براءة
أغرقنى الليل في يم القلق،أتمثل المحكمة،تهاجمنى صيحات القاضى:
- براءة.
- حبس المتهم محمد ثلاث سنوات.
- تغريمه خمسين ألف جنيه.
أقرأ محضر التحقيقات مرة ومرة،أتلو حيثيات الأحكام في مثل هذه القضايا،معظمها أحكام إدانة،الوقائع أفرزتها أخيلة لا تتقن التأليف،تلك الوقائع ومواد القانون في وادى،وتحريات الأمن الوطنى فوق التلال والهضاب،نصح الأستاذ فؤاد بالبحث عبر شبكة الانترنت عن أحكام البراءة،ليثبت أنها كثيرة،بصراحة أتشكك في صحة هذه المقولة،فأحكام البراءة معدودة،والأدانة تزخر بأحكامها مواقع الصحف الإلكترونية،حجر القانون على التظاهر،أثمه وأفرد له نصوصا عقابية تخرب البيوت،تربكنى الأسئلة:
- هل قامت ثورة في 25 يناير 2011؟
- ما هى أدوات الثائرين؟
- لماذا يطلقون على 30 يونيو ثورة؟
- لماذا يصدر نظام ما بعد 3 يوليو قانون يجرم التظاهر؟
- ما هى مفاهيم الثورة؟
أحاول ربط هذه الأسئلة بالواقع القانونى،حاول أبى النقاش طوال الفترات الماضية مع الأستاذ فؤاد،ولكنه وجدته متحفظا،فحرص على عدم أثارته حتى لا يظن أننى أخوانى،ناوشته مثل هذه القلاقل،سأله:
- أتتوقع حكما معينا؟
- ربنا يسهل.
- أيجوز أن تزور الوقائع؟
- لا يمكننا التصريح بذلك وأن حدث فعلا.
- أليس للجريمة أركان مادية؟
- بلى.
- أرى أنها لم تثبت في حق محمد.
- كون النيابة تقول أنه شارك في التخريب فهذا يكفى.
- لماذا اللجوء إلى المحامى طالما كتاب النيابة هو الناموس؟
- للإرتزاق ياحاج.
- لا أقصد الأهانة أصلا.
- عموما سأقرر في الصباح المرافعة من عدمها،حينما يتصل بى طلبه سكرتير المحكمة.
سجل أبى وقائع جلسة المحاكمة فى كراسته ساردا:
(غادرت المكتب،يا ليتنى ما ذهبت إليه،هطل الصباح،رافقنى صديق إلى مبنى المحكمة،لم تبلغ الساعة الثامنة،أبواب المحكمة مغلقة،أرتكن فوق الرصيف،أتصل بالاستاذ شهير،يعتذر عن الحضور،لا أهتم بالمرة،أحاول مكالمة مروان،هاتفه مغلق،أتشائم فأنصرف عن مهاتفة فؤاد،أفرد صرة الأدعية،يستعجلنى صديق للصعود إلى الدور الثانى،القاعة 12،رجال الأمن يفتحون باب المبنى،نصعد،نقف أمام القاعة،ينفض العاملون النوم من على جفونهم،يبدأ العمل بالقاعات ماعدا قاعتنا،يتوافد المحامون،يزاحمهم المجنى عليهم والجناة،يظهر في الطرقة بائع الشاى والسجائر،أنظر من الشرفة المواجهة للشارع الرئيسى،الأستاذ لم يأت بعد،تتجاوز الساعة التاسعة،أخيرا ينفتح باب القاعة،يعلق الحاجب الرول على الحائط،أقرأالجدول،أتأكد من رقم القضية وتسلسها،أدخل إلى القاعة،لا يزيد من بداخلها عن عشرين فردا،يخبر السكرتير المحامين بإن المحكمة ستنعقد بعد نصف ساعة من الآن،فقد حضر القاضى ووجد باب المحكمة مقفلا،فعاد إلى بيته القريب ولم يحضر بعد،بيدى لفة أوراق؛القانون 107لسنة2013،مهام ووظائف قوات الدفاع الشعبى كما وردت على لسان قادته،قراءة متأنية للتحقيقات،صور ضوئية من الصور الوارد أرقامها بالمحاضر،أصل شهادة التجنيد،لا أدرى لماذا أحمل هذا الملف وأكبر