المساءلة الاجتماعية في ميدان الخدمات العامة
جميل عودة
مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات
تشكل إدارة الخدمات العامة صلة بالغة الأهمية بين أصحاب المسؤولية وأصحاب الحقوق. وتعتبر مؤسسات تقديم الخدمات، كالمستشفيات والمدارس ومؤسسات الطاقة والمياه والصرف الصحي، أساسية لإعمال حقوق الإنسان. وتؤثر كيفية تصور تلك الخدمات وتقديمها بالفعل تأثيراً كبيراً على طريقة تقييم حالة الحوكمة داخل الدولة. حيث تعد الخدمة العامة التي تقدمها الدول - من وجهة نظر عالمية- عنصرا أساسيا من عناصر الحكم الرشيد.
ولاشك أن حكومات الدول تتحمل مسؤولية تقديم خدمات عديدة إلى سكانها، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. فإذا كانت تلك الخدمات العامة التي تقدمها الدول ترتقي إلى مستوى تلبية احتياجات المواطنين وتعزز مبدأ خدمة المواطن أولا، فان من شأن هذا أن يعزز ثقة المواطن بمؤسساته الحكومية، ولكن عندما تكون الخدمة العامة في حالة تدهور وتعاني من نقص في البنى التحتية الأساسية، وتتسم بسوء الإدارة والفساد وانعدام الكفاءة، فان من شان ذلك أن يؤدي إلى فقدان الثقة بجميع جوانب الحكم الأخرى.
تقرير مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان عن دور الخدمة العامة كعنصر أساسي من عناصر الحكم الرشيد في مجال تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها لسنة 2013 أشار إلى أن " تتولى الدول مسؤولية تقديم أنواع مختلفة من الخدمات إلى سكانها، بما في ذلك خدمات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية. ويُعدّ تقديم تلك الخدمات أساسياً لحماية حقوق الإنسان، كالحق في المسكن والصحة والتعليم والغذاء. ويكون دور القطاع العام بوصفه مقدماً للخدمات أو منظماً لعملية توفير الخدمات من قبل القطاع الخاص حاسماً لإعمال جميع حقوق الإنسان، وبصفة خاصة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. وتركز بعض الخدمات، مثل خدمات الشرطة أو إقامة العدل، تركيزاً مباشراً على حماية الحريات الفردية بينما تكتسي خدمات أخرى، مثل التعليم والصحة والغذاء، طابعاً اجتماعياً ملحوظاً يُعدّ أساسياً لبناء رأس المال البشري الضروري للتنمية المستدامة وإعمال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية".
وبالتالي، فإذا كان من واجب الدول تقديم الخدمات أو تنظيمها، وإذا كان من الحق المواطن الوصول إلى الخدمة العامة على قدم المساواة، كما تنص المادة 25(ج) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وتكرس المادة 25(أ) الحق في المشاركة في إدارة الشؤون العامة، فان ذلك يستتبع تحميل المسؤولين المنتخبين أو المعينين الذين تُسند إليهم مهام عامة المسؤولية عن الإجراءات أو الأنشطة أو القرارات الصادرة عنهم وإخضاعهم للمساءلة بشأنها من خلال ما يُعرف اليوم بـ (المساءلة الاجتماعية) التي تكتسي أهمية خاصة في ميدان الخدمات العامة.
ماهي المساءلة الاجتماعية؟ المساءلة هي التزام أصحاب السلطات بتفسير الأسباب الكامنة وراء إجراءاتهم وتحمل مسئولية نتائجها. قد يكونون موظفو الحكومة، القطاع الخاص، الجهات المانحة، مقدمو الخدمات، القادة الطبيعيين أو المنظمات غير الحكومية.
والمساءلة الاجتماعية هي منهج لبناء مساءلة تعتمد على المشاركة المدنية، التي تعني مشاركة مباشرة أو غير مباشرة للمواطن العادي أو المنظمات الأهلية في مساءلة الحكومة.
عرف البنك الدولي "المساءلة الاجتماعية" بأنها أسلوب إدارة يشرك المواطنين ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام وغيرها من الأطراف الفاعلة غير الحكومية في محاسبة الحكومة عن قراراتها وأفعالها، ولا سيما فيما يتعلق باستخدام الموارد العامة وإدارتها. وهي وسيلة تدفع الحكومة إلى العمل بمزيد من الكفاءة من اجل مواطنيها بالسماح لهم بالتعبير عن آرائهم وإتاحة الفرص أمامهم، وذلك كي يعرضوا احتياجاتهم بوضوح، ويرقبوا أفعال الحكومة – من صنع السياسات إلى إدارة شؤون المالية العامة وتقديم الخدمات العامة، ومن الإعراب عن ارضائهم عن أدائها أو عدم رضاهم إلى اقتراح إجراءات تصحيحية.
