لماذا كل هذا الإلحاح وكل هذا الحرص لإحلال العامية محل الفصحى ؟؟

لقد صار الحديث عن إحلال العامية محل الفصحى من طرف البعض ممجوجا من كثرة ترديدهم له . ولا شك أن هؤلاء ربما ينتظرون أو يتوقعون من تكراره تثبيته لينتقل ما يحلمون به من وهم إحلال العامية محل الفصحى إلى واقع . والمؤكد بالنسبة لهؤلاء أن دعوتهم هذه ليست لوجه الله تعالى تماما كما أن الذئاب لا تعوي لوجهه سبحانه كما يقال  . وإن هؤلاء ليواجهون تحدي الرسالة الخاتمة التي اختار لها الله عز وجل اللسان العربي المبين ليكون وسيلة إيصالها إلى العالمين على اختلاف ألسنتهم ، وهو ما يحول دون ما يشتهون ، وما يشتهونه هو تهميشها من واقع الأمة ليستقيم الأمر لما يريدونه من بدائل تحل محلها أو تسد مسدها . ولا مندوحة للعالمين على اختلاف ألسنتهم عن تلقي هذه الرسالة باللسان الذي اختاره الله عز وجل  لتبيلغها لهم . وباختياره سبحانه وتعالى هذه اللغة وسيلة تواصل مع خلقه أجمعين منذ بعثة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم إلى نهاية العالم وقيام الساعة ، فقد صارت جزءا من هذه الرسالة لا تنفك، ولا تنفصل عنها ، و صارت تقرن بها، وتضاف إليها فيقال : " لغة القرآن " ، وصار تعلمها من  صميم تعلم مضامين الرسالة الخاتمة  إذ لا يمكن أن تحصل المعرفة بهذه المضامين إلا بواسطة اللغة الحاملة لها  حملا في منتهى الدقة .وقد يتناول غير الناطقين بلغة القرآن مضامينه بألسنتهم  المختلفة ،ولكنه لا  مندوحة  لهم عن تلاوة آياته بلغته التي نزل بها  متشفعين بها بين يدي حديثهم بألسنتهم المختلفة  لتبليغ ما يريدون تبليغه  من مضامين هذه الرسالة إلى من يتحدثون إليهم .ولقد اقتبست بعض الأمم  التي دخلت الإسلام من لغة القرآن الكريم حروفها للغاتها حرصا على بقاء ودوام الصلة بلغته . وما عدلت من تلك الأمم عن  اقتباس الحرف العربي للغاتها إلى حروف لغات أخرى إلا تلك التي  كان  أراد أصحابها القطيعة مع القرآن الكريم .

ويعتقد الراغبون في صرف الأمة عن كتاب ربها أن أقصر وأيسر سبيل لتحقيق ذلك هو الإجهاز على اللغة العربية لتهميشها ، وصرف أهلها عنها ، وعن تعلمها لأن الجهل بها يفضي حتما إلى استغلاق القرآن عليهم ، وباستغلاقه عليهم تتعمق الهوة  وبينه  وبينهم ، ويزول من حياتهم ليفسح المجال واسعا  أمام ما يراد لهم من بدائل عنه . وعلى قدر حقد  هؤلاء على القرآن وعداوتهم له  الظاهرة  والباطنة  تعلو أصواتهم للمطالبة   بحلول العامية أو غيرها  محل الفصحى، وسدها مسدها   في التعليم وغيره . ومن الغريب أن يطالب هؤلاء بالعامية بديلا عن الفصحى، وكل العاميات من محيط الوطن العربي إلى خليجه إنما هن بناتها اللآلي أرضعتهن ، ولا يمكن تصور وجود هذه العاميات من فراغ ، بل هي  نتائج ممارسة الفصحى بمستوى من مستويات  الأداء الذي لا يرقى إلى مستوى أداء الفصحى . والعاميات كبنات الفصحى مدينات لها بالوجود . وعجبا للذين يطالبون بإحلال العامية محل الفصحى، وكأنه  قد كان لها وجود سابق على الفصحى .

