حالة شرود
أبو محمد خليل
فقدنا وسيطة العقد، إنسانة مرحة وبشوشة تعرف كيف تهزم أقسى ظروف الحرمان واليأس والقنط. بعد رحيلها في الساعات الأولى من هذا اليوم، ساد المكان صمت رهيب، ممزوجا بلفحات الشمس وهي تتوسط كبد السماء. خيل إلي أن قوة ما جثمت علينا وكممت أفواهنا، إذ كان وقع الفراق ولوعته شديدا علينا. كيف لا وهي مؤنستنا في السراء والضراء في أوقات الشدة وفي ظروف صعبة وعصيبة، كنا نعيشها في تلك المنطقة النائية، وفي غياب أبسط شروط العيش الكريم.
رحلت نجية لتتركنا نهيم طيلة اليوم في متاهات لا قبل لنا بها. خلت أن عقارب الساعة ترتد إلى الوراء وتدور عكس اتجاهها. ومن حسن الحظ أن سفرها كان يوم عطلة، مما دفعنا نلتمس النوم عزاء لفراقها. لكن هيهات من الظفر ولو بسنة منه... مالت الشمس شاحبة إلى المغيب وكم تمنيت، وهي تجمع خيوطها، لو لملمت جراحنا وأخذتها بعيدا بعيدا. بدأ الليل يسدل خيوط غبشه، وسرعان ما اقفر المكان وزاد سكونه إلا من نباح بعيد. فجأة كسر صوت " نبية " شرودي وانتشلني من لخبطتي... تقدمت نحوها وهي مكسورة الوجدان مهيضة الجناحين. رق قلبي لها وتحسرت لحالها، كادت دموعي تخونني لو لم أتمالك نفسي.
لم استسغ ما طلبته مني في البداية. وددت لو لم تطلب مني ذلك، رجوت الله لو أعفتني، كيف أستجيب لطلبها ؟ ما عسى أن أفعل ؟ كيف أرد عليها ؟ توقف الزمن وتعطل العقل، ووجدتني في حيرة من أمري. حاولت أن أجد مخرجا يحافظ على ماء وجهي، و يراعي مشاعر أختٍ عزيزة علي. صعب علي الاختيار وشكل علي الأمر لأن كليهما أمران أحلاهما مر.
ماذا أقول لصديقي وصديقتي ؟ ...
كنت بين كفي عفريت، ويا ليتها لم تطلب مني ذلك. سرح خيالي وتاه بين الخسارة و الربح. تذكرت أول آية في سورة المطففين، يقول الله عز وجل " ويل للمطففين ( 1 ) الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ( 2 ) وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون" صدق الله العظيم. فسواء أأذعنت لطلبها أم رفضته فالأمر سيان. ففي الاستجابة انتهازي ووصولي، وفي الرفض لست بصديق الشدة والضيقة... تمر علينا، أحيانا، ساعات نجد فيها أنفسنا في مواقف جد حرجة تحتم علينا اتخاذ قرارات صعبة ومصيرية. جال تفكري ووددت للمرة الألف لو أعفتني من طلبها.
- ماذا قلت... مستطردة.
صوتها أعاد لي بعض التوازن، أشفقت عليها وعلى نفسي، تشجعت بكل ما أملك من قوة وشجاعة، ثم ذكرتها برغبة صديقي وبأحاسيسه تجاهها. قلت لها:
- لا يصح أن ألبي طلبك وهو بين ظهرانينا.
تفهمت المسكينة موقفي، فكلانا كان بين المطرقة والسندان لكن بشكل مختلف. فأشارت علي أن... وتنفست الصعداء وكانت إشارتها بردا وسلاما علي.
حين أعلمت الصديق برغبة صديقتنا انفرجت أساريره، فأفزع إلى المرآة وبدأ يشكل وجهه بالتطرية، كأنه عروس ستزف إلى عريسها سبحان الله انقلبت الامور. كم من مرة ألح علي الصديق أن أقوم بالوساطة بينه وبينها. وأشهد الله أني فعلت، لكن " نبية " نهرتني وزجرتني وطلبت مني أن لا أفتح سيرة هذا الموضوع أمامها مرة ثانية. لم أرها في حالة غضب شديد حتى تلك اللحظة، ظننتها لبؤة سعرت وهي ترى فلذات كبدها في خطر. بلعت غضبها وأدركت أنها على حق، إذ ما المانع أن يتصل بها الصديق مباشرة.
أخذنا الفراش متوجهين إلى بيت الأخت. تعمد أن يحط رحله بجوار سريرها... استحوذ على مجريات الحديث، تقمص شخصية شهرزاد واستفاض في ذكر أخبار الهند والسند ووادي عبقر. جفاني النوم لدرجة ندمت على هذه الخطوة التي أقدمت عليها. لكن ما العمل ؟ فالزَّغْبِية بْقاتْ فِيَّ ( شغلني أمرها ). حاولت أن استسلم للنوم، لكنه جفاني وعاداني... بت ثاني ليلة على التوالي بعد رحيل نجية دون أن يغمض لجفن.