من الصفحات الأخيرة في كتاب (في قصور آيات الله)
مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
تثاءبت الليالي بتتابع، ويوم الخميس 17/1/2002، بزغ الفجر الدافئ من رحم ليلة تساقطت فيها الثلوج بغزارة على معظم الأراضي الإيرانية، التي تشهد عادة مثل هذه الظاهرة.
مثل كل مرة وعلى غير انتظار ودونما سبب، نودي على الأسرى للخروج على عجل إلى الساحة الخارجية ولأمر في غاية الأهمية، لم يكن بوسع أحدٍ منّا التفكير بجدية الأمر من عدمه، فنحن لا نمتلك الحق في الاعتراض على أي إجراء يأمر به الإيرانيون، بل حتى مجرد التأخر في وضعه موضع التنفيذ، انطلق كل منا في جمع (ممتلكاته) من حطام دنيا الأسر، ووسط صراخ الجنود كنا نخرج لنتكدس في ساحة مغمورة بالثلوج التي تساقطت بغزارة خلال الأيام الأخيرة، وبعد أنْ اكتمل عددنا، بدأ الجنود حساب الموجود، ويبدو أنّ الأرقام لا تمرّ على ألسنة الجنود بمرونة، أو أنّهم من أنصاف الأميين أو محدودي المستوى التعليمي ولهذا لم يكن ميسورا للجنود إنجاز الحساب بالسرعة المطلوبة، وربمّا كانوا يريدون قضاء الوقت لحين مجيء آمر المعسكر، وبين آونة وأخرى كان يمر علينا ضباط وبرتب مختلفة لم يسبق لنا التعرف على أحدٍ منهم، هذا أنعش في نفوسنا بارقة أمل بأنّ شيئا كبيرا على وشك الحصول، وبعد انتظار طويل جدا أو لعلنا شعرنا به هكذا جاء أحد مساعدي آمر المعسكر، ومثل كل إيراني، سواء كان صغيرا أو كبيرا يريد أنْ ينسب كل شيء لنفسه، ألقى فينا كلمة حذرنا فيها من إضاعة الفرصة الأخيرة، وطلب التهيؤ لاستقبال الزائر الخاص.
كانت مشاعرنا مثل أمواج الحجيج بين الصفا والمروة، تسرع وتبطئ، تهرول وتمشي، تصعد وتنزل، ولكنْ ليس في حيّز مكاني محدد، ولكنْ بين الرجاء واليأس، بين الموت والحياة، والترقب حالة إنسانية لا سبيل للسيطرة عليه أو التحكم في تفاصيله، أو تغيير قواعده أو نتائجه، ولكنّ العقل الإنساني يريد التحليق عاليا والتحرر من زنزانة الجمجمة، ما هي حقيقة الأشياء في هذا اليوم البارد؟ وهل سنخضع لمسرحية تبدو فصولها كوميدية في ظاهرها، ولكنّها تعالج أكبر تراجيديا ممتدة بين القرنين العشرين والواحد والعشرين، أم أن المؤلف والمخرج سئموا فرض عرضهم المسرحي على الجمهور الذي هو المشاهد والضحية والممثل في آن واحد؟
بعد زمن رأيناه طويلاً، أطلّ علينا ضابط كبير تحفّ به مجموعة كبيرة من الضباط من مختلف الرتب، واستعرضنا بكبرياء وخيلاء مستمد من عصر عرش الطاووس، لم نكن لنكترث كيف سيتصرف، كنّا نترقب لحظة الخلاص ولتبن له حكومته ألف تمثال أو مزار، أما نحن فلن نجد في أنفسنا دافعا لكراهية أو محبة تجاه أي من هؤلاء في مثل تلك اللحظات بالذات.