ومن الذرائع الواهية التي يتذرع بها المطالبون بإحلال العامية محل الفصحى القول  بأن الناس يتحدثون في حياتهم اليومية ، وفي التواصل فيما بينهم بالعامية . ومن نماذج هذا النوع من الذرائع  ما جاء في كلام  المدعو جواد مبروكي وهو محسوب على الخبرة في التحليل النفسي  للمجتمع المغربي والعربي   كما وقع بذلك مقاله المنشور على موقع هسبريس تحت عنوان : " هل المؤمن الناطق بالعربية أفضل من المؤمن الناطق بالدارجة ؟ " وهي صيغة استفهام إنكاري تفيد ما تفيد مما يجول بخاطره حيث قال : "  مما يميز  شخصية المغربي قدرته على تغيير الأقنعة  وكأنه على خشبة مسرح  يؤدي أدوارا مختلفة  الواحد تلو الآخر  ناسيا من هو ؟ ... وهذا يدل على عدم استقرار هويته ، وإنكار حقيقته ، وهو ما يتسبب له في نزاع داخلي قائم بينه وبين ذاته ...فإنكاره لغته الدارجة ، لغته الأم ، هو ما يجعل من المغربي  شخصا مزيفا جاهلا من هو ؟ ساعيا إلى أن يكون ما ليس هو ." وضرب مثلا لتبسيط ما أراد التعبير عنه بأشخاص  يجمعهم حفل ما ، فيمزحون  ويتبادلون الأخبار بالعامية ، وحين يخوضون فيما هو  سياسي أو اقتصادي أو ديني  يتحول المثقفون منهم إلى" ما ليس هم " على حد تعبيره  ، وتتحول ألسنتهم إلى الفصحى أو اللغة الأجنبية الغالبة وهي الفرنسية ،أما غير المثقفين منهم ، فيجهلون من هم داخل المجموعة ، ويلتزمون الصمت إلى حضور الأكل ، ويعود الجميع إلى العامية  التي يفضلون الأكل بها . ويضيف الخبير في التحليل النفسي للمغاربة خصوصا والعرب عموما أن  المثقفين من هؤلاء لو أنهم خاضوا نقاشهم بالعامية  لأتيحت لهم فرصة تعلم أشياء كثيرة  من  فئة غير المثقفين الصامتة أثناء حديثهم بالفصحى أو الفرنسية . ويضيف  أيضا : " لو كانت العامية تدرس في  المدارس لما صمت أحد ، ولما ترك أحد فرصة المشاركة في تقدم الجميع "  وهذه العبارة الأخيرة هي مربط الفرس في مقاله ، وهي تعبير عما يريده ، وهو إحلال العامية محل الفصحى في التعليم ،مع زعمه أن ذلك يفضي إلى التقدم ، ويترتب عن قوله   أن اعتماد الفصحى في التعليم هو سبب التخلف ، وهو قول لا يقول به إلا أحد اثنين جاهل يعذر بجهله أو  متعلم مكابر لا عذر له .