منه حجما مع الأستاذ،وعلى ذكر الأستاذ فهو لم يحضر حتى الآن،ربما يعتذر حتى تكتمل الملهاة،أراقب الشارع لعلى أعثر عليه،يتزايد الرواد وكأننا في أحد شوارع العتبة،وكأن الشعب كله في نزاع مهول وصاخب،الأرض متراشقة بالمحامين،تسحب زرافات محابيس الاحتياط إلى الزوايا،يقابلنى في الوقفة شابان مقيدان بالكلابشات،بجوارهما امرأة عجوز،يتكئ على جنبها أحدهما،وفجأة يتمرغ الولد على الأرض،فيضطر الشاب الآخر للزحف جواره،فالقيد يشدهما معا،يتفل الولد ريما أبيض اللون،يرفس بقدميه،يرتج جسده منتفضا،تقتحمه أعراض الصرع في أشد نوباتها،بعض المحامين يصرخ على أمين الشرطة المكلف بحراستهما،فينظر الأخير إلى المشهد وكأنه لا يعنيه،لا أحد يتطوع بالمساعدة،تصرخ المرأة وتشق صرخاتها جدر القاعات،فيخشى الأمين لوم أحد القضاة له،فيسرع بزحزحة الشابين بعيدا عن القاعة،وعلى بعد خطوات طابور من المحبوسين،شكله غريب نوعا،يقف البعض ويجلس الآخر وينام الثالث،يشكلون وترا لمثلث قائم الزاوية،بأيديهم زجاجات المياه الغازية والسندوتشات وعلب السجائر،أظن أن حراس هذه المجموعة متفاهمون،قبضوا ما يفى بحاجتهم اليوم،بين هذه الأجساد وغيرها المنبطحة هنا وهناك يتحرك المحامون،يتبادلون الرأى،وفى خضم هذا الزحام يظهر الأستاذ،بيده ملف محمد،أهرع إليه،يرافقنى صديق،يلتف حوله الأصدقاء والمعارف،يتصايحون بالتحية،يلج القاعة،نتبعه كالظل،يجل فوق دكة الصف الأول،يركن الملف والروب،يخرج من الباب الخلفى،يبحث عن السكرتير،يظهر وبيده حزمة ملفات القضايا،يقسم الكومة إلى اثنتين،أجلس مع صديق على المقاعد الخلفية،يصيح الحاجب:
- محكمة.
يقف الجميع،ننتظر دخول القاضى،يسبق الجميع في الدخول،يجلس على يمينه وكيل النيابة،وعلى يساره طلبه،يستهل الحاجب قراءة الرول؛لا تستغرق المرافعة دقيقة أو دقيقتين،ولكن معظم القضايا لا يحضر فيها أحد،فهذا القاضى معروف عنه الحسم،يحضر أمين شرطة من قسم العجوزة،يودع قاصرين جوارى ويطلب منهما عدم التحدث واغلاق الهاتف،أردد:
- يا لها من رقة مفرضة!
يسرع الحاجب في تلاوة الاسماء وكأنه على موعد بعد دقائق،الأستاذ فؤاد يتململ ،أدركت الآن أن الدور قد حل عليه،أستهل المرافعة:
- حاضر عن المتهم بالتوكيل رقم..........
يتوجه بالحديث إلى طلبه:
- سجل يا أستاذ أن المادة رقم من قانون المرافعات تنص على.............
يقطع القاضى السكة عليه قائلا:
- براءة يا استاذ.
يلم فؤاد الملف الذى لم يفتحه بعد،يخرج،أعدو خلفه،أسأل:
- ماذا قال؟
- ألم تسمع أنه حكم بالبراءة.
أستوثق من صديق،فيؤكد على مسامعى:
- براءة.
أضرب رقم محمد:
- مبروك؛براءة.
- أبهذه السرعة؟
- يا عم اسجد شكرا لله.
أطلب والدتى:
- مبروك يا حاجة؛براءة.
تخترق الزغاريد اذنى،فرت الدموع من عينى،أهاتف زوجتى،أبشرها،أيضا أتصل بأم عزة،فرغت من اشاعة الخبر ونشره،وكأننى أود الزعيق ،وأخبار الجميع بالبشارة،تلتف دائرة من المحامين حول فؤاد،يقول أحدهم:
- هكذا تكون المرافعات.
