الخرزانه بهية
خاسرة دايما يا بهية
يا أم فلقة وبندقية
الزمن فات وانتِ راقده
هو سيد وأنتِ عبده
عن فكره للاستاذ صفوان محمد
كلما تذكرت هذه الحكاية ضحكت من أعماق قلبي ، حتى بعد أن مرت كل هذه السنون وكبرت ونضجت .
حتى في وقتها ، عندما تركت هذا الفصل الدراسي ... بل وتركت المدرسة كلها ، نهائيا وبلا عودة .
يومها ... في ذلك الصباح القاتم ... دخل الفصل في الحصة الأولى الأستاذ ( بيشي ) .
هذا القصير ذو الوجه الكئيب ... المكتئب دائما .
كان قصيرا ، ملفتا بقصر قامته للدرجة التي كنا نتمازح فيما بيننا ونقول : أنه حتى إذا ذهب الى الصين فسيكون قصيرا وسط الصينيين أنفسهم .
وكان مما يميزه أيضا ، قرعته الواضحة في مقدمة رأسه والتي تدل على انحسار شعر رأسه في وقت يحتاج فيه الاستاذ بيشي أشد الاحتياج للتصابي كما هو واضح من سلوكه وشخصيته وطريقته في الكلام والمخاطبه ، التي هي اقرب لطريقة النساء ... وتحديدا المرآة عندما تتدلل لزوجها وتطلبه لمطارحة الغرام ، دون أن تقولها صراحة .
كذلك ( الزبيبة ) ... أو علامة الصلاة في مقدمة صلعة رأسه ، التي تكاد تمحى والتي تأكدنا يقينا أنها حفرت عمدا أو وجدت غصبا بفعل آلة حادة على غير رغبته الحقيقية ... مفتعلة تبدوا لكل ناظر لوجهه كأنها ختم طبعه هو بنفسه على جبينه بآلة صلبة ، لا لشيء إلا لافتعال مظهر خاص ليخدع به كل السذج والموهومين .
الاستاذ بيشي لم يبدوا لنا أبدا قويا ، ولم تظهر لنا أي علامة تفيد أنه يتمتع بمظهر من مظاهر القوة .
فهو مع قصره أقرب إلى أن يسمى نحيفا ، والاهم من ذلك هي تلك الاخبار المتواترة منذ زمن عن اغتصاب الاستاذ بيشي جنسيا في فترة تعليمه الثانوي ... حتى هو اعترف ضمنا بهذا ... عندما كان يتفاخر أمام الطلاب بذكريات صباه ، فقد ذكر أكثر من مرة أنه عندما كانوا يعتدون عليه في المدرسة ، كان يرد دائما ( لما أكبر هضربكم ) .
ولم يذكر لنا أبدا استاذ بيشي ما هو نوع الاعتداء هذا .
حتى إن الغمز واللمز صار عرفا وعادة داخل فصلنا الدراسي ... بل وكل الفصول في المدرسة عندما يتحدث الاستاذ بيشي بفخر عن اولاده الاربعة وكيف انه كافح من اجل تربيتهم بعد انجابهم .
وكنا نتساءل بهمس مغموس باللمز .
كيف جئت بهؤلاء الاولاد يا استاذ بيشي ؟؟ .
باختصار ... لم نخشى ابدا الاستاذ بيشي ... فهو استاذ عادي جدا ، لا يحمل اي صفات لصاحب الشخصية القوية الذي يفرض وجوده وحضوره ... بل كان احترامنا له ... أو بالاحرى صمتنا عن السخرية منه هو فقط من باب انه استاذ في هذه المدرسة العريقة .
إلى أن جاء هذا اليوم الفاصل في هذا الصباح القاتم .
***********
في هذا اليوم الغابر بذكراه الغابرة ... دخل استاذ بيشي مكفهرا قاطبا حاجبيه ... مظهرا علامات غضب وانفعال مفتعلة .
عندما رأيناه ، كنا نريد أن نضحك حقيقة ... ظننا أن أحد رفقاءه في تعليمه الثانوي قد قابله مصادفة وراء أحد الابنية الخربة واعتدى عليه ثانية ... ولكن لم يكن هذا هو مربط الفرس .