وقول  هذا الشخص  أن المغاربة يتقنعون بالأقنعة كأنهم على خشبة مسرح  يؤدون أدوارا مختلفة ، وأنهم لا يعرفون من هم ، وأن  ذلك يدل على عدم  استقرار هويتهم وإنكار حقيقتهم ، وأنهم يعانون  من نزاع داخلي بينهم وبين ذواتهم ، وأنهم يأكلون بالعامية ، ويتحاورون في السياسة والاقتصاد والدين بالفصحى، عبارة عن وصف لهم بعيد عن الواقع ، وعار عن الصحة ، ودال على جهل بهم ، ولا يقبل ذلك  من محسوب على الخبرة  في التحليل النفسي للمجتمع ذلك أن المغاربة على وعي تام بهويتهم اللغوية ،لأنهم يستعملون الفصحى والعامية  على حد سواء في حياتهم ،ولا عيب في ذلك ،  وهذا  يحسب لهم لا عليهم ، وهو من الغنى اللغوي، وليس من القصور. والفصحى كالعامية وجودا في حياة المغاربة  حيث يتلون كتاب الله عز وجل بالفصحى  ، ويعبدونه بها في صلواتهم  بما فيهم من لا يقرأ ولا يكتب ، ويتابعون خطب الجمع بها ، ويتابعون الأخبار بها ، ويقرءون ويكتبون بها ،  ويتعلمون بها ، وإلى جانب ذلك يستعملون العامية في حياتهم اليومية ،ويتواصلون بها ، وهي بنت الفصحى، وليست غريبة عنها ، ولولاها لما كانت أصلا . ولا يمكن القول بغياب الفصحى في حياة المغاربة ، ولا يوجد من يمنعهم من استعمالها   عوض العامية  أثناء تواصلهم في حياتهم اليومية إذا ما  أرادوا ذلك ، وهو ما لا يعجزهم ،  وهي أنسب لهم وأسهل، ذلك أن العامية لها أداء يختلف من جهة إلى أخرى ، وقد يقع بعض الإشكال  في حصول التفاهم بها أحيانا بسبب اختلاف أدائها، الشيء الذي لا يحصل إطلاقا  أثناء التواصل بالفصحى . ولو اعتمد العرب من محيطهم إلى خليجهم  على عامياتهم ،لما  سهل التواصل فيما بينهم كما يسهل باستعمالهم الفصحى التي توحد التفاهم بينهم بيسر وسهولة . وكيف يتواصل المشارقة   بعامياتهم الشامي منهم ،والعراقي ،والخليجي، والمصري  فيما بينهم ، وبينهم وبين المغاربة التونسي منهم ،والجزائري، والمغربي، والموريتاني ؟ وكيف يتواصل هؤلاء أيضا فيما بينهم ، والقوم يذهبون  شذر مذر في عامياتهم ؟ إنه لا مندوحة لهم  جميعا عن الفصحى وسيلة للتواصل والتفاهم  فيما بينهم .

والقول بإحلال العامة محل الفصحى عبارة عن دعوة لتجهيل المغاربة والعرب عموما ،لأن الأمر يقتضي أن يشرع من جديد  في وضع قواعد  ضابطة لهذه العامية  مما يتطلب مقدار ، ووقت الجهود التي صرفت لتقعيد قواعد الفصحى . ولو قعدت قواعد  ضابطة للعامية، لما خرجت عن  القواعد الضابطة للفصحى، وهي أمها التي أنجبتها وأرضعتها .

 ولا يضير المغاربة والعرب  عموما أن يتعلموا بالفصحى ، وأن يقرءوا ويكتبوا ويبدعوا بها  ، وفي نفس الوقت هم  يتواصلون بالعامية ، وقد كان هذا شأنهم عبر قرون  ، وليس هذا بالأمر الطارىء عليهم .

ولا بد في الأخير من الإشارة إلى أن الوحي رفع من شأن الفصحى ، وبلغ بأساليبها ما لم تبلغه لغة بشرية  ،وما ينبغي لها، وما تستطيع ، وما كان إعجازه إلا بها ، وهي دلائله ، وأسرار بلاغته على حد تعبير الإمام عبد القاهر الجرجاني رحمه الله  في تسمية مصنفيه . وعلى الحالمين بإحلال العامية محل الفصحى أن يعودوا إلى صوابهم ، ورشدهم ،  وأن يتخلوا عن  وهمهم الذي يعرضهم لسخرية الساخرين.

وعلى الذي  سمى نفسه الخبير بالتحليل النفسي للمجتمع المغربي  والعربي، و الذي عيّر المغاربة بما لا يليق بهم أن يقدم لهم الاعتذار عن إساءته إليهم ، وقد أساء في الحقيقة إلى نفسه من حيث لا يشعر . 

وسوم: العدد 764