يرد فؤاد:
- لم أقل شيئا.
- يعقب آخر:
- لقد رسخت يقينه بالبراءة.
يضيف ثالث:
- مثل هؤلاء القضاة يريحون،لأنهم-ببساطة-يقرأون الأوراق.
يجيب فؤاد:
- بالفعل هو قاضى مجتهد وفاهم.
يتداخل رابع:
- عقبال البراءة النهائية.
نغزنى الرجل بسكين ثلم،أسأل متلهفا:
- أهناك محكمة أخرى؟
يبتسم فؤاد:
- من المؤكد أن النيابة ستستئانف الحكم.
أتمتم،أتحوقل،أكرر:
- ربنا على الظالم.
يطمئننى فؤاد:
- على فكرة لن أغادر المحكمة حتى أقرأ الحكم مكتوبا.
أستأذن للذهاب إلى المقهى؛فالنافوخ يعوز دفقة أدخنة،يشترى صديق سندوتشات فول وطعمية،نجلس في إريحية وغبطة،أشفط الأدخنة،تنتشر في خلايا المخ،تنتعش الخلايا،أتذوق القهوة السادة،لسانى يزيد من سكرها،تتوالى المكالمات،العشرات منها تبارك وتهنئ،أنزاح الجبل العملاق من فوق صدرى،أردد:
- الذكاء مطلوب لحسم معارك المقاومة.
- لا بد أن يكون الراتق حاذقا؛فقماش الثوب نادر.
أسبح فى عالم من الخيال،نسرع إلى القاعة،فارغة تماما،نخرج من الباب الخلفى،ألمح فؤاد مشغولا مع ثلة من المحامين،هرج ومرج يؤكدان أن المسألة ضخمة،صعد الجميع إلى الدور الأعلى،دقائق ويهبطون ثانية،يصطحبون أحد المحامين غير المهندمين إلى أعلى،يخبرنى فؤاد أن أحد المحامين وجه عبارات لوم إلى القاضى قاسية،مما دفع الأخير لأن يأمر الحراس بالقبض عليه،وسعى الجميع لأحتواء الأزمة،وأجبروا القاضى على التصالح وقبول اعتذار المحامى،خرج طلبه ليخبرنا بالأحكام،لم يتزحزح الأستاذ فؤاد إلا بعد قراءة الحكم،وهبت طلبه مائة جنيه،نظر للأستاذ معاتبا فأعطاه مائة أخرى،ذهب الأستاذ إلى نيابة أمبابة ليحضر جلسة تحقيق مع متهم بالقتل،تبعه صديق مودعا إياى،عزمت عليه بتناول طعام الغداء،فتعلل بتأخره عن العمل،لم أمنح نفسى وقتا للصياعة على المقهى والتدخين،وفى الطريق أتصل بى دكتور نقد أدبى شهير للإطمئنان على الحال،فأخبرته بإن الولد حصل على براءة،الآن تذكرت أننى توقفت عن الكتابة طوال الشهور المنقضية،وكأن الكتابة من عمل الشيطان،فالناس لا يحتاجون إلى العظات والعبرات ويحتاجون أوراق البنكنوت،وصلت البيت مع آذان المغرب،أكلت بشهية مفتقدة منذ زمن بعيد،وشربت الشاى،أعقب:
- هذا ما يجنيه الأباء من عبث الابناء.
ترد زوجتى:
- ربنا فرج الكرب.
أستكمل الحديث:
- لا بد من الدفع للفقراء ؛فالدين كبير.
أعد لها مبلغ ألف جنيه،أطلب منها أن توزعه على المحتاجين؛فهى أكثر دراية بخريطة الحى الاجتماعية،أعطيها بقية الفلوس التى جمعتها من أفراد الأسرة،وأحتفظ فى جيبى بألف ثانى،أتهادى إلى مكتب المحامى،أمضى أكثر من ساعة فى الاستقبال منتظرا فلااغه من مقابلة الزبائن،يستقبلنى ببشاشة:
- مبروك يا حاج.
- البركة فيك يا باشا.
- أخبرنى طلبه أن حالة القاضى المزاجية عالية،وسيسمح لك بالمرافعة كيفما تشاء.
- اطمئن فؤادى،لأن مثل هذه القضايا تسبب لهم حرجا شديدا،وحينما يقرأ الواحد منهم الأوراق ويقتنع بالبراءة،ينشرح صدره.