وقف استاذ بيشي في منتصف رأس الفصل الدراسي بقامته القصيرة ، وانتهز صمتنا المشوب بالغموض والفضول وقال ( بكره كل طالب يجيب خمسه جنيه ) .
تعالت الهمهمات والهمسات من اركان وجنبات الفصل ... وسرعان ما تصاعدت لتكون اعتراضات مسموعه بدون حياء ... يلقيها أحد الطلاب من هنا ومن هناك .
- ليه يا استاذ بيشي ... خمسه جنيه ليه ... بتوع إيه .
فيرد بيشي بكل ثقة وضيعة في لكنه ولهجة بدأت تكشف لاول مرة عن حقيقة أصله بدون مواراه أو تجميل .
- عشان اصرف ع الفصل ... أمال هصرف عليه منيين ... ميزانية المدرسة صفر ... يعني مفييش ... انتو فاكرين إني هاخد الفلوس دي ف جيبي ... انا هجيب بيها حاجات للفصل ... ليكوا كلكم ... ولا انتم عاوزين تتعلموا ببلاش ... هتكلوا المدرسة يعني ... عايزين تكلوها يعني ؟ .
في بداية الامر لم نأبه كثيرا لهذه الطريقة المتكلفة المصطنعة ، فقد كنا اعتدناها في تركيبة شخصه ، بالاضافة إلى عدم احترامنا له وسخريتنا المكنونة منه ... والتي كنا نجاهدها دوما لكي لا تفلت من على اطراف السنتنا دون الارادة ، هذه السخرية المكبوته من كونه كائن عجيب وجد بيننا بالخطأ .
تصاعدت صيحات اخرى من اكثر من جهة .
- طب مش هندفع .
- مش دافعين حاجه وابقوا ورونا هتعملوا ايه .
- يعني هي جت ع الخمسة جنيه دي اللي هتأذوا الطلبة بيها .
- يا بيه حرام ... دا في هنا طلبه الخمسه جنيه بالنسبة لاي واحد فيهم تحل له ازمات مش ازمة واحدة .
وبكل تمكن وثقة من فعله ورد الفعل له ، عدّل بيشي من وقفته ... تماما كالاعرج المعاق الذي يعدّل من وضع جسده ليستقيم ليراه الآخرون.
وكذلك كا ن يفعل ستالين ... فهو قصير مثله ، بل أنه بدا لي في كثير من الاحيان انه اقصر منه .
مسح بيشي بنظره كل الفصل فاستكانت كل الالسنة وصمتت ... تماما كما فعل الحجاج قبل ان يلقيي خطبنته الشهيرة ... ولكن الاستاذ بيشي لم يكن ملثما ، كان مكشوف الوجه .
صمت الجميع وعندها نطق بيشي :
- كده اللي مش هيدفع الخمسة جنيه هيسقط ... ومش هيشوف نجاح تاني طول ما انا موجود .
في هذه اللحظة ران صمت مطبق ... مظلم ... معتم ... على كل المكان وصمت الجميع صمتا تاما حتى كدت أن اعد عدد انفاسهم بين لحظات الصمت ، وكان صفرا تاما كامل التمام .
في هذه اللحظة نفسها بدأت أشم لأول مرة رائحة الذل تنبعث من داخل كل الأنفس الموجودة داخل الفصل .
ساعتها أدركت ان التاريخ يتغير ... وأنه لم يكن ليتغير داخل مدرستنا وتحديدا داخل فصلنا لولا هذا الصمت الغارقق في رائحة الذل ، الذي صار يوصمنا جميعا .
لم يكن ليتغير الا بمقدمات وبأعراض داخل نفس كل منا ... كل بدواخله ... وكل برائحة مقياس الذل والكرامة المنبعثة من جسده .
***********
وبدون أي تردد ... عاد كل منا في اليوم التالي وفي كف يده خمسة جنيهات مطوية ... طبعا خوفا من الرسوب وإعادة السنة الدراسية ، لا حبا ولا خوفا من الاستاذ بيشي ... حيث ان شعور الخوف منه هو شخصيا لم يكن قد تولد بعد .
