الربيع العربي تحت المجهر 2
مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
الحلقة الثانية
منهجيةُ تَعامُلِ الغرب وأذياله مع الربيع العربي
في البداية نُنوِّه بأن الغرب ليس شيئاً واحداً وليس له موقف واحد من ثورات الربيع العربي، ونحن هنا إنما نتحدث عن الأنظمة والمؤسسات التي ترى في العالم الإسلامي عدوا أزلياً وعلى الأقل منافساً شديد الخطورة، ومن ثم تجب محاربته وإجباره على البقاء يتخبط في تخلفه ويتردّى في اختلافه. عندما اندلعت ثورات الربيع ضد الاستبداد والفساد، اندهش الجانب المعادي من الغرب مما حدث، لكنه لم يقف متفرجاً بل أعلنت معظم دوله إعجابها بما حدث ومباركتها له، وخلف الكواليس كانت ترسم سياسة المواجهة الهادئة والطويلة الأمد، واستندت على مخزون ضخم من المعلومات التي شرّحت الجسم الإسلامي بكل ما فيه من خصوصيات وتناقضات وما يمتلكه من نقاط قوة ونقاط ضعف. ولأن هذا الأمر لم يتم الإعلان عنه ولا توجد وثائق تثبته، فإننا سنعتمد على تحليلنا لما حدث في الواقع العملي، ويبدو أن أهم العناوين في هذه الاستراتيجية هي:
1- مدّ الأنظمة والدول العميقة بأسباب الحياة:
قام الغرب وأذياله من ممالك النفط وإمارات الظلم بتقديم دعم ضخم لإسناد الأنظمة التي كانت تترنح أمام ضربات الثوار السلمية، ورغم أن حكاماً عديدين قد سقطوا في تونس ومصر وليبيا واليمن، إلا أن أنظمتهم ظلت قائمة وتقاوم بشدة وفق قانون التدافع، وعندما جاء الدعم الغربي والمدد الإقليمي والذي تمثل بعشرات المليارات من الدولارات وبحملة قصف إعلامي رهيبة ضد رموز وتيارات الربيع العربي، شوّهت هذه الثورات، وأثارت مخاوف بعض التيارات الصغيرة المشاركة فيها، ثم اشترتها بالدعم المالي السخي، وسرعان ما تفاعل ذلك كله مع عوامل أخرى ومنها بعض أخطاء الثوار الذين لم يفقهوا الواقع ولم يُجرّبوا الحكم من قبل، ووجد كل ذلك بيئة خصبة في الجهل المخيم في أوساط عامة الناس وفي الأمية الفكرية التي تحتل مساحة واسعة وسط الصفوة، مما أدى إلى اشتعال أُوار الثورات المضادة بالإجمال في تحقيق أهدافها، حيث أثمر القصف الإعلامي من كل الجبهات والجهات في شيطنة الكتلة الحديدية من الثوار وحصرها في الزاوية، لتعود الأنظمة الشمولية بشعارات جديدة لكنها صارت أشد وأنكى في النيل من الأحرار وفي تأميم الحريات ومصادرة الحقوق، ولقد لعبت مصر دور الزعامة في هذا المضمار، حيث انتهت ثورة يناير على يد العسكر بالتعاون مع من وضعوا بيضَهم في سلّة الجيش من الليبراليين واليساريين والقوميين بل وبعض السلفيين كحزب النور، والتيارات التقليدية كرجال الأزهر والتيارات الصوفية، وذلك نكايةً بالإخوان المسلمين الذين صعدوا إلى سدة السلطة بانتخابات ديمقراطية وبعد تضحيات ضخمة قدموها في مضمار إنجاح ثورة يناير، ولأن الديمقراطية هي التي أتت بالاخوان المسلمين فقد انقضّ عليها العسكر بكل ضراوة ولم يتركوا حتى الهامش الصغير الذي كان يستخدم لتجميل وجوه الأنظمة المتعاقبة، واقتيد آلاف الثوار والاحرار إلى السجون بما فيهم أول رئيس منتخب في تاريخ مصر د. محمد مرسي الذي ظل في بيته المستأجر طيلة العام الذي حكم فيه مصر، وتوحشت الدولة العميقة فأقيمت محاكم التفتيش للآلاف وصدرت أحكام بالإعدام ضد المئات من خيرة رجال مصر، ونُصبت المشانق بالفعل للعشرات، وظلت حملات المكارثية تتسع ضد الإخوان المسلمين بصورة هستيرية حتى اعتُبرت جماعة إرهابية، ووُصم كل من له صلة بها من قريب أو بعيد بالارهاب، وتم تجاوز هؤلاء إلى من أثنى عليهم بخير كالعلامة يوسف القرضاوي أو رفض الانخراط في حملة شيطنتهم والافتراء عليهم كاللاعب المصري الشهير أبو تريكة!
وفي هذا السياق تم إعادة نظام بورقيبة بصورة أقل بجاحة مما حدث في مصر؛ نتيجة فارق الوعي بين الشعبين المصري والتونسي، وتم إسناد نظام بشار الأسد من معظم الدول الغربية والعربية، وتم دعم علي عبد الله صالح بالمال والسلاح والإعلام لكي يستمر واقفاً أو يقف على الأقل حجر عثرة أمام موجة التغيير التي أحدثتها ثورة فبراير في اليمن، ودُفع صالح للتحالف مع من يُفترض أنه عدوه الأكبر وهو الحركة الحوثية، إلى أن تم الانقضاض على السلطة الشرعية والانقلاب على الدستور والمبادرة الخليجية ووثيقة الحوار الوطني التي نالت موافقة الأغلبية الساحقة من اليمنيين بعد قرابة العام من الحوارات الساخنة والتوافقات والحلول الوسطية!
2 - تفجير القنابل الموقوتة في وجه الثوار:
عندما قام الغرب بتقسيم العالم الإسلامي في اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، زرع قنابل موقوتة في تركيبة تلك الدول، وعلى رأسها القنبلة العِرقية حيث قُسّمت القومية التركية بين أربعة بلدان هي: تركيا، العراق، سوريا، إيران، وظل الغرب كلما احتاج إلى هذه القنبلة يفجرها في وجه من لم يَسر في رَكْبه ولم يدخل حظيرة طاعته، ومن لم يَدُر في فلكه ولم يحقق أجنداته.
ولإبقاء صاعق هذه القنبلة في يده، فإن الغرب ما فتئ يدعم الأقليات العرقية ضد الأكثريات كما تفعل فرنسا في دعمها للأمازيغ في شمال إفريقيا ضد العرب، وكما تدعم بريطانيا الزنوج والفوريين والنوبة والبِجَه في السودان ضد العرب، وكما تدعم أمريكا الأكراد ضد الأتراك والعرب والفرس، وكما فعلت روسيا في دعمها للأقليات العرقية ضد الأكثرية في أفغانستان وجمهوريات وسط آسيا، وكما يفعل الجميع في دعمهم للعرب ضد الفرس في إيران والفرس في العراق ضد العرب.
ومن القنابل التي تتم محاولات قوية لتفجيرها، من أجل خلط الأوراق وإشاعة الفوضى في المنطقة، القنبلة الحدودية، حيث تم تسليم أراض سورية وعراقية لتركيا وأراض عراقية لإيران، وفي ذات السياق تم فصل الصحراء الغربية عن المغرب وهي المشكلة التي ظلت تقف حجر عثرة دون تطبيع العلاقات بين المغرب والجزائر وما فتئت تمثل تهديدا باندلاع حرب بين هذين البلدين العربيين الكبيرين! وبالمثل فإن مثلث حلايب وشلاتين يقفان كقنبلة موقوتة يمكن أن تنسف العلاقات الهَشّة بين مصر والسودان، وهناك مشاكل حدودية مماثلة بين أكثر الدول العربية، فالسعودية مثلاً لها مشاكل حدودية مع كل دول الجوار وهي اليمن وعمان والأردن والإمارات وقطر والبحرين والعراق والكويت، وحتى لو كانت بعض المشاكل في طي النسيان فإن مكر الغرب كفيل بتحويلها عندما يريد إلى مستودع بارود، ما دامت القابلية موجودة في أوساط أنظمتنا ومنظماتنا، صفوتنا وجماهيرنا!
وهناك القنبلة الدينية، حيث يتم استخدام الأقليات الدينية كأدوات لإشعال الحرائق بخلق مظلومية حقيقية أو وهمية تدفعهم للتمرد على الأكثرية، مما يقضي على الأمن والسكينة العامة كما فعل الأقباط في مصر، فقد كانوا رأس الحربة التي وجهت إلى صدر النظام الديمقراطي الذي جاء بمرسي. ولأن أغلب غير المسلمين في البلدان العربية هم من المسيحيين فإن الغرب لم يستثمر هؤلاء تماماً خوفا عليهم، كما يفعل مع القنبلة الطائفية التي سنفرد لها فقرة خاصة لخطورتها الشديدة في هذه الأثناء.
3 - إذكاءُ الخلافات الطائفية:
انقسم المسلمون منذ القرن الهجري الأول إلى قسمين عريضين سنة وشيعة، ورغم أن نسبة السنة تصل إلى 90 % من المسلمين إلا أن المشكلة ظلت قائمة، غير أن العلو الغربي في العصر الحديث وما امتلك من معلومات ثرية وخبرات ضخمة، دفعته لاستثمار هذا الخلاف كلما شعر بوجود خطر ما على ثقافته ومصالحه، ولاسيما أن هناك من صُناع الاستراتيجية الغربية من يعتقدون أن وحدة المسلمين نذير شؤم على الغربيين! وعندما نجح الربيع العربي في إسقاط عدد من الزعماء الموالين للغرب كالرئيس المصري حسني مبارك أو المستفيد منهم كالرئيس الليبي معمر القذافي، انطلق المكر الغربي لتفجير القنبلة الطائفية وإذكاء الخلافات المذهبية، ويكتسب هذا العامل خطورته من تجاوب إيران الشديد معه، بصفتها زعيمة العالم الشيعي إن صحّت التسمية، حيث تساوقت مع هذا المخطط وانساقت مع الدعوات الداