من الظلمات إلى النور
عدّلت (جيّد)
سبحان مقلب القلوب والأبصار.. سبحان من يحي الأرض بعد موتها.. سبحان مغير الأحوال من حال إلى حال.. هل تتغير الأحوال؟ نعم.. هل من الممكن ومن غير المستحيل أن يتحول الإنسان من وحش كاسر إلى مجاهد مناضل عامر؟.. نعم! عامر معلم المدرسة تخرج من دار المعلمين وعمل موظفاً في الدولة لمدة خمس سنوات ابن السابعة والعشرين من العمر، ابن العائلة الموالية للنظام التي تتألف من والدين وسبعة أولاد هو أحدهم، بدا في بداية الثورة من ألد أعدائها وأشرسهم بل كان مستعداً لحمل السلاح والمشاركة في الجريمة بجانب الجلاد رغم تديّنه ومحافظته على صيام يومين من أيام الأسبوع وصلاته في المسجد، وذلك على مرأى ومسمع أهالي الحي الذي يعيش فيه.. إلا أن الجو الأسري الذي طغى عليه والده كان مؤثراً وحائلاً دون وصوله واقتناعه بالحقيقة.. حيث يقول ابن عمه محمد: "تشاجرت معه كثيراً ولمته معاتباً: يا عامر أنت شاب واع مثقف ألا ترى الحقيقة؟" ولكن كان يصم أذنيه عن سماع كل ما يقال له، بل عندما ظهرت بثينة شعبان على شاشة الفضائية السورية تبشر الموظفين بزيادة المرتبات الشهرية بنسبة 25% (الذين وللأسف أغلبهم استعبدوا نفسه موالياً لهذا النظام خوفاً على مرتبه من الانقطاع) عندها بارك له أحد رفاقه بزيادة المرتب فقال: "عليهم أن يشتروا رصاصاً ويطلقوه على أهل درعا خير من زيادة الرواتب الشهرية" وأمضى شهوراً على هذه الرقدة المخزية ولكن ما الذي حدث؟ لقد حدث ما لم يكن متوقعاً ليغيّر موقفه وينقلب رأساً على عقب، علماً أنه كان مضطراً لرؤية الموقف محرجاً.
فقد ذهب في جمعة أطفال الحرية بتاريخ 28/5/2011م إلى معرة النعمان بريف ادلب بعمل ورأى الحقيقة التي تجري على أرض الواقع مرغماً لا بطلاً، حيث رأى المتظاهرين الذين يملؤون الشوارع، وهناك بعض الأطفال على أبواب وشرفات منازلهم ينظرون إلى المظاهرة بابتسامات بريئة مرسومة على وجوههم ومنهم من كان يردد ما يردده المتظاهرون، فوقف حائراً والأفكار تتداخل في قرارة نفسه حتى جاءت اللحظة المفصلية التي كانت مفترق الطرق له لانتشاله من المستنقع الغارق فيه وبينما هو يتأمل وإذا برصاصة غادرة تردي الطفل الصغير "نادر" قتيلاً.. فاضطرب وتأثر.. إلا أن الموقف لم ينته بعد؛ فقد هرب المتظاهرون وبقي الطفل صريعاً مضرجاً بدمائه وجاء جنود النظام السوري ووطؤوه بأقدامهم وهو لا يتجاوز الحادية عشرة من عمره، هنا حصلت المفاجأة حيث تغير الموقف الذي لم يستطع أحد تغييره بالألسن والشواهد والقصص، ولكن يقال في المثل الشعبي: (ضربة الفأس التي رقمها مئة ليست وحدها التي أسقطت جذع الشجرة على الأرض بل هناك تسع وتسعون ضربة أخرى شاركت في إسقاط الجذع).
