وردة ترسم أباها، شهيد الزبداني
غادرت روز نحو غرفة أطفال ورشة الرسم، والتفتت منتهى إلى صورة القائد العام للثورة السورية الكبرى عام 1925م سلطان الأطرش ضد الاستعمار الفرنسي المعلّقة في صدر القاعة، وقالت:
- لن أفاجأ بصورة والدي لدى بيوت أهل الوطن، والله أقاربي، استبدلوا صور المجرمين بصورته بالسويداء.
ثمّ أكّدت على أن شعار: الدين لله والوطن للجميع لا يزال صالحًا، وتخوّفت من انحراف الثورة عن طابعها المدني. فردّ الشيخ عثمان، وهو مهندس عمارة ملتحٍ، وأحد أعضاء تنسيقية الزبداني:
- تقصّد بعض الشبيحة تشويه الثورة، إلاّ أنّ أهل الزبداني كشفوا خونة من بين أبنائهم، فتعرّض بعضهم للأذى، للأسف، على أيدي أهلهم المقرّبين منهم، لتيّقنهم أنّهم بقومون بتشويه الثورة وحرفها عن خطّها المدني، كما وجد النظام ضالته بالمتأسلمين الذين كان قد أرسلهم إلى العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003. ثمّ قال أنّ سلطة المخابرات أطلقت سراح من كان معتقلًا منهم، وأكّد أنّهم يتحرّكون بسلاحهم جهارًا، ويعتدون على الأهالي والمتظاهرين من دون أيّ خوف، وقال: لا يُعتقل أو يموت سوى شباب الثورة السلميين.
ثمّ شرعت خديجة وهي منسّقة الثقافة والفنون والإعلام بإخبارهم عن المظاهرات النسائيّة، ولكنها صمتت مع الآخرين عندما دخلت روز وارتمت لجانب أحمد، وبدأت تهمس له بأمر مهمّ، ثمّ سرعان ما تعالى صوتها من دون وعيّ منها:
- انظر الى رسمة وردة, إنها في الصف الثاني.
كان أحمد يحدّق في لوحة الرسم، ويستمع لروز من دون أن يخفي دهشته، وتابعت روز: - في وسط الورقة تابوت بداخله رجل، وعندما سألتُها: من هذا الرجل يا وردة؟ فأجابت أنّه أبوها، انظر يا أحمد رسمت فمه مفتوحًا, وسألتها لماذا يفتح أبوك فمه؟ أجابت:
- يضحك آنسة، أبي يضحك على طول.
رسمت وردة من حوله أمها وجدّها و جدّتها وأشخاصًا مندفعين نحو التابوت، ثمّ رسمت في زاوية الورقة العلم السوري بحجم التابوت الذي احتوى جثمان أبيها، وفي النصف الآخر من اللوحة صوّرت بنت صغيرة، رأسها يمثّل الجزء الأعظمي من الجسد حتّى اتسع لعينيها الكبيرتين جدًا، ورسمت تحتهما كتلتين مدورتين،... سكتت روز، ثمّ غصّت باكيّة. صمت الجميع مشدوهين، أمّا روز فاستمر نشيجها وبدت كأنّها لا تشعر بوجودهم، وقالت لأحمد: احمّرت عينيها وسال الدمع على وجنتيها،... إنها... ثم صرخت روز بحرقة:
- وردة تعرف كل شي يصير يا أحمد، تعرف ماذا يعني القتل, وردة بالصف الثاني الابتدائي… معقولة الأشياء التي تحصل؟
كانت روز ترتجف و تهتز كأنما مسّتها الشياطين، وتقرّب وجهها من رأس أحمد أكثر وأكثر حتى يشكّ الناظر إليها أنّها سترتمي في حضنه هلعًا، ثمّ علا صوتها باكيّة من دون وعيّ: - عندما سألت وردة عن الطفلة التي رسمتها في لوحتها أجابت:
"هذه أنا آنسة وهادول أمي وجدي، وهادا أبي يضحك،... "
وقالت أنّ هاتين الكتلتين المدورتين الكبيرتين التي رسمتهما تحت عينيها دمعتيها.. رسمت دموعها يا أحمد، قالت لي أنها تبكي كل يوم على أبيها، أصبح أبوها دمعتين كبيرتين بحجم رأسها،... ثمّ انفجرت فجاة بعويل وخرجت من الصالون بأقصى سرعة، ولم يلبث أحمد حتّى أجهش بالبكاء الصامت الحزين.