وبعد ان القى علينا تحيته المعتادة بصباح الخير التي لم تخلو ابدا من تهتكه المعروف ، سألنا صراحة إذا كنا قد أتينا بالخمسة جنيه ... فأجبناه جميعا بأنه قد حدث .
وعلى الفور أخرج الاستاذ بيشي من درج مكتبه صندوقا بلاستيكيا صغيرا مزركش الالوان ومكتوب عليه بخط واضح ( في حب الفصل ) ... وعلى ما يبدوا أنه انفق وقتا لا بأس به في تحضيره على هذا الشكل ليزيد من الحبكة الدرامية للموقف ... وبدأ بيشي في المرور بين صفوف الفصل ، يأخذ كل خمسه جنيه من كل طالب ويطمئن أنه وضعها بنفسه داخل الصندوق .
لم ينسى الاستاذ بيشي أي زاوية او مقعد أو تخت ... كأنه كان حريصا أن يستنفذ كل ما لدينا ... من كل من هو موجود .
عاد بالصندوق إلى مكانه عند رأس الفصل وابتسامه خبيثة تغمر وجهه ... جلس صامتا ينظر الينا بابتسامته الصفراء تلك ... خمس دقائق تقريبا ثم قام وقرر الغاء حصة اليوم ، بل انه الغى يومنا الدراسي كله ... فرحنا بالطبع وهللنا .
هو ، لم ينسى أن يذكرنا بأن نعود كلنا في اليوم التالي ... مبكرا منذ الحصة الاولى .
**********
في اليوم التالي كنا تقريبا داخل الفصل ... منذ ساعات الصباح الاولى .
منا من كان يجلس معتدلا على مقعده ، ومنا من كان ممددا في حالة استرخاء ، ومنا من اضطجع على تختين او ثلاثه .
كنا نمزح ونتمازح وقد نسينا تماما قصة الخمسة جنيهات وكوميدية الاستاذ بيشي .
حتى فوجئنا بثلاث خبطات على خشب باب الفصل كقرع التنبيه قبل بدأ أي عرض مسرحي .
انتبهنا ... وقلنا لانفسنا لعله الاستاذ بيشي يريد ان يفاجئنا بفقرة فكاهية من فقراته العفوية .
ركزنا انظارنا على الباب في انتظار قدوم الاستاذ بيشي ، فإذا بمن يطل علينا ويدخل هي مقدمة عصا ... أو خرزانة سوداء ظويلة من تلك الخرزانات التي سمعنا عنها كأداة للعقوبة يستخدمها المدرسون الغلاظ الشداد ليلهبوا بها أيادي وأجساد الطلبة .
لم نكن قد رأيناها قط ... سمعنا عنها فقط ، كما سمعنا ايضا انها تعتبر من ادوات التعذيب البدائية والبسيطة في المعتقلات لاي وافد جديد .
كانت الخرزانه غليظة وطويلة ... ظلت تدخل وتدخل من وراء حاجز الباب ولا نكاد نرى لها اخر او نهاية ... تقريبا اكثر من متر ونصف ، تهتز كلما تحركت او تحرك قابضها .
حتى ظهر اخيرا الاستاذ بيشي ممسكا بها في انتشاء وسعادة .
وقفنا كلنا على اقدامنا بأفواه متعجبة مفتوحة وعيون قد فتحت على مصارعها .
دخل الاستاذ بيشي وبمنتهى الهدوء والسكينة جلس على مقعده ووضع الخرزانة على منضدته ونظر الينا بمنتهى الصلف ... كنا في انتظار اي كلمه منه او توضيح ... قال : ( مش هتصبحوا على بهية ولا ايه ؟ ) .
**********
كان اسم بهية ذو حساسية كبيرة بالنسبة لنا جميعا ، فاسم مدرستنا هو بهية الأرناؤطي ، وقد كانت سيدة ثرية من سليلات بيوت العز والجاه ... عرف عنها الوطنية وخدمة الوطن .
