قرود و بذلات
” تقول الاسطورة السورية أنه في قديم الزمان ، و في تلك الليلة حين خيّم الضباب وتشربت السماء بالغيوم فوق الغابة شَرَد أحد القرود وأضاع دربه مبتعداً عن عشيرته ، ليجد نفسه تائهاً في المدينة في بيت رجل أعمال ثري وسياسي برلماني معروف . وكنوع من البريستيج المعتاد درّبه هذا الرجل وعلّمه كيف يلبس بذلة أنيقة وربطة عنق . حتى أصبح فرداً من العائلة يحضر الاجتماعات العائلية والحزبية والعسكرية وجميع المناسبات الوطنية ، كما أنه كان يرافق سيده لحضور جلسات البرلمان ، لكن وبعد مضي سنوات دبّ الشوق في قلب هذا القرد ، فتسلل إلى الغابة وعاد إلى عشيرته مختاراً قرارات قلبه في إمضاء بقية حياته بين قومه . أعجب معشر القرود بهندامه وسلوكه الجديد فنال احترام الجميع ، وتم تعيين القرد الأنيق زعيماً جديداً عليهم .
لم تعجب تلك الحفاوة قلة قليلة من القرود الشابة ، الطامعة بالزعامة و المجد ، فثارت وتمردت على قرارات العشيرة ، وقادت نفسها ، وشنت حملات رعب كبيرة على المدينة بهدف سرقة البذلات الأنيقة وربطات العنق التي ظنوا أنها سبباً لنيل الزعامة ، فدبّ الرعب في المدينة وتم إغلاق جميع المحال التجارية ومعامل صناعة البذلات ، ولم يبقَ في المدينة أي بذلة ، ومنذ ذلك الحين أصبح لباس البذلة وربطة العنق حكراً على القرود ، الذين سرعان ما استلموا الزعامة في بلادنا لليوم .“
واليوم في مدينة كبيرة وجميلة تغلفها الأنوار ، اجتمع جميع من تورط في دمنا للبحث عن طريقة لاخراج بلادنا من عتمتها . القَتَلة والانتهازيون أو ما يعرفون أدبياً (بالسلطويون والمعارضون) ببذلات أنيقة على طاولة واحدة ، بينما الضحية وأمام شاشة صغيرة في خيمة ، بيت مهدم ، مدرسة ، عليهم أن يدفعوا الحساب ، نحن دوماً ندفع الحساب ، في الحرب ندفع من دمنا فواتير أسلحتهم ، ولمؤتمرات سلامهم فواتير خاصة من كرامتنا . وفي لجوئنا حال آخر من العنصرية ، عنصرية عصرية جديدة ، يمارسها الاخوة في براغماتية فائقة .
أما هو كان أحدهم ، استقبلته عندما عاد ، تربع حول نفسه ، ولا رغبة لعينينه بالبكاء ، ربما أمامي لم يفعل ذلك ،لكني أستطيع الجزم أنه بكى طويلاً بين نفسه ، فعيون البواكي عيوننا جميعاً ، بتنا نعرفها جيداً ، هي لغة كل السوريين ، وموسيقاهم في الجنائز والرحيل :
_ « لقد حملق في عيناي في صهيونية عربية حقيرة ، طلب الضابط يومئذ هويتي ثم جدل شاربيه وقال بحدّة "لاجئ ولص? !" ، قلت له "لا سيدي أنا عربي سوري ولم أسرق ، أنا لا أعض اليد التي تطعمني" ، كان الهدوء سائداً ، ولم أسمع سوى هرولة قلبي ، ثم تجولت عيناه الواسعتان على جميع العمال ، و سأل "هل هناك سوريين آخرين بينكم ?" ، كأنه يسأل " هل هناك لص آخر" ، رد عليه مدير ورشتنا وهو مواطن محلي "الكل مواطنون محليون ، هو السوري الوحيد بيننا ، بدأ العمل معنا منذ أسبوع" ، وكأن جوابه هو الآخر كان "لا لص سواه بيننا" ثم تم تحميلي مثل كبش أجرب في سيارة وترحيلي مع عائلتي الى سوريا ، كان الأمر مبتذلاً جداً ،لكنه بالنسبة لي أمر جيد ، صحيح أني قد أموت بأي لحظة هنا ، لكني تخلصت من تلك العنصرية .. أنا لم أسرق ، حلفت لهم مئة يمين أني لم أفعل ذلك ، لقد قال لي أحدهم وهو يضربني أثناء التحقيق "أنتم دمرتم بلادكم بأيديكم وتريدون أن تدمروا بلادنا أيضاً ، لن تحلموا بذلك" ، لا أقول أننا نحن السوريين ملائكة ، لكننا لا نعض اليد التي تطعمنا ..»
