الحذاء
حدث نفسه : " أسبوع ، لا ، أكثر من أسبوع ، تقريبا عشرة أيام ، ولم يأخذ أحد الحذاء ! معقول ليس بينهم محتاج ؟! ناس متكبرون . الحذاء شبه جديد . " . وبلغ بوابة مزرعته الصغيرة . مزرعة من دونم واحد شراه في هذه المنطقة الريفية ، وزرعه صنوفا من الشجر المثمر ، واستثنى حوضين لزراعة البصل والجرجير والبقدونس وعين الجرادة . وبنى في الزاوية الجنوبية الغربية من المزرعة غرفة أرفق بها حماما ومطبخا خارجيين يلاصقانها من جهتها الشمالية . ويندر أن يغيب عنها يوما واحدا . لا يعمل من عشر سنوات ، منذ الانقسام في 2007 . وراتبه كبير كعقيد في المخابرات . صار عقيدا في ثلاث سنوات من عمله في المخابرات . الترقية في سلك الوظائف الأمنية في السلطة الفلسطينية لا شبيه لها في سرعتها في أَمنيات العالم ، وهدفها زيادة راتب المنسوبين ، وبهذه السمة تكون ترقية مالية لا مهنية . وتسهل وتشتد سرعتها إذا كان للمنسوب قريب أو صديق يشفع له عند من يملكون قرار الترقية . وأبو وفيق ، وهذه كنيته ، واسمه الذاتي عصام ، أبو وفيق هذا أو عصام نال الثانوية بمعدل 50 % بعد عامي رسوب صارخ ، ولمع بوفرة مشكلاته ومشاجراته في المدرسة وخارجها بعد نهاية الدوام أو قبله ، مصحوبا برداءة في كل المواد إلا الرياضة ، وتخصيصا الجري ، وهو ما يتوافق ويتناغم مع شخصيته المشاكلة المشاجرة . سرعة الجري غير العادية لا مستغنى عنها لمن هذه صفته الأساسية . يحتاجها في الفرار من الخصوم إن انهزم ، وفي تعقبهم إن هزم . وليسر حاله ماليا في رتبته العالية أكثر من الملابس الراقية ، ومن الأحذية الأنيقة الغالية . ومنذ أسبوع أو عشرة أيام مثلما قدر ؛ شعر بأنه في غير حاجة لحذاء أسود ذي شكل طولي يجعله شبيها بالزورق ، طرفه مدبب ، فوضعه في الرف العلوي لحامل الأحذية المثبت على يمين باب المسجد الذي يصلي فيه بعض الأوقات ذاهبا إلى مزرعته أو راجعا منها إلى بيته في المدينة . وتوقع أن يخطفه أحد المصلين فور الخروج من صلاة العصر التي دخل المسجد ليصليها بعد أن وضعه في الرف ملصقا عليه ورقة صغيرة مكتوبا فيها بخط كبير أحمر " لمن يشأ " راسما همزة " يشاء " فوق الألف تعرية غير مقصودة لرداءة ماضيه المدرسي . وتأخر قليلا عن الخروج بعد الصلاة ليتأكد من أخذه ، وابتلع ريقه في استياء حاول تخفيفه لما وجده في موضعه وقد تفرق المصلون سوى اثنين انشغلا بالحديث معا خلال لبس حذائيهما . لم يرحه ما حدث أو بالأصح ما لم يحدث ، لكنه تحمله . الأمر في أوله . أما الآن ، الآن ، بعد عشرة أيام ، فهو مغيظ ويخجل من نفسه لرداءة تقديره . وغمغم : " ناس متكبرون . عملت ما علي . يعني أترك لهم حذائي الجديد الذي شريته بمائتي شيكل ؟! " ، وضرب به بلاط الغرفة وهو يضع السكر في براد الشاي ، وندم لقبوله بسهولةٍ اعتذار زوجته من عدم المجيء