- ثبت أن هذا القاضى يقرأ جميع القضايا المعروضة عليه.
- هذا بالضبط ما قاله طلبه،فملفات هذه الجلسة عنده فى البيت منذ أسبوعين.
- ولكن المرافعة لم تستغرق وقتا.
- حينما تطول المرافعة اعلم أن قناعات القاضى فى الأتجاه المعاكس.
شعرت بالزحام خارج الباب،فآثرت المغادرة معطيا إياه ستمائة جنيه،فسألنى:
- لماذا ستمائة جنيه؟
- لأنك أعطيت طلبه مائة جنيه.
لحظات صمت مريبة،شعرت بالحرج فأكملت:
- سأدفع لك كل ما تطلبه.
تربكنى مناوشات الفكر،أقعد فى البلكونة مفكرا:
- المرافعة قصيرة والكلمات قليلة.
- أتقاس الأشياء بأوزانها؟
- دفعت الكثير لمن لا يستحقون،فلماذا تبخل على صاحب البراءة؟
- أيمكنه أن يقبل الأعتذار؟
- دائما لا تجيد التقدير يا فالح،وتتوسم فى أهل الشر خيرا.
- كلمات قليلة!
- ولكنه أبرأت الجسد من السم الزعاف.
أعود ثانية إلى المكتب،أنقد مائة جنيه حلاوة،أهاجمه:
- يا باشا أخطأت التقدير وخاننى التوفيق،أرجو أن تأخذ هذا المبلغ،وأنا تحت أمرك.
عددت له خمسمائة جنيه،تأملنى برهة،ثم أقسم أنه لن يأخذ مليما الآن،فعاجلته بالقول:
- لا أتحمل تقريع نفسى يا باشا.
- أنتهى الأمر ولن أحنث فى قسمى.
أطلب محمد،أحثه على الحضور،وجوده بالعبور لا فيه،فالراسة أولى بالأهتمام،كما أنه لن يتقاضى مليما عن عمله مع أعمامه ؛فحالتهم الأقتصادية تعبانة.)
فرغ أبى من روايته،لا تتخيل مدى السعادة التى تغلغلت فى خلاياى،كُشطت الهموم من على كاهلى،أستطيع الآن المرور على اللجان الشرطية دون وجل،فسد بيعهم يا معلم،بضاعتهم مضروبة،سأذهب إلى الجامعة مرفوع الهامة،وبمعنويات سامقة سموق النخيل،بصراحة هذا الحكم قلقل إيمانى بصدق الأنباء التى تتناقلها قنوات المعارضة،عموما فى زمن الصراعات تروج الشائعات،كلا الطرفان يبرران تصرفاتهما،لا تسعنى الفرحة،تنفرج أساريرى،أطيحت لأصفادى،ولكن بدأت معاناة من نوع أخر،لم أشعر بوطأتها من قبل،لماذا يدفعنا الجيش للتلصص على الفصيل الأسلامى؟ لا أستطيع رفض التكليف،ولكن لماذا يستخدموننا لوأد الأرواح؟ هل أنا راضى عما فعلته؟ تجسست ونقلت الأخبار وفضحت التحركات والمحصلة المزيد من الجثامين،كم من روح بؤيئة ستعترض طريقك يوم القيامة؟ لم أمسك سلاحا،لم أطلق مقذوفا،لم أطارد أحدا،ولكنك مهدت الطريق لأرتكاب هذه التصرفات جميعها،ولكننى جلست على المقاهى ولم أنقل إلا الأخبار التى يعرفونها بالمكتب،أتعتقد أن هذا التبرير سينطلى على الأذهان؟ ألم أرفض النزول؟ والدى هو من أصر على تفيذ الأوامر،وقال لى حرفا:
- لا تدلهم على شيئ يضر بالناس.
- يريدون خريطة بالبؤر الساخنة.
- يمكنك نقل معلومات غير حقيقية.
- عيونهم كثيرة.
- بالحراك الدائم لن يقنصوا شيئا.
- يرسمون تكتيكات الأيام القادمة على معلوماتى.
- أنه جيشك بإى حال لتتخلص من الهم.
- الفرق بين الرفاهية الفكرية والواقع كالفرق بين السماء والأرض؛أليس كذلك؟
تمت بحمد الله
وسوم: العدد 724