التجربة الإيرانية (الواقع والمآلات)... الولاية والإمامة 7

د.عبد الستار الراوي

مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

الحلقة السابعة

الولاية والإمامة

الإمامة في الفكر الإثني عشري، تنصيب من الله.. فهي رتبة إلهية([1])، وهي الأصل الرابع من الأصول العقائدية الخمسة([2]). وقد عدّها السيد الخميني على رأس القضايا التي تناولها في أطروحاته النظرية، وجعل منها قضيته الأولى، فأعاد بسطها في كتابه المعروف بـ(ولاية الفقيه) أو الحكومة الإسلامية، في مقابل نظرية (التقية والانتظار) التي تحرم إقامة الدولة أو القيام بالثورة أو ممارسة أي نشاط سياسي إلا بقيادة (الإمام المعصوم) المعين من قبل الله تعالى. وقد رفض الخميني النصوص المثبطة التي جاء بها الإخباريون([3]) أصحاب نظرية (الانتظار). مستعيناً بتأويل النصوص لتخطي (الانتظار)، والقول بوجوب إقامة الدولة في (عصر الغيبة) وفي إثبات عدم جواز انتظار (الإمام الغائب) الذي قد تطول غيبته آلاف السنين، كما قال السيد الخميني([4]).

1 ـ الصراع بين الإخباريين والأصوليين([5]):لم يكن صراعاً هامشياً حول أمر جزئي بسيط.. إنما كان يتعلق بأمر أساسي يدخل في موضوع عقائد الشيعة، وكان في حقيقته صراع بين الخط المتمسك بنظرية (الانتظار) تحديداً، وبين الخط الشيعي المتحرر من شروط الإمامة المتصلبة كالعصمة والنص، والمتحرر من نظرية (الانتظار).. كان الفكر الإخباري يعطي للإمام مهام كبرى من أولها:

التشريع في المسائل الحادثة التي لا توجد في القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة، يقول: إن الإمام المعصوم يحصل عليه من الله مباشرة بطريقة أو بأخرى. تنفيذ الشريعة الإسلامية وتطبيق أحكام الدين. قيادة المسلمين في شؤونهم الدينية والدنيوية.

2 - يحصر الفكر الإخباري مهمة الإمامة في (الأئمة المعصومين المعينين من قبل الله) ولا يجيز لأي شخص غيرهم أن يتولى شيئاً من ذلك.. ولذا فقد كان من الطبيعي والضروري أن يؤدي الفكر الإخباري إلى حتمية افتراض وجود الإمام الثاني عشر (محمد بن الحسن العسكري) والقول بانتظاره، وتحريم العمل السياسي في (عصر الغيبة) ([6]).

انطلاقاً من تجاوز الانتظار (السلبي) إلى مبدأ الانتظار (الإيجابي) شرع المرشد الإيراني في تقديم رؤيته لنظام الحكم المرتقب، الذي يصفه "بـ(الحكم الإسلامي)" بخلاف القدماء من متكلمي الإخبارية الذين كانوا يبررون الغيبة بالقول (أن الإمام موجود كالشمس وراء السحاب)، ولذلك كان على الخميني الذي كان يتوقع ساعة الصفر لزوال الإمبراطورية البهلوية، أن يجعل من (الغيبة) الماورائية حضوراً ماديًّا، فالحاجة الدنيوية تقضي وجود (إمام حي ظاهر متفاعل يقود الناس ويطبق أحكام الدين)، ولذلك جاءت ولاية الفقيه، إيذاناً للتخلي عن الشروط المثالية المستحيلة، باللجوء إلى (ولاية الفقيه العادل)، تلك النظرية التي تجسدت عمليًّا في تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران.

السيد الخميني الذي رفض مثالية الانتظار، وتخلى عن فكرة الترقّب السلبي، عاد ليرفع منزلة (الفقيه الحاكم) إلى المطلق اللامتناهي، فقد أسقط على شخصه من مناقب وسجايا (المعصوم) ما يجعل منه ملاكًا طاهرًا، ومنحه من الصلاحيات الكونية ما يفوق صلاحيات الرسل والأنبياء، وعلى هذا النحو، قدّم السيد الخميني مشروع الدولة، وأفتى بتفرد (نظام الولاية) عن سائر الأنظمة السياسية في العالم([7]).

