حرصٌ إسرائيلي وتفريطٌ فلسطيني
د. مصطفى يوسف اللداوي
إنها مفارقةٌ عجيبةٌ غريبة، معكوسةٌ متناقضة، تخالف المنطق، وتتعارض مع الواقع، فأصحاب الحق يفرطون، والمدعون يتمسكون، والمالكون يساومون، واللصوص يرفضون، والسكان الأصليون يهاجرون، والمستوطنون يفدون، والممتلكات الشرعية تصادر، والسرقة والاغتصاب والاستيطان يشرع، والبيوت والمساكن الأصلية تهدم وتخرب، والمستوطنات والمغتصبات تبنى وتعمر، والمضطهدون المعذبون يحاصرون ويعاقبون، والمحتلون الغاصبون ينعمون ويساعدون، والأبرياء يقتلون، والقتلة المجرمون يبرؤون، والمقاومون يطاردون ويعتقلون، والمحتلون الغاصبون يكرمون ويكافئون، والأخوة والأشقاء يبتعدون وينؤون، والمعتدون الغاصبون يتقاربون ويتحالفون، وأهدافنا تتعقد ويصعب تحقيقها، بينما أهدافهم تكثر ويسهل تحقيقها.
الفلسطينيون الذين هم أصحاب الحق الشرعي الحصري، والقانوني الدولي في فلسطين، يظهرون مرونةً في سياستهم، ووسطيةً في مواقفهم، واعتدالاً في تصوراتهم، ويبدون استعداداً للتنازل عن الجزء الأكبر من فلسطين، ولا يرفضون مبادلةً للسكان، وإزاحةً للأراضي، وتعديلاً للحدود، وشطباً للحقوق، وغير ذلك مما ينفي عنهم صفة التشدد والتطرف، بينما ينعتهم بالعقلانية والاعتدال، ويجعل منهم طرفاً مسؤولاً ومقبولاً، فيمكن مفاوضتهم والجلوس معهم، ويجوز دعوتهم والتعاون معهم، ويجعل من التفريط بهم كارثة، والتخلي عنهم مصيبة، لاعتقاد الآخرين أن الزمان لن يجود بمثلهم، ولن يتكرر في الشعب الفلسطيني وجودهم، ولن يكون هناك من هو أجرأ منهم، أو مثلهم، فضياعهم مصيبة، وفقدانهم خسارة لا تعوض، ونكبة لا يقوون على تحملها، أو استيعاب نتائجها.
أما الإسرائيليون الغاصبون المحتلون، الوافدون الغرباء، المعتدون القتلة، المنبتون عن الأرض، والمطرودون من العالم، فإنهم يظهرون تشدداً في مواقفهم، وتطرفاً في سياستهم، ويستخدمون لغةً خشنة في مفاوضاتهم، ويضعون على طاولة المفاوضات عصا غليظة، ويسيرون في بلداتنا بأقدامٍ ثقيلة، يهددون ويتوعدون، ويقتلون ويغتالون، ويسجنون ويعتقلون، ويحاصرون ويضيقون، ويصادرون ويحرمون، ولا يخجلون من تطرفهم، ولا يترددون في إبداء مواقفهم، ولا يستحون من طلب تأييدهم، وسؤال مساعدتهم، ويريدون من العالم كله أن يقف معهم، وأن يساند ظلمهم، وأن يؤازر بطشهم، وأن يكون عوناً في اعتداءاتهم، وأن يصدق روايتهم، وأن يؤمن بمظلوميتهم، وأن يكون إلى جانبهم، وأن يرى الحق في موقفهم، وأن يسعى في مصالحهم، وأن يحقق مطالبهم، وأن يلبي احتياجاتهم، فهي التي تحقق أمنهم، وتؤمن سلامتهم، وتجعلهم الأكثر قدرةً وتفوقاً، وإلا فإن من يتردد ويقصر، أو يجبن ويمتنع، فإنه يتهم بأنه عدو السامية، وشريكٌ في الجرائم التاريخية، وراضٍ عن المحرقة اليهودية.
رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يخاف من سقوط حكومته، وتفكك تحالفه، وانهيار ائتلافه السياسي، إن هو أفرج عن أسرى فلسطينيين، وأطلق سراح معتقلين مضى على اعتقالهم عشرات السنين، إذ سيكون في نظر مواطنيه وحلفائه مغامر، وسيظهر بأنه يفرط في أرواح الإسرائيليين، وأنه يعفو عن قتلة مواطنين يهود، وسيكون بقراره مشجعاً لآخرين، يقتلون ويعتدون، ويقدمون ولا يترددون، لقناعتهم أنه سيفرج عنهم، ولن يطول في السجن بقاؤهم.