بعد أنْ استعرض نفسه أمامنا، بدأ المرحلة الثانية من خطته وهي استعراض الأسرى أنفسهم وذلك باختراق الفواصل فيما بينهم، وقتها كانت سحنته قد تبدلت وزال الوجوم والحزم عن وجهه وتفتحت أساريره، وهذا ما عزز كفة التفاؤل في النفوس القلقة من المجهول، وبعد أنْ أنجز هذه الصفحة وعاد إلى مكانه في مقدمة صفوف الأسرى، أمسك بقائمة وقال بلهجة حازمة (من أقرأ اسمه يخرج من الصف ويتوجه إلى مكان حدده في الساحة)، وأوضح أنّ هناك عملية (إطلاق سراح) للأسرى، ولم يقل تبادل، وعلى كل حال سواء كان الأمر بالتبادل أو بالإطلاق ليس هذا المهم، فالمهم عندنا هو العودة إلى الوطن والأهل، على الرغم من أنّنا نعرف وبالتجارب السابقة بأنّ إيران لم تستخدم مصطلح التبادل في أي وقت من أوقات التبادل بين البلدين، وبدأت الأسماء تترى.
وهنا بدأت التساؤلات المريرة من الأسرى جميعاً، هل المشمولون بالتبادل هم الذين قرأت أسماؤهم، أم أنّهم المستثنون؟ إنّه لحقٌ مشروع أنْ يتمنى كل واحد من الأسرى أنْ يكون في بداية ركب العائدين، وربّما هذه هي الأنانية الوحيدة المقبولة في التعامل الجماعي، فلا أحدَ يريد لنفسه أنْ يبقى قريباً إلى عدوّه حدّ التماس المباشر ولو لدقيقة إضافية واحدة، وبعد أن انتهى من قراءة الأسماء وكان اسمي من بينهم، أمر من لم يُقرأ اسمه بالعودة إلى القاعة التي كنّا فيها، وفورا تحولنا إلى عالمين من غير المسموح لنا التحدث مع بعضنا البعض، انتعشت آمالنا كثيرا بأنّنا المشمولون بالتبادل حقّاً، إلا إذا حصلت مفاجأة وما أكثرها في إيران، وبعد أنْ انتهى من قاعتنا انتقل إلى قاعة أخرى وقام بالشيء نفسه، وبعد أنْ أنهى عمله في كل قاعات المعسكر، كان الليل قد ألقى بحجبه فوق السماء، وكانت درجات الحرارة تتراجع بسرعة، بعد أنْ اطمأنت لرحيل الشمس، تم جمعنا في قاعات جديدة وتمّ جلب مجاميع من أسرى معسكرات أخرى، الآن أصبح التبادل يقيناً، لم نتمكن ليلتها من النوم، كنّا نحلم ونحن في كامل وعينا بلقاء الأهل والأحبة ومعانقة الوطن، والخلاص من الذل والجوع والمرض، وليلتها أيضاً سهر المستثنون أيضا حتى الصباح حزنا وحرقة لزمن مفتوح من الأسر.
كان ذلك يوم الجمعة الثامن عشر من كانون الثاني/ يناير 2002، وبدأت عمليات تدوين الأسماء على قوائم رسمية، يستدعى كل أسير وحسب الحروف الهجائية لتثبيت اسمه الكامل، ويتم تبليغه بالتعليمات الصارمة التي عليه التقيد بها، وإلا سيفقد فرصته حتى لو أعيد من الحدود، نعم هكذا كانوا يحذروننا، ولم نكن في أي يوم من أيام الأسر التي بلغت سبعة آلاف ومائتين وخمسة وأربعين يوما، أكثر التزاماً منّا ذلك اليوم أبداً، أبلغونا بأنْ نترك كل ما كان عندنا وارتداء الملابس الجديدة فقط، وحينما اشتكى الكثيرون من أنّها لا تتناسب مع الجو البارد ولا تقي الأسرى لسعة البرد القارس، تذمر معظمنا من مثل هذه الملاحظة، فالعودة لا تترك مجالاً لشعور ببرد، ومع ذلك كان جواب المسؤولين الإيرانيين بأنّ الحافلات التي ستؤمن النقل مكيّفة ولا تدعو الحاجة لألبسة سميكة، حاول البعض الاستفادة من بعض الألبسة الصوفية، ولكنْ تمت مصادرتها منهم بعد محاضرات طويلة بأنّ المخالفة التالية ستعني الحرمان من فرصة التبادل ولا مجال للمجازفة، ولهذا تناصحنا جميعاً بضرورة تفويت الفرصة على الإيرانيين للتلاعب بأعصاب الأسرى المتعبين.
وسوم: العدد 756