غير أن هذا الامتياز الذي أضفاه على حكومته المثالية، لم يمس في الواقع وفي التجربة العملية، حقائق الحياة اليومية للمواطن الذي يتطلع إلى حقوقه العامة من الحرية والأمن والرخاء المعيشي، وأهم من ذلك كله، الإحساس بالكرامة الإنسانية. أمّا على صعيد التطبيقات السياسية، فإن النظرية الولائية بقيت في منأى عن تطبيق مبدأ الشورى، ودكتاتورية المرشد، ولم تدع مجالاً للحديث عن القيادة الجماعية، حتى رئيس الجمهورية منزوع الصلاحيات، وهو في الحقيقة ليس أكثر من موظف صغير، يتلقى الأوامر والتعليمات من القائمين على (مكتب السيد القائد)!!

بصرف النظر عن حاجات الناس، أو عن العدالة الغائبة في ظل الدولة (الولائية)، فالسيد الخميني أنشأ تجربة فريدة من نوعها، فالحكومة التي أفاض في الحديث عن عدالتها الأفلاطونية، وعن العقل الرشيد الذي يسير شؤونها، هي (حكومة القانون الإلهي.. وأن الحاكم فيها هو الله وهو المشرع وحده لا سواه) ([8]) حيال هذا التوصيف لم يعد (المرشد) هو نائب الإمام فقط، فالولاية في معتقد السيد الخميني تعني "استمرار النبوة" باستثناء (الوحي والتبليغ)، ومن هنا يشكل الخميني مقدمات بناء دولة الفقيه المنتظرة لا بوصفه إماماً، وإنما بصفته حاكمًا مؤلّهاً في زمن غيبة (المهدي) ولكنه تجاوز فيها حتى النيابة، بل أصبح بديلاً عنه في تنفيذ الأحكام، "(وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي r منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا) ([9]).

بعبارة أخرى : إن الحاكمية الإلهية المطلقة تضع (الولي الفقيه) في منطقة القداسة، وتجعل من السيد الخميني كائناً كليّاً متعالياً، حامل العلم الإلهي، ونور النبوة، الجامع لكمالات الدين، والوارث لـ(عصمة الأئمة). فهو في هذه الحال يتلقى إلهامه النوراني من الحضرة الإلهية مباشرة، من غير وسيط بين الحضرة الإلهية والفقيه، عندئذ يرفع الحجاب عن القائد المرشد، كونه الناطق باسم السماء ووكيل الله الأوحد على وجه الأرض([10]).

وبموجب مطلقات الولاية المثالية واللاتاريخية، يكون المرشد محرراً من القيد الفيزيائي، منفلتاً من مشاق المسافة وعاديات الزمن. وعلى هذا النحو المتعالي على الواقع وقوانين الحركة، شيّد السيد الخميني مملكته الدينية، وكانت نظرية الحق المقدس إحدى أبرز خصائصها، التي تقضي استلاب أو تغييب دور الشعب، وجعله نسياً منسيّاً، فأزالت مبدأ المسائلة بين الحاكم والمحكوم، فالإمام المرشد الخميني أم الخامنئي، هو القائد السياسي المعصوم، والزعيم الديني الأوحد، وولي المسلمين الأبدي، القائم حكمه في هذا العصر على جميع مسلمي العالم.

 وعلى هذا الأساس المتألّه جعلت حاكمية الفقيه السلطات الثلاث دمية بين أصابعها، لا حول ولا قوة لأي من رؤسائها ومسؤوليها([11])، وهناك الكثير من الشواهد والأمثلة على وحدانية المرشد، ومركزية حاكميته، فعندما حاول الدكتور بني صدر أن يمارس صلاحياته بمعزل عن قبضة اللاهوت، أُقصي عن مركزه الوظيفي، وأصبح في نظر الإمام الخميني خائناً وخارجاً على الإسلام، فلم يجد الرجل بعد أن التفت حول عنقه حبال الفقيه أو كادت، إلا أن ينفذ بجلده خارج المملكة الدينية، وما حصل لبني صدر كادت أن تتكرر صورته مع خاتمي الذي سعى إلى توسيع صلاحياته أملاً في تحقيق مشروعه الإصلاحي، وللمرة الثالثة تشتد الخصومة بين الفقيه والرئيس، وينزل خامنئي حلبة الصراع بنفسه، مصمم على تسديد ضربة قاضية تجعل محمود نجاد، يفقد وعيه إلى الأبد، لولا أن الأخير، بادر إلى تقبيل يدي القائد المعصوم، ملتمساً منه العفو والمغفرة.