ويخشى نتنياهو أن يتهمه مواطنوه بالخيانة والتفريط، إن هو تنازل لمفاوضيه عن جزءٍ من الأرض، أو أبدى استعداده لمقاسمتهم بعض المناطق، أو تخلى لهم عن حقوق اليهود التاريخية والدينية في ممالك يهودا والسامرة، التي سماها لهم الرب، وارتضاها لهم وطناً، وسكن فيها أنبياؤهم، وأقام فيها ملوكهم، وعمرها شعبهم.
لذا فهو يتمسك بالقدس عاصمةً واحدةً موحدةً، لا تقبل القسمة ولا المشاركة، فشعبه لا يقبل معهم بها شريكاً، ولا يرضى باقتسامها، ولا بالتخلي عن حزءٍ منها، مهما صغُرَ أو بعُد، وهو يريد أن يقتحم الحرم، ويستولي على المسجد الأقصى، ليعيد بناء الهيكل، فهو علامة يهوديتهم، وعنوان مملكتهم، ودليل بقائهم، وعنوان وجودهم، والأساس الذي يجتمع عليه شملهم.
فهو إن فرط وتنازل، فلن يكون رئيساً للحكومة، كما لن يبقَ على رأس حزبه، ولا زعيماً لإئتلافه، بل قد يعتزل السياسة، ويغادر منصة الحكم ومنبر البرلمان، وينتقل إلى قاعات المحاضرات، ومدرجات الجامعات، يحاضر ويدرس، ويتقاضى أجراً على ما يقدم، إذ لا وجود في نظره لزعيمٍ يهودي يفرط، ولا مكان لرئيس حكومةٍ إسرائيليٍ يتنازل، وهو الذي يطمح لأن يكون ملك بني إسرائيل، وصلاً للسابقين، وامتداداً للاحقين، والملك الإسرائيلي في رأيه هو أكثر اليهود محافظةً على الحق، وحرصاً على الإرث، ووفاءً للوصية، وتمسكاً بالأرض، وسعياً لخلاص الشعب، واستعادة الملك والهيكل.
في المقابل فإن رئيس السلطة الفلسطينية لا يخشى السقوط، ولا يبالي بالشركاء، ولا يسأل عن الآخرين، ولا يهمه من شعبه أحد، ولا يخيفه من تنظيماته حزبٌ أو حركة، ولا يشعر بأنه يخاف شعبه، أو يعبأ بمواطنيه، أو أنه يفرط في حقوقهم، وأنه يقامر بوطنهم، ويتخلى عن أرضهم، ويخون تضحياتهم، وتهون عليه دماء شهدائهم، فلا يضيره إن أبدى ليونةً مع العدو، أو قبل باعتراضاته، أو وافق على لاءاته، أو سكت عن رفضه، أو قبل بتأخيره ومماطلته.
ولا يعنيه إن كان وحيداً، أو بدا أمام الآخرين ضعيفاً، لا أحد معه، ولا يوجد من يؤيده، أو يقف معه ويسانده، فقد اعتاد ألا يتسلح بإخوانه، وألا يقوي عضده بشركائه، إذ لا قيمة عنده للوحدة، ولا ضرورة في سياسته للتوافق، ولا يقلقه أن يخاصمه شركاؤه، أو أن يعترض عليه إخوانه، فوجودهم بزعمه لا يقويه، وغيابهم عنه لا يعزله ولا يقصيه.
ولا يعيبه إن فرط بالقدس، أو قبل بجزءٍ منها، أو بحيٍّ بعيدٍ عنها، ليكون عاصمةً لكيانه، وقلباً لسلطته، فلا عبرة للمكان، ولا تقدير للمقدسات، فالأرض واحدة، والأماكن متشابهة، والفلسطينيون لا يفرقون بين أرضهم، ولا يميزون في ديارهم، فكل شبرٍ من أرضهم عزيز، وكل مكانٍ من بلادهم يصلح أن يكون مصلى ومسجداً، فالأرض كلها مسجدٌ وطهور، هكذا قال النبي الرسول.
أليست هذه مفارقة عجيبة، ومعادلة غريبة ومقلوبة، الأدعياء يتمسكون ويتشددون، ويحرصون ويخافون، والأصلاء يفرطون ويتنازلون، ويبيعون ولا يتمسكون، أم أن هذه المفارقة تنطبق فقط على من يدعون القيادة، بينما يرفضها الشعب، ومن حمل راية المقاومة.