رأيت حقيقة المشهد التى غفلت عنها منذ البدايه .. واضحه وجليه
كل قزم رئيس .. ملقى على ظهره على اطراف حدود شعبه الجائع .. الاقزام المرتجف .
كل قزم يرتجف كأنه الزمهرير يلقم جسده وعيناه تحولتا الى كرتين كبيرتين فى وسط كل منهما حدقه سوداء لامعه تترجرج .
انه الخوف انه الهلع الاكبر والعملاق الاكبر امسك بذراعيه اليمينين سكينا ضخما .
واليساريين شوكه اكبر .
يغرز شوكته فى كل قطعه لحم عطنه مقسومه سلفا .
ثم بسكينته اليمنى ... يقسم المقسوم .
ويذبح المذبوح ..
ويقطع المقطوع .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثلاثاء 20 اكتوبر 2015
الساعه الثانيه والنصف ظهرا
داخل كابينة الترجمه
اثناء فترة الاستراحه لمؤتمر دولى
مركز المؤتمرات ( تلاتونا )
لواند --- انجولا