تبرعت بقصرها قبل وفاتها في الثلاثينات ليصبح مدرسة تعلم وتربي كل الاجيال القادمة .
كما ان فصلنا نفسه اسمه فصل بهية بما ان كل فصل في مدرستنا له اسم من اسماء اعلام الادب والعلوم والفنون ... والاخلاق .
حتى كلمة بهية في حد ذاتها ... تترك انطباعا فوريا بالبهاء والاشراق واللون الاخضر المبهج ونباتات الحقول الزاهية التي تتفتح بخضارها الحي داخل المآقي والبصائر بعد طوفان ممطر .
جاءته الاجابة وسط ضحكاتنا المكتومة .
- نصبح على مين يا حاج بيشي .
- ايه اللي انت جبته ده ... يا خسارة الخمسة جنيه .
- وبهيه دي بقى نصبح عليها ازاي بالضبط .
وسرعان ما انفجرت ضحكاتنا المكتومة لتصبح قهقهات عالية مجلجلة .
وعلى اثر ضوضائها قام بيشي من مقعده وعلامات الغضب تكسوه تماما ... وأمسك بالخرزانه .
- مادام انتو مش عايزين تصبحوا على بهية ... هي اللي هتصبح عليكم .
ورفع الخرزانه لاعلى وبعزم قوته انهال بها على خشب منضدته فأحدثت طرقعة مرعبة انخلعت لها كل قلوبنا ... وتخيل كل منا جسده الطري بعظامه اللينة وهو يتلقى ضربة كهذه .
نظرنا الى خشب منضدته فوجدنا اثر ضربة بهية ... خط طويل احمر وسط خشب الطاولة الرمادي ، كأنه شق غائر طويل ... تخلق بسبب ضربة ... واحدة فقط من بهية .
بدأ جبين كل منا في صب عرقه صبا ، وبدأنا نرتجف وكل منا يفكر فيما سيحدث بعد قليل او ما سيحدث من الان والى مالا نهاية ... فالأمر لم يعد كما كان من قبل .
وحدث ما كنا نخافه ونتوقعه ، إذ تحرك استاذ بيشي من مكانه عند رأس الفصل ... ممسكا ببهية ، وبدأ يمر على كل الصفوف ... كل على حده .
وعند كل صف يأمر الطلاب ... كل منهم بالصعود على تخته الدراسي والجلوس منحنيا في وضع الكلب وخاصرته تكاد ترتطم بوجه من خلفه .
ثم يرفع الاستاذ بيشي خرزانته بهية وينهال بها على خاصرة من عليه الدور ... وهكذا .
وبدأ بقية الطلاب في استعطاف الاستاذ بيشي ، بإلقاء تحية الصباح على بهية .
- صباح الخير يا ست بهية .
ولكن هذا لم يرحمه من الضرب المبرح على خاصرة كل منهم ... وبدأت أنا الاخر القابع في الركن الاخير من الفصل ... اتحسس خاصرتي .
بدأت أتوجع بدون ألم وقد ايقنت تماما أن اليوم لن يكون يوما عارضا ، بل هو بداية الآلام .
**********
في اليوم التالي عاد كل منا ممسكا بخاصرته ، بتأوهات مكتومة خجولة وعقول مصدومة من المفاجأة والتحول غير المنطقي واللامحسوب في غفلة من الزمن .
ولم يمهلنا الاستاذ بيشي طرفة عين ... حتى لنفكر مجرد تفكير أن هناك تغيرا قد حدث ، دخل الفصل وبدون حتى ان يحيينا بصباح الخير ... امرنا جميعا ان يصعد كل منا على تخته الخشبي ... وان نثبت على وضع الكلب مثلما كنا بالامس ... ومر علينا وانهال على خواصرنا ، ليلهب كل منا ببهية ... وسط صرخاتنا التي انطلقت وتعالت .
ثم امرنا بالجلوس لاستكمال الدرس ... وعندما قاربت الحصة على الانتهاء امرنا ثانية بالعودة لوضع الكلاب لينهال على خواصرنا بخرزانته بهية ... ونحن نصرخ ونستنجد ببهية ذاتها ... ولا مجيب .