معه . كثيرا ما تجيء معه إلى المزرعة ، فيمضيان فيها أوقاتا حلوة ماتعة خاصة إذا لم يكن معهما أحد من أولادهما وبناتهما . واستروح ما فاح من عبير أوراق شجرة الليمون حين حركت الريح أغصانها الملامسة لنافذة الغرفة الغربية ، فبادر يوصدها ليوقف ارتجاف لهب موقد الغاز . ولمح خلف الشجر المتشابك جانبا متغيما من السماء . قد تمطر . إذا غزر المطر فلن يسقي الشجر غدا مثلما نوى . وود لو يشاركه أحد من أصدقائه في شرب الشاي والتدخين . وعاوده الندم لعدم حضور زوجته ، وندم أكثر لتأخره في شراء سيارة بعد ما باع سيارته التي كانت تسهل حضور زوجته إلى المزرعة . يركب منذئذ سيارات الأجرة القليلة التي تأتي إلى المنطقة ، وأحيانا يأتي أو يعود ماشيا أو يردفه خلفه أحد معارفه القليلين من أهل المنطقة على دراجته النارية . أزف الغروب ، وبدأ المطر . بدأ رشاشا ، وفي دقائق انهمر . وتطلع أبو وفيق من الباب . السماء صفحة من السحب في أكثر جوانبها . سيلتقط أي لحظة يخف فيها المطر ، ويسرع إلى بيته . ووافته اللحظة بعد ربع ساعة أو تزيد قليلا . سار وصوت حذائه على الأسفلت الذي تناثرت فيه البقع المائية يرن في سمعه . المطر يفضح رداءة الطرق . صدفة مزعجة أن يمشي بهذا الحذاء الجديد الغالي في الماء ، وابتسم ! الحذاء الذي وضعه في حامل أحذية المسجد أنسب للمشي على أسفلت ممطور . وبلغ المسجد وأذان المغرب يرتفع في ريح لينة مبتلة بالكاد تحرك سعف النخلة القريبة من واجهته ، وعاود المطر النزول بقلة . وانتبه أبو وفيق إلى كثرة المقبلين على المسجد ، فابتسم ! الإنسان مفطور على النفور من المسئولية والتكليف ، نزاع إلى الراحة والتخفيف. كثرة الناس المفاجئة وراءها رغبتهم في صلاة العشاء جمع تقديم . اللهم اقبل منهم ! الله يحب أن تؤتى رخصه . ووقع ما قدره . صليت العشاء جمع تقديم ، وبادر إلى الخروج بعد صلاة السنة . أين حذاؤه الجديد ؟! وتلفت في المصلين متسع العينين ، وصرخ مستنكرا مغيظا : من أخذ الحذاء ؟!
رمقوه مستغربين ، ونظروا إلى بعضهم متسائلين ، ورغب أحدهم في تخفيف صدمته ، فقال مجيلا عينيه في رفوف الحامل : يسرق بعد صلاتين ؟!
واقترب أبو وفيق في انفعاله الهائج وغضبه المائج من شتم المنطقة وأهلها ، ولديه معجم قديم من الشتائم ، يديم تجديده بلا توقف ، وأعانته مهنته في المخابرات في هذا التجديد ، لكنه خشي أن يعرض نفسه لضربهم ، فلجم نفسه بمشقة متوترة ، واجتزأ بالقول : هذه اللعبة لا تمشي معي . سأعرفه ولو اندس في سابع أرض !
وسرت عينه إلى حذائه القديم ، فتناوله وانتعله والغضب يمور حارقا في صدره ، وقال لمن حاول التخفيف عنه ومواساته : وضعت هذا الحذاء من عشرة أيام . لم يأخذوه . أخذوا حذائي الجديد !
ولجم نفسه ثانية عن الشتم ، وحبس الشاب ضحكة لو انبجست لكانت كبيرة .
وسوم: العدد 719