عاد إلى المنزل ولم ينه عمله هناك، حبس نفسه عن الناس عدة أيام مختلياً بذاته منصتاً لما يجري متبصراً لما يحدث وخرج إلى الناس عامراً بالحق والندم وانخرط بالثورة حتى أنه كان يقول: "عندما كنت موالياً كنت أقول أو أفعل كذا وكذا" فكان يشعر نفسه بالندم ويقر بالذنب وبدأت المعاناة العكسية مع أهله بعد أن انتهت المعاناة التي كان يعيشها مع الناس فالبعض منهم صدقه والبعض الآخر كان يتذمر من وجوده بمقر الإعلام أو ساحة البلدية حيث تقام مظاهرات القرية (دير الشرقي) المناهضة للنظام.. معاناة أهله وخاصة والده كانت الأصعب والأشق عليه ولكن لم يبال لا بوالده ولا بكلامه الجارح وتهديده ووعيده، بل هجر المنزل ولم يعد يتواجد فيه بأغلب الأحيان وبدأ الجهاد المسلح فكان من الأوائل، واستدان بندقية على عاتقه ليحارب بها ثم انتسب لكتيبة من كتائب المجاهدين وكانت أول مشاركة له بمعركة مطار أبو ضهور العسكري بتاريخ 1/8/2012م، غاب أربعة أيام وعاد وكان مما جرى معه هناك أن طائرة حربية أغارت على مكان تواجدهم وكان "عامر" يحتمي بعمود إسمنت فغير مكانه من يسار العمود إلى يمينه فسقط الصاروخ مكان وجوده وأحدث هوة في العمود بالجهة اليسرى حيث كان يحتمي فكان مثل هذا الموقف ما يزيد من إصراره وقناعته بالقضية الحقة العادلة.
تغير وضعه الاجتماعي وأصبح مرغوباً أكثر لدى الناس لأن فعله وافق قوله، وعاد مع مجموعته إلى القرية دخل منزل أهله وكان يملك منزلاً إلا أنه لم يكن متزوجاً، سلمت عليه أمه فقط وحمدت الله على سلامته.. رمقه أبوه بنظرة حادة فلم يأبه لذلك، وفي اليوم التاسع من الشهر نفسه آب (أغسطس) جاء خبر النفير ليعود مع رفقائه للمعركة فعلم أبوه بذلك فقال له: "إن شالله بتجيني محمّل"، حتى إنه لما سمعنا بذلك حاولنا زيارة والده لسماع رأيه ووجهة نظره فقابلنا على مضض وقال لنا: "أنا مقتنع بما يفعله الجيش العربي السوري وأشد على يده في مكافحة الإرهابيين المخربين للبلد وأنا افتدي الرئيس القائد بروحي وبمالي وأولادي".
مرارة ما بعدها مرارة ولكن من رأى الهدف الثمين نصب عينيه لم يأبه بما يلقاه من أشواك وعثرات وحفر في المسير لهدفه... لبى النداء وشارك وعاد وبعد عودته لقريته بيومين بدأت معركة الرتل الأول بمعرة النعمان في منطقته ولم يتوان عن المشاركة فيها، ويقول لنا صديقه "محسن" المرافق له: "كان يدعو دائماً بالشهادة ويقول لي: محسن هل ينصرنا الله عز وجل ونحن بهذا الانحراف؟" ويأتي يوم الحادي عشر من تشرين الأول 2012م وتولد معه ولادة الشهيد بأرض المعركة مقبلاً في سبيل الله الساعة الثانية عشرة ظهراً ... أحضره رفاقه إلى بيته وليس لبيت أهله وكان تساؤل الناس لماذا؟ وهو أعزب؟ فكان الجواب من "موفق" أحد رفاقه وأقاربه: "لقد أوصاني الشهيد: (إن أكرمني الله عز وجل بالشهادة فلا تخرجوني إلا من منزلي)" وكان ذلك ودفناه مع خمسة شهداء معه ذلك اليوم، وكان مما سمعته ولفت انتباهي من "عبد الرحمن" أحد الناس المتواجدين من أهل الحي على المقبرة أنه قال: "سبحان الله كيف كان وكيف صار الله يتقبله ويكتب لنا حسن الخاتمة".
وسوم: العدد 744