وبمرور الايام اعتدنا على هذه العادة ، ان تلتهب خواصرنا بطرقعات بهية عند بداية ونهاية كل حصة للاستاذ بيشي ... ولكن يا ليتها اقتصرت على هذا .
ففي احد الايام في منتصف احد الحصص الدراسية للاستاذ بيشي ، انحرفت من رأسه فكرة استخدام بهية كأنه قد شق عليه أن يرانا بخواصر ملتئمة وأبى إلا أن تكون دائما ملتهبة .
أمرنا الاستاذ بيشي بالعودة لوضع الكلاب ... وعلى الفور صعد كل منا إلى تخته بدون تلكؤ ... فلم يعد أحد منا يفكر مجرد التفكير في ماهية الامر ... رغم شططه السادي ... وانهال علينا بيشي ببهية ، بعنف وقسوة اكثر من أي مرة سابقة ، ولم يفكر اي منا أن يرفع عقيرته محتجا على تعذيبه ببهية ... كانت كل الألسنة تسبح في وقت واحد بحمد بهية
( تسلمي يا بهية ... تسلمي ) .
ولكن في واقع الحال ... لم يعد احد منا يطيق اسم بهية .
صار بالنسبة لنا رمزا بغيضا ... مكروها الى اقصى مدى .
**********
وبما تبقى لي من دم حر يغذي عروقي ، قررت ان اغضب وتمنيت أن أثور .
لكن كيف لي ان اثور وانا لم اعرف معنى هذه الكلمة ولا كيفية تفسيرها .
الاهم من هذا أنني لم أكن واثقا إن كان احد من رفقائي يشاركني نفس شعوري ...غضبي ورغبتي الدفينة الصادقة المسماة بالثورة .
واحد فقط ظننت انه يمكن ان يشاركني تفكيري ( فخر الدين ) أو فخري كما كنا نناديه .
كان موتورا ارعن ... لا يحسب حسابا لردود افعاله ولا لكلمات لسانه ... ولا يستطيع ابدا اخفاء ملامح غضبه التي رسمت ونحتت على تقاسيم وجهه منذ ان بدأ بيشي في استخدام بهية .
بدأت انفرد بفخري واشعل غضبه أكثر فأكثر ، حتى اقسم لي أنه عند اول فرصة سينتهي من بهية إلى الابد وليكن ما يكون ... وفي احد هذه الايام الذي لم ولن يتكرر كثيرا ... أتت هذه الفرصة .
***********
في هذا الصباح الفارق دخل الاستاذ بيشي وقد بدا عليه شيء غريب غير معتاد ... وعندما دققنا النظر اكتشفنا انه جاء وحيدا ... منفردا ... معزولا ، مجردا من بهية .
وعلى الفور عاجلناه بالسؤال كأنه قد عز علينا ألا تلهب خواصرنا ولو لمرة واحدة في بداية الصباح .
نظر إلى طاولته يمينا ثم يسارا وقال في منتهى الثقة ... بدون خوف من انه متجرد من سلاحه الفتاك .
( يظهر إني نسيت بهية في صالة المدرسين ... حد فيكم يروح يجيبها عشان تصبح عليكم ) .
وعلى الفور هببنا كلنا من مقاعدنا وصحنا في نفس واحد :
( كلنا رايحين نجيبها يا استاذ ) .
وانطلق كل الفصل لصالة المدرسين وتركناه فارغا إلا من استاذ بيشي الذي جلس مبتسما ، واثقا من أن عبيده سيأتون له بخرزانته بدون انا يقوم من مقامه ويطلبون منه ... بل ويرجونه أن يلهب بها خواصرهم ... ثم بعد هذا يشكرونه ويحمدونه ويمجدون بهية ... ويطلبون منه ان يكرر لهم هذا الشرف .
***********
اندفعنا كلنا الى صالة المدرسين كجحافل جواميس برية عطشى ، وجدت عين ماء وكلأ في وسط الصحراء .