يرى الباحث أن هيمنة الفقيه السياسية القاهرة على مدى العقود الثلاثة الماضية من قيام الجمهورية، كانت نقطة البداية الحاسمة هي الوثيقة الدستورية التي أكدت الحاكمية الإلهية وتفردها الشامل، فأقطعت رجل الدين قمة الهرم، فيما أبقت الشعب كله قابعاً في السفح.

وهكذا كرست الـ(عمامة) سلطانها دنيوياً وأخروياً، أي: تمّ تفصيل النظام الثيوقراطي القائم على وفق إرادة الفقيه الشخصية، فسلّح نفسه منذ العام الأول بصلاحيات لا حدود لها، قادرة على اختزال أدوار مؤسسات الدولة ومن بينها رئاسة الجمهورية، لذلك لم يحظ أي من الرؤساء الستة منذ عام 1979 إلى يومنا الراهن 2011 بأي قدر من الاستقلالية، ولم يتمتعوا بصلاحيات كافية، تمكنهم من حرية اتخاذ القرار، هذا الأمر يضعنا أمام حقيقة (عمامة الفقيه) التي زوّدت المرشد الأعلى بمصادر قوة سياسية فائقة النفوذ والتأثير، وضعت بين يديه مفاتيح الحل والعقد، فالولي الفقيه وحده من يمتلك قرار إعلان الحرب وإجراء الصلح، وهو المعني بتعيين قادة القوات المسلحة (الأرض، والجو، والبحر) وأعضاء الدفاع الوطني، والأمر نفسه في تعيين الفقهاء المراقبين على صيانة الدستور والقوانين التي يسنّها مجلس الشورى.. وهو المسؤول عن اختيار أعلى سلطة قضائية في البلاد. وله الكلمة النافذة الأولى في نصب وعزل رئيس أركان الحرب. وقائد الحرس الثوري. وبيده أمر عزل رئيس الجمهورية إذا اقتضت مصالح الأمة. ورغم سعة هذه الصلاحيات فإن سلطة الحق المقدس جعلت الإمام الخميني، يذهب إلى ما وراء الدستور، ففرض هيمنته على مجلس الشورى وعلى رئاسة الجمهورية، فأقال (أبو الحسن بني صدر) رئيس الجمهورية الأول عام 1981 لأنه حاول أن يخرج من عباءة السيد، فعُدّ خائناً ومتآمراً ومتمرداً على صاحب المقام الإلهي.. وكاد أن يواجه السيد خاتمي المصير نفسه على يد السيد خامنئي.

1 ـ بموجب هذه الصلاحيات وما نشأ عنها ورافقها من إحكام القبضة الثيوقراطية على رقاب المواطنين، أسفرت الثورة عن الجانب العقيم من تجربتها الاستبدادية، فمقابل الثمن الباهظ الذي دفعه الشعب الإيراني، من دماء شهدائه وتضحيات أجياله للفوز بالحرية، خلاصاً من جبروت الإمبراطورية البهلوية، كان البديل ولاة طغاة استبدلوا (بدلة السموكنغ) بـ(العمائم واللحى) وهم يتبجحون بالسلطة الإلهية المطلقة.

2 ـ بسبب فرديته المتسلطة، وتأكيداً لوحدانية حاكميته، قام الخميني بتقريع (خامنئي) برسالة شديدة اللهجة عام1988، وكان خامنئي يشغل آنذاك منصب (رئيس الجمهورية)، عندما اعترض الأخير على بعض ممارساته، حيث أجاز قانون العمل بعد أن عارضه مجلس المحافظة على الدستور.

3 ـ في هذه القضية حصراً، دشّنت ولاية الفقيه مرحلة تعد الأخطر في تاريخ الثورة الإيرانية، بإعلان الخميني الحازم، أنّ ولاية الفقيه ولاية مطلقة، كولاية الرسول r فالولي الفقيه مُعيّن من قبل (الإمام المهدي الغائب).. لذلك لا يجوز الاعتراض على قراراته، انطلاقاً من الحديث المنسوب إلى المهدي الذي يقول فيه: (إن الراد على الفقهاء كالراد علينا وكالراد على الله) ([12]). وإذا كان الفقهاء هم مرجع الأمة الأول والمسؤولون عن تصريف أمور المسلمين، فإنهم أيضاً (منصوبون للحكم وإليهم قد فوضت الحكومة ولاية الناس وسياستهم، وكل من يتخلف عن طاعتهم فإن الله يؤاخذه ويحاسبه)!! ([13])

وبفضل الحاكمية المطلقة رفعت الأقلام وجفت الصحف، فكانت بمنزلة التذكرة السحرية التي شرعت باب (العصمة) أمام المرشد الثاني، وأصبح كما معلمه الأول، لا ينطق عن الهوى!!

-المراجع-

([1]) راجع : محمد حسين آل كاشف الغطاء أصل الشيعة وأصولها : ص58، الطبعة العاشرة 

([2]) الأصول الخمسة (التوحيد، العدل، النبوة، الإمامة، المعاد) ـ  

راجع. باقر شريف القريشي. نظام الحكم والإدارة في الإسلام مطبعة النجف الأولى 1966 ص 18 والأشعري ـ مقالات الإسلاميين. القاهرة 1954 ج2 ص13.

([4]) راجع : أحمد قوشتي عبد الرحيم الصِّراع بين الأَخباريِّين والأُصوليِّين داخِلَ المذهب الشِّيعي الاثْنَي عَشْري : تكوين للدراسات والأبحاث – لندن. الطبعة الثانية - 1436هـ ص 21 ـ 24.

([5]) المصدر السابق ص25.

([6]) الإمام الخميني ولاية الفقيه. ص26.

([7]) المصدر السابق ص48 -49.

([8]) المصدر السابق ص45.

([9]) المصدر السابق ص47.

([10]) المصدر السابق ص47.

([11])) دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية). طهران 1980.

يمزج الدستور الإيراني من حيث الشكل بين المشاركة الشعبية المطبقة في الغرب باسم الديمقراطية، والحكم الديني. فالرئيس المنتخب والمسؤولون في السلطة التنفيذية يخضعون لمساءلة البرلمان، لكن سلطتهم لا توازي سلطة الولي الفقيه.. بينما ينتخب رئيس الجمهورية لفترة أربع سنوات، والولي الفقيه ينتخب أيضاً من قبل مجلس الخبراء لمدة غير محدودة، ويمكن عزله إذا فقد أحد الشروط المؤهلة.. ولكن منصبه أصبح أبديًّا.

يمنح الدستور الرئيس مسؤولية تنفيذ السياسة الاقتصادية، وإدارة الشؤون السياسية للبلاد من خلال مجلس وزرائه، وهو أيضًا رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي الذي ينسّق الدفاع الوطني والسياسة الأمنية. ويوقع الرئيس مذكرات واتفاقيات مع حكومات أجنبية، وله حق الموافقة على تعيين السفراء.. في المقابل، يمتلك الولي الفقيه القول الفصل في جميع قضايا الدولة، وهو الذي يضع الإطار العام للسياسات الخارجية والداخلية، ويسيطر مباشرة على القوات المسلحة والمخابرات، ويعيّن مجموعة من أصحاب المناصب المهمة في الدولة مثل رئيس الهيئة القضائية، ورئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الحكومية.. وله ممثلون شخصيون منتشرون في بعض المؤسسات الحكومية والأقاليم.

من أهم الإضافات التي جاء بها دستور 1989 المعدل أيضاً إنشاؤه لما يُسمّى بمجمع "تشخيص" النظام الذي أعطى القائد هيمنة مباشرة على مجلس الشورى الإسلامي، تتعلق بوظيفته التشريعية عن طريق ممارسة رقابة دستورية على ما يصدره من قوانين وتشريعات بالإضافة إلى ما يتمتع به القائد من صلاحيات لتحديد نوعية ومواصفات المرشحين عن طريق مرجعية مجلس صيانة الدستور له.

انظر الدستور الإيراني، طبعة طهران المعدلة 1989. المادة: 112، وراجع الفقه السياسي الإيراني المعاصر ج1 ص125.

([12]) زين الدين العاملي. مسالك الأفهام طبعة. قم. تحقيق بإشراف السيد مرتضى المهري. مجلد: 2 صفحه 284. والسيد عليّ خامنئي - الإمامة والولاية. قم. 92 – 93.

([13]) عبدالستار الراوي: الأيديولوجيا والأساطير. وزارة الثقافة بغداد 1988 ص34.

______________________

لمزيد من المعلومات مرفق لكم رابط كتاب التجربة الإيرانية (الواقع والمآلات):

http://www.umayya.org/wp-content/uploads/2018/01/Iranian-experience.pdf

وسوم: العدد 764