وقد أشارت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ومركز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في تقرير صدر مؤخراً، إلى أن "المساءلة الاجتماعية" تستخدم للإشارة إلى مجموعة واسعة من الأنشطة التي يعمل فيها الأفراد ومنظمات المجتمع المدني بشكل مباشر أو غير مباشر على تعبئة الطلب على المساءلة... وهم كثيراً ما يستخدمون تقنيات قائمة على المشاركة لجمع البيانات وممارسة الضغوط من أجل إتاحة إمكانية الحصول بصورة شفافة على المعلومات اللازمة لتقييم الميزانيات ورصد الإنفاق العام وتقديم الخدمات العامة وتوفير بطاقات تقييم خاصة بالمواطنين والمجتمعات المحلية وإدارة عمليات تدقيق الأداء الاجتماعي، وما إلى ذلك.
واتسم عمل منظمات المجتمع المدني والحركات الاجتماعية التي استعانت بتكنولوجيات المعلومات والاتصالات بالإبداع في مجال ابتكار تقنيات جديدة للمساءلة الاجتماعية. وهذه تشمل رسم خرائط للمجتمعات المحلية عن طريق حشد المصادر أو استخدام الأنظمة العالمية لتحديد المواقع من أجل عرض المعلومات المتعلقة بتقديم الخدمات وتحليلها.
تأتي أهمية "المساءلة الاجتماعية" من خلال ما أوضحه التقرير العالمي للتنمية أن العالم يعاني من تحديات في تحسين الخدمات الموجهة للفقراء أهمها أن عوائد التنمية لا تصل إلى الفقراء، وصعوبة وصول الفقراء للخدمات المقدمة لهم، وتدني مستوى جودة الخدمات المقدمة للفقراء... مضافا إلى محدودية التقييم والتجديد والابتكار في مجال تقديم الخدمات..
فإذا ما كانت (المساءلة الاجتماعية) بهذا القدر من الأهمية، وإذا ما كانت شعوب الدول تسعى إلى المزيد من التقدم والتطور والمحافظة على حسن الأداء، وتقديم خدمات ذات جودة عالية تلبي طموح مواطنيها، فمن المهم جدا، أن تعمل الدول وحكوماتها على ضمان وجود المساءلة الاجتماعية في سياساتها وخططها العامة المالية والخدمية، لاسيما في الموارد الآتية:
1- الموازنات والمصروفات: من خلال تفعيل أعمال المشاركة الاجتماعية المتعلقة بالموازنة، مثل: وضع الميزانية بالمشاركة، واعتماد الميزانية المبنية على الأداء، وتوعية الجمهور لتحسين المعرفة بالموازنات، والإستقصاءات المتعلقة بتتبع المصروفات العامة، والرقابة المجتمعية...
2- الخدمات العامة: من خلال دمج المساءلة المجتمعية في عملية المتابعة والتقييم للخدمات والاحتياجات العامة وتوسيع جلسات الاستماع العامة، واعتماد بطاقة إبداء الرأي الخاصة بالمواطنين، وبطاقة تقييم الأداء، وإستطلاعات الرأي العام، ومواثيق المواطنين...
3- الرقابة العامة (المجتمع): من خلال توفير كافة الأدوات والوسائل التي تعزز الدور الرقابي للمواطن، وتعزيز دور لجان الرقابة التابعة لمنظمات غير الحكومية، ولجان رقابية محلية...
وأخيرا، فإذا كانت المساءلة الاجتماعية تساعد على إيجاد نظام الحكم المحسن، وتحد من الفقر، وتخفض التكاليف، وتمكن المواطنين والفقراء بصفة خاصة، وتؤدي إلى الشفافية والوضوح، وتحد من الفساد، وتعزز رأس المال الاجتماعي، وتحسن جودة الخدمات، فان كل ذلك، يتطلب تعزيز وترسيخ هذه المبادئ والمعايير في الخدمة العامة الوطنية عن طريق برامج التعليم وبناء القدرات التي تكون إلزامية لجميع مقدمي الخدمات العامة أو القائمين على إدارتها.