وجدنا بهية راقدة ... صماء بدون حركة ... بدون وجه قبيح ... بدون تسلط ولا طغيان .
انقض عليها فخري كأنه وجد ثأره فيها وأمسكها من اطرافها إلى اقصى ما امتدت يديه الاثنتين في امتداد ... وانهال بها على فخذه ليكسرها ... فلم تنكسر .
كانت بهية غليظة ... خشنة ... عصية على الانكسار .
انقض على فخري كل رفقاء الفصل ... كلهم الا انا ... وانتزعوا بهية من بين يديه وصرخوا في وجهه .
- انت مجنون يا فخري .
- سيبوني اكسرها واريحكم منا على طول ... سيبوني .
- انت اتجننت يا فخري ... عايز تكسر بهية ... دا احنا دافعين فيها فلوس ... دا مالنا ... وبعدين لو كسرتها هنضطر ندفع فلوس تاني لبيشي ... وانت عارف ... اهتدي بالله يا فخري ... الله يهديك ... الله يسترك ... الله يهديك .
احكموا وثاقهم على ذراعي فخري ، والتفوا حوله يهدئون من روعه ... بينما انكمش جسد فخري وسطهم ... وصار ينظر اليهم باستغراب واندهاش وهو مغموس بجسده تماما وسط اجسامهم كأنه قد فقد عقله للتو في تلك اللحظة .
حملوا فخري بعيدا بعد ان اوثقوه ... وألقوه بعيدا عن الفصل وعن حدود المدرسة ، حتى لا يوصمون بعاره ... أنه حاول يوما ما ... في ساعة ما ... وتجرأ أن يكسر بهية .
وحملوا بهية ذاتها إلى استاذ بيشي ... وصعد كل منهم الى تخته في وضع الكلب ... وقالوا بصدق يزينه العار ... كل العار .
- خلي بهية تصبح علينا يا استاذ بيشي .
اما انا فلم اعد للفصل ... وقررت قرارا نهائيا بعدما رأيت وسمعت ... ألا أعود لهذا الفصل ولهذه المدرسة أبدا ما حييت ... حتى لو اختفت من الوجود بهية .
***********
تغيبت عن المدرسة لأكثر من شهر ... وبالطبع ارسلوا لي عدة خطابات تحذيرية ... وفي النهاية أرسلوا لي قرارا بفصلي الذي سعدت به أيما سعادة .
ومرت سنون كثيرة وانا اتعلم في مدرسة أخرى ... وجامعة اخرى بدون أي أثر لاستاذ بيشي أو أي نظير له ... ولا لبهية أوما شابهها .
وبعد أن مر ما مر من زمن طويل وقد اصبحت رجلا ناجحا في حياتي ... اشتقت لأن أمر مجرد المرور بجانب سور مدرستي ... وأن أقف تحت نافذة فصلي القديم .
وعندما اقتربت من السور وأصغيت للأصوات المنبعثة من النافذة ... كان كل شيء كما هو ... كما تركته ... كأنه كان أمس .
صوت الاستاذ الذي كان بيشي آخر بالطبع ... ينهر الطلاب ويأمرهم أن يجلسوا في وضع الكلاب ليبرزوا خواصرهم ... استعدادا للضرب .
وطلاب الفصل ، جيل آخر بالطبع ... يسبحون بحمد الاستاذ ... ويمجدون خرزانته بكلمات تدل على ذل عميق ... متجذر ... أكثر من ذي قبل .
أما بهية ... فكانت الشيء الوحيد الثابت ، المتبقي منذ ايامي السحيقة .
سمعت صوت اهتزازاتها كأول يوم رأيتها ... وسمعت بوضوح صوت طرقعاتها على خواصر الطلاب .
تلهب خاصرة كل منهم بضرباتها الحارقة ... وسط مخارج ألسنتهم المزدحمة بالحمد والتهليل ... والتوقير ... لبهية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجمعة 13 نوفمبر 2015
العاشرة والنصف صباحا
العياده
لواندا / انجولا .
وسوم: العدد 704