محنة الصحفي المحايد في مصر

كان سجل مصر في الحريات الصحفية والفكرية دائما مأزوما ، إلا أنه الآن تجاوز تلك التوصيفات تماما لأنه أمسى سجلا مجرًما

الصحفيون المصريون عامة والمحايدون منهم خاصة يعيشون في مصر الآن أجواء مأساوية بكل معني الكلمة، فقد أغلقت أبواب الصحف المعارضة، أو بالأحرى الموضوعية، بالضبة والمفتاح، واقتصرت مهمة الصحفي على مجرد ترديد بيانات ومنشورات أمنية غالبا ما يكون هو نفسه غير مقتنع بمحتواها، ناهيك عن أنه يتوجب عليه أن يقنع الناس بها.

ولأن الحياد الإعلامي الايجابي وعرض الحقيقة في مصر الآن جريمة بكل معنى الكلمة يتم تصنيف مرتكبها بأنه خائن للوطن وممول من الخارج، فقد توجب على على هذا الصحفي في البداية أن يلتزم الصمت تماما ولا يتعاطى السياسة حتى في بيته، ليس خوفا من الاعتقال والحبس الطويل بقضايا جنائية ملفقة فحسب، بل خوفا من أن يموت هو ومن يعول جوعا بسبب عدم وجود مكان يقبل به للعمل فيه حتى لو لأعمال إدارية، لأن صاحب العمل يخشى أنه بتوفير فرصة عمل له يجلب المشكلات الأمنية لنفسه هذا إن كان هو صاحب القرار في أن يقبله في العمل أم لا، خاصة أن غالبية المؤسسات الصحفية والإعلامية مملوكة لشركات تابعة لجهات أمنية تعاقب الناس ليس على ما يكتبون بل على ما يضمرون من أفكار ومعتقدات.

كما أن حالة الصمت المطلوبة يجب ألا تقتصر على ممارسته الصحافة والإعلام وهو حقل عمل الصحفي، ولكن تمتد إلى الكتابة على وسائل التواصل الاجتماعي والأحاديث مع الرفاق والأصدقاء وفي الجلسات العامة والخاصة أيضا.

ولتقدير صعوبة الأمر لك أن تتخيل أن يتوقف الحداد عن الحدادة والنجار عن النجارة والمحامى عن المحاماة والطبيب عن الطب. فمن أين يكسب قوت يومه؟

ولعل الكثير من الصحفيين المصريين سيؤيدونني لو قلت إن كثيرا منهم لديهم الأن أزمة اجتماعية كبيرة جراء فقدان موارد رزقهم بسبب تمسكهم بحرية التعبير، ويتعرضون لضغوط أسرية قاسية تطالبهم بمسايرة موجه "التطبيل" للسلطة.

صراع نفسي

ولأن المعركة في الأساس تدور حول حرية الرأي والتعبير والفكر والاعتقاد، تطور الأمر فلم يعد الصمت يكفي لتوفير الأمان للصحفي المعارض للسلطة، فيدها تطاله بالعقاب بناء على ما كتب من قبل، بل يجب أن يجتاز تلك المرحلة إلى مرحلة أن ينضم لجوقة مرددي البيانات الأمنية ويقنع نفسه بما فشلوا هم في إقناع أنفسهم به.

والحقيقة أنه من الشائع الآن بين الصحفيين المصريين معاناتهم أمراضا تشبه انفصام الشخصية، يكتبون عكس ما يعتقدون تماما، ويرددون بانكسار بالغ كأي عامل "تراحيل"- مع وافر الاحترام - ذلك بأنه حفاظا على لقمة العيش في بلد يعاني الناس فيه أزمة اقتصادية متفاقمة، ولذلك يكون المحظوظ منهم هو من يعمل في مجالات بعيدة عن الحقل السياسي كالرياضة والفنون والأسرة والطفل وغيرها، بل إن الصحفيين يتنافسون عليها من أجل تخفيف حدة الصراع النفسي الداخلي، رغم أن الإعلام الدعائي لم يتوانى عن إدخال الدعاية السياسة في تلك المجالات حتى في الطبيخ.  

الكتابة الجادة

ولم يعد خافيا على أحد أن الكتابة الجادة الأمينة في مصر الآن هي بمثابة نقش على البارود، والكاتب الجاد هو ذلك الراقص على حقل من الألغام وسيكون محظوظا جدا أن رقص بحرية لمدة ساعة واحدة ولم ينفجر فيه اللغم ويقضي على حياته أو يبقيه قعيدا ما تبقي من عمره.

ومأزق الصحفي والكاتب المحترف عامة أن سمعته تتلخص في حياديته، وتجود بقدر صلابته وثباته على مبادئه وابتعاده عن السلطة، وحينما يتنازل عن تلك الصفات تحت أي ضغط يفقد كل احترامه لنفسه قبل أن يفقد احترام قرائه كما انه يصعب عليه عادة أن يتكيف مع أفكار ورؤى السلطة لا سيما لو كانت فاشية.

لقد كان سجل مصر في الحريات الصحفية والفكرية دائما مأزوما، إلا أنه الآن تجاوز تلك التوصيفات تماما، لأنه أمسى سجلا مجرًما يستبيح دم وعرض ومال من يشذ عن المقرر الرسمي، فتواري الإعلامي وحل محله الإعلاني.

ورغم أن الإعلام في الدنيا برمتها إلا ما ندر يتجه إلى الحرية المطلقة فإن المهنة لدينا أصبحت مرشحة للزوال بسبب هيمنة الرقيب عليها وقيامه بدور الناشر والكاتب والإعلامي والصحفي والمفكر الوحيد الذي ينبغي على الجميع أن يردد صدى صوته.

إن استمرت الحال على ما هي عليه في مصر فمهنة الصحفي مرشحة للزوال، ليحل محلها نافخ الكير وحامل الأسفار.

فليس مهمة المخبر الصحفي ذاتها مهمة مخبر الشرطة.

وسوم: العدد 766