أنا أيضاً كنت هناك ، في نفس البلد ، أعتقد أنها عنصرية سيئة ، لكنه أمر سيء لنا كإخوة أن يتم التعامل معك كمذنب على الفور في نظر السلطة فقط عندما يحكموا عليك من جنسيتك . ربما لا يستوجب منا أن نستغرب منهم ذلك ، فرئيس بلادنا العجوز قبل أن يدفنوه ومن بعده الوريث البار و في أيام السلم والرخاء لطالما كان يردد دوماً في خطاباته لنا "أنتم أبنائي ، ويا أبنائي ، وأيها الأبناء" ، ورؤساء الائتلاف الحزبي المعارض بمؤخراتهم الحمراء لا يلائمهم في مناداتنا - منذ سبع سنوات - أكثر من إسم "أيها الإخوة" ، لكنهم لم يخبرونا إخوة ماذا . وكأنهم يقولوا لنا "لا تعيبوا الحكم والرئيس فجميعكم أبناء الكلاب وإخوة القرود".
لهذا سأبعث اليوم برقية صغيرة :
سيدي كبير القرود ، القائد ، الرائد ، الركن ، والمهندس ، والطبيب ، والمفكر في كل مكان . قرود وسماسرة صغار في بذلات رسمية في كل مكان ، في البرلمان ، في المجلة ، في قصر الشعب ، في التلفاز ، في الحزب ، في مؤتمرات السلام ، وفي جميع ملاهي المهجر وفنادق "أصدقاء الشعب السوري" ، في كل مكان ، هنا وهناك .
العاصمة تغص بهم ، قرود أجانب من روس وإيرانيون وصغار طائفيون عرب يستملكون القرار ، السيادة مستباحة ، عاهرات صغيرات مبتذلات بأرداف سورية وعراقية سمينة يحطمن حدود سوريتنا في دمشق لإغواء جنود صبيان خصيان على جميع الجبهات ، عديمو الرحمة والجهلة والمجرمون يتنفسوا في كل مكان من بلادنا . وآخرون كثر من كل الشرائح في الخارج في فنادق فاخرة يتحدثون يومياً عن السلام ، جميعهم ببذلاتهم الأنيقة وربطات العنق الممزوجة بألوان الدم والعلم السوري يحمون أكتافهم ببنادق ويتحدثون عن السلام . أما أنا والسواد الأعظم من هذا الشعب لا نحبذ سلامهم ولا سلامكم . فهو لا يناسب أحد .
سيدي الرئيس ، هذه الحرب على أرضنا خارجة عن إردتنا .. و عمر الثلاثين ملائم لكل شيء ، للدراسة ، للزواج ، للعمل ، لبناء بيت ، لإنجاب الأولاد وحتى للسلام ، وجميع من تمردوا هم دون ذلك وفوق ذلك ، هو عمر للمستقبل ولكل السياسات والمستحيلات . والأهم من كل ذلك ، جميع من ماتوا في هذه الحرب هم بين ذلك ، ماتوا ليس لأجلكم ، ليس لحربكم ، وليس لأجل أحد ، بل لأجل مستقبل أحسن لبلادنا .
سيدي الرئيس ، بذلاتكم الأنيقة لا تناسب مقاسنا ، ولا تحمي أبنائي القاطنين في خيمة ، وكراسيكم الفخمة الفارهة لا تغري مؤخراتنا بالراحة وبوعود الوفرة والأمن ، فبلادنا ليست دغل في غابة ، ونحن ، هنا وفي الشتات لسنا قطيع من قرود ولا عشيرة . لهذا خذوا شهواتكم وبذلاتكم وقرودكم وارحلوا عن بلادنا .
وسوم: العدد 719