هل نجحت العلمانية في فصل الأتراك عن دينهم؟
في كتابه "الإسلام في العصر الحديث"، يقول ولفرد كانتويل سميث، أحد أساطين علم مقارنة الأديان في القرن العشرين: "إن القول بأن الأتراك بإيثارهم الدنيوية قد تخلوا عن الإسلام، لا يحظى بتأييد من الباحثين في الشرق أو الغرب، وإنما هو مجرد إحساس شائع بين الأوروبيين والمسلمين في الأقطار الأخرى، والمسألة في حقيقتها لا تعدو الهيئة الحاكمة".
هكذا ينقل لنا هذا العالِم المتخصص حقيقة حاول الكثيرون تجاهلها أو تزييفها، وهي أن إسقاط الخلافة العثمانية لم يفلح في إقصاء الدين من حياة الأتراك، حيث يرى كغيره من الباحثين أن سقوط الخلافة وإلغاء النظام الإسلامي في تركيا لا يمثل شعور الأمة التركية أو يُعبر عن قناعاتها، وإنما هو عمل قامت به زمرة حاكمة مُهيمنة.
وإذا عدنا إلى البداية وجدنا أن إسقاط الخلافة عام 1924، كان مُخطّطًا أجنبيا تم الإعداد له سرّا قبلها بمائة عام ، وتم تنفيذه على يد يهود الدونمة بالاشتراك مع جمعية الاتحاد والترقي، وتركيا الفتاة، والمحافل الماسونية، في الوقت الذي حمل فيه السلطان عبد الحميد لواء الجامعة الإسلامية، فكان إلغاء الخلافة على يد مصطفى كمال أتاتورك هو الحلقة الأخيرة في المؤامرة.
لكن هذه العلمانية الوافدة التي حاول الكماليون فرضها على واقع الأمة التركية، كان أشبه بمحاولة زرع نبات في تربة ومناخ غير صالحيْن، حيث أن الشعب التركي له إرثه الثقافي الممزوج بالفكرة الإسلامية، ولذا أوهموا الشعب في البداية أنها ثورة على السلطنة لا الخلافة، بمعنى نقل الخلافة من آل عثمان إلى الشعب المسلم، ولذا اعتقد كثير من المشاركين في تأسيس تركيا الحديثة أنهم بصدد تأسيس دولة جمهورية إسلامية.
لكن سرعان ما أدرك الشعب أنها محاولة لاستيراد العلمانية الفرنسية الإلحادية للحياة التركية، ووقتها أبدى شيخ الإسلام مصطفى صبري مخاوفه محذرًا من افتتان الناس بهذا النظام الجديد، وذلك لأن الصحف الموالية لعملية التغريب قد جعلت إقصاء النظام الإسلامي عنوانا على التقدم.
نستطيع القول أن الكماليين وحزب الشعب الجمهوري قد فرضوا العلمانية في الطبقات العليا للمجتمع، وفي كبريات المدن التركية، لكنهم أخفقوا في صبغ الطبقات الريفية والفقيرة - التي تمثل الغالبية - بهذه الصبغة العلمانية.
وكما يقول المفكر الراحل أنور الجندي، الخلافة ما أُسقطت بأسلوب الإقناع والتغيير النفسي والفكري، ولكن بأسلوب العنف والبطش الذي قام به الاتحاديون والكماليون.
وهذا فارق جلِيّ بين المجتمعات التي تتعرض للمد العلماني، فهناك مجتمع تتسلل إليه العلمانية عن طريق الغزو الفكري وغسل الأدمغة بصورة تراكمية، تُحدث أثرا قويا في المجتمع لدرجة أن تصبح شرائح واسعة منه حاضنة للمفاهيم العلمانية وتُروج وتُمكّن لها، وأما المجتمع التركي فلم يصل تأثير الغزو الفكري والثقافي إلى الحد الذي يجعل الشعب مؤيدا للمظاهر العلمانية وإلغاء النظام الإسلامي، لذلك كان منع الأذان باللغة العربية، ومنع حجاب النساء، وإلغاء المدارس الدينية، ليس له ظهير شعبي قوي يؤيده، وإنما جاء بأسلوب الفرض بالعسف والقوة.
وربما انكشف عوار العلمانية وانفصالها عن عموم الشعب التركي بعد بزوغ تيار الإسلام السياسي الذي أبعدته المؤسسة العسكرية الأتاتوركية بالانقلابات المسلحة قفزًا على الإرادة الشعبية التي لم يكن لديها حاجز نفسي تجاه قيادات ذات جذور إسلامية.
لذلك من الخطأ القول بأن العلمانية تمكّنت من فصل الأتراك عن دينهم بوجه عام، ولا ننكر قطعا تأثير العلمانية - التي فُرضت على الشعب - في إضعاف القيم الإسلامية خاصة في طبقات المجتمع العليا، لكنه ليس بالأثر الذي يمكن معه وصف الشعب التركي بأنه شعب علماني.
ويرى أوموت بارماكسيز الباحث في جامعة بريستول أن تركيا لم تكن يوما مجتمعا علمانيا تماما، ولم يسبق أن سيطرت عليها الأفكار الإلحادية أو المادية، بل على النقيض، أصبحت تركيا تدريجيا أكثر تدينا خلال العقدين الأخيرين، وهي العملية التي بدأت بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002.
ورغم صوابية هذه الملاحظة التي دوّنها الباحث، إلا أن ذلك لا يعني ارتباط تدين الشعب التركي بتوجهات القيادة ارتباطا طرديا، لأن الشعب كان ولا يزال يعرف نفسه باعتبار شعب مسلم مؤمن، وقد أظهر استطلاع القيم العالمية في تركيا قبل عامين أن حوالي 96% من الشعب التركي يعرفون أنفسهم على أنهم مسلمون أو مؤمنون.
لكن مظاهر التدين كانت في تزايد مستمر حتى قبل وصول الحزب إلى الحكم، حيث أظهر استطلاع القيم العالمية ارتفاع نسبة الأتراك الذين يعتقدون أهمية الدين في الحياة بشكل كبير في السنوات التي سبقت صعود الحزب إلى السلطة.
وتعتبر معركة الحجاب التي ناضلت فيها حكومة العدالة والتنمية ومؤيدوها ضد التيار العلماني، أبرز الميادين التي أظهرت انتصار إسلامية الشعب التركي على علمانيته، بعد أن كان رئيس الوزراء نفسه لا تستطيع ابنته دخول الجامعة بالحجاب.
لكنه نظرا لضعف الثقافة الإسلامية بعد عقود من تهميش دور العلم والعلماء، قد أوجدت العلمانية لنفسها موضعا فيما يختص بالنظر إلى القرآن باعتباره مصدرا واجبا للدستور والقوانين، وفيما يتعلق كذلك بالسلوكيات العامة لدى الطبقات الأرستقراطية، كالفطر في نهار رمضان.
الحكومة التركية ذات الجذور الإسلامية، لا تعبأ كثيرا بالتوصيف، فربما طرحت نفسها باعتبارها علمانية محافظة منعا للاصطدام بدستور الدولة الذي وُضع على أسس علمانية، لكنها في واقع الحياة تعمل على أسلمة الحياة في تركيا، بربطها بالتراث العثماني المرتكز أساسا على الفكرة الإسلامية، ذلك لأن الإسلام يمثل الهوية الثقافية للشعب التركي، والعبث في تلك الهوية واستبدالها بهوية تغريبية لا تتفق وثقافة ذلك الشعب، سيكون عائقا أمام أي مشروع نهضوي. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 766