أحمد الرجل الخميسني تسيل دموعه على وجنتيه، يرسم في مخيلته دمعتي وردة الكبيرتين, طفلة الثماني سنوات. ناوله المضيفون مناديل ورقية وكأسا من الماء, وحاول الجميع تهدئته، حاول الكلام، فأبت الحروف أن تتشكل كلمات تامّة في فمه، كان يتأوّه غاصًّا في أعماق قلبه، ثمّ غطّى وجهه بكلتا يديه، وأنكس رأسه. كان كلما تذكر الدمعتين, يعاوده البكاء من جديد، ويقول في سرّه: "تبكي وردة ابنة الثماني سنوات باستمرار، ... " تبكي على أبيها الشهيد الذي مات برصاص قنّاص مأجور، كان يرصده من على سطح بناء البلديّة في الحارة الشرقية للزبداني، قتلوه وهو يحمل الخبز لأسرته بعدما عرفوا أنّه إعلامي وآدمن صفحة تنسيقية الزبداني على مواقع التواصل الاجتماعي.
ساد الصمت الرهيب في الصالون، اقتربت منتهى من أحمد، ورفعت يديه عن وجهه، وقالت له:
- ما رأيّك أن نتحول لنائحات على شهدائنا، ما بك يا أحمد، ما في عتب على أحد إذا أنت كنت بهذا الضعف. أيدها الشيخ عثمان، الذي قال له ممازحًا:
- لو أنك علماني وما بتعترف بالدين، صلّ على النبي واتكل على الله يا رجل، وروح اغسل وجهك.
أما أحمد فقد انغلقت حوّاسه على رسمة وردة ودمعتيها وأبيها الشهيد، كان يغوص في أعماق بحار حزنه التي تتلاطم أمواجها في رأسه.
قطعت خديجة المشهد عندما دخلت وأخبرتهم أن روز أرتجت قفل باب الغرفة من الداخل على الأطفال، ولا تردّ على أحد. توجّهوا الى الغرفة، وحاولوا فتحها فعجزوا، صرخ أحدهم:
- يا روز أين انت يا روز؟, هيا افتحي الباب... - يا روز، يا سارة، أينك يا عبد الرحمن؟ افتحوا الباب ما الذي حصل لكم؟
- وردة أنت بخير يا عيوني،...
ولكن لا مجيب سوى نحيب روز والأطفال, ثم صرخت خديجة بصوت قوي:
- افتحا الباب قبل أن نكسره… وطرقته طرقات قوية بكلتا يديها كادت أن تخلع إحدى ضلفتيه.
فُتح الباب أخيرًا، فتحه الطفل عبد الرحمن الذي كان يشاركهم الرسم، دخلوا ووجدوا روز تحتضن وردة بكلّ ما في الكون من حنان، تشاركها البكاء المستمر على أبيها الشهيد، وأجساد أربعة أطفال ملتصقة بها من شدة الخوف. فتح عبد الرحمن الباب ونكص ليلتصق من جديد بروز، فانبنى تشكيل متكامل من خمسة أجساد يوحي بحالة رعب، روز تحتضن وردة، ويلتصق بهما الآخرون، يذرفون دموعًا لعلها تكبر وتصبح بحجم دمعتي وردة، التي كانت على موعد مع أبيها عندما أردوه جثة هامدة قدّام عينيها، وردة التي كانت تنتظره ليرفعها عاليًّا كما عوّدها دائمًا، لعلّه يصحو ويضعها على كتفيه, لتعود صارخة من جديد في عيد ميلادها:
- أنا أطول واحدة فيكم...
ما الذي جرى لخمسة أجساد تتكوّم حول بعضها لتعيد تشكيل الخلق من جديد، كيف تنبجس دموع مآقيهم الشاخصة نحو رسمة وردة التي انتظرت أباها أمام باب البيت، فأطلقوا عليه رصاصات ليسقط مضرجًا بدمائه. يومئذٍ، لم تع وردة أنّ أباها قد رحل، ركضت باتجاهه عندما سقط على الأرض، انحنت نحوه ونظرت في عينيه، كان يضحك لها. وصل بعد انتظارها له، وصل ولكنّه مرميًّا على الأرض، مدّت يدها لتوقفه، وحاولت أن تتلمس جسده، أن تحمله، انتظرت، ورنت نحو وجهه وحاولت أن تفهم ما الذي كان يقوله لها، ولكنها لم تعِ إلاّ ضحكته، ويديه اللتين تحتضنان أرغفة الخبز المختلطة بدمائه، كان همّها أن يقف ويرفعها من جديد إلى الأعلى، ولكنه خذلها أخيرًا وأطبق عينيه.
وصل أشخاص ليسوا أباها، اندفعوا حوله ورفعوه عن الأرض فوق رؤوسهم، أمّا هيّ فترسّخت في ذاكرتها ضحكته، حتى بعد أن حملوها، وأدخلوها إلى البيت.
لم تتمكن وردة من وعي حقيقة ما حصل لأبيها، صارت تنتظره أمام باب بيتهم كل يوم، على أمل أن يعلّمها أشياء وأشياء، لولاه لما كانت قد عرفت كيف ترسم العلم، ولما تعلّمت أناشيد كانت تنشدها معه فرحةً.
وردة التي رسمت العلم الذي علّمها أبوها كيف ترسمه، ورسمت دموعها التي كبرت كلّ يومٍ شوقا له، كانت ترنو إليه وسط بركة دمّ وأرغفة مدماة ترامت حول جثته، لم تعرف أنّه كان يحتضر، حاولت رفعه لتدخله الى البيت مع أرغفة الخبز المتناثرة حوله وعجزت، وردة التي اعتادت أن تلجأ لأطفال آخرين وأن ترسم معهم ليبتعدوا أكثر عنالموت.
اقتربت منهم الآنسة خديجة، وحاولت مواساتهم بقلب يقطر حزنًا، صمتت أمام المشهد، ثمّ بكت. فتوجّه الشيخ عثمان الى الله و صرخ من قلب ينفطر أسىً وحزنًا:
- يا الله، أيّها المتربّع على عرشك منذ الأزل وحتى الأبد، أيّها المتعالي بقدرتك، أنت يا رب العالمين، الذي نصرت عبدك محمد في بدر على الكفار الظالمين، انظر الى عبيدك المظلومين، امنحهم طاقة الصبر والتحمّل حتى يتمكنوا من إعلاء كلمتك على الأرض، أمدهم بعونك ليرفعوا لواء الحقّ والحرية، أعنهم على أعدائك يا أرحم الراحمين، أعطهم فرصة الحياة بكرامة لينشروا عدلك على الأرض، أيها الرب الكريم نحن الطامعين بتطعيم أرواحنا من روح عظمتك، اسمعنا يا ربنا، نحن الضعفاء أمام جبروتك، نحن بحاجتك لنستمد منك طاقة الحرية بمواجهة أنظمة الظلم والفساد، أيّها الربّ الذي لم نتوان لحظة عن السعي وراء دربك، انظر الى أحوالنا، انظر الى هذه الكتلة البشرية التي أمام ناظريك وتحت رحمتك، أيها الرب الذي ليس كمثله شىء, ألا تستحق وردة رعايتك، وردة الطفلة التي ترسم لنا درب إرادتك في مواجهة أعدائك يارب العالمين...
واستمر الشيخ بالدعاء والتوسّل الى الله، حتّى تمكّن من إضفاء روح الله على المشهد. ثمّ علا صوت منتهى مؤنّبًا روز:
- يا روز ليس بالدموع نقاوم الاستبداد والفساد، الثورة تحتاج إلى إرادات قوية، ماالذي تفعلينه؟
ثمّ تقدمت وأوقفت سارة وعبد الرحمن ونهى, وأخرجتهم، واحتضنت روز وردة وتوجهت معها نحو الصالون.
لم ينتبه أحدٌ إلى أحمد الذي وجدوه غائبًا عن الوعي في الصالون، أحضروا ماء وسكبوه على رأسه، فتحرّكت عيناه بصعوبة. حملوه إلى المشفى الميدانيّ، وأُخضع لفحوصات أوليّة، وبقيت منتهى معه حتّى اطمأنت أنّه لا يزال حيًّا، أوصت به، ثم غادرت المشفى عائدة إلى دمشق. أمّا روز فبقيت تذرف الدموع من جديد عندما عرفت أنّ أحمد تعرّض لأزمة قلبيّة، ويحتاج إلى مراقبة طبيّة.
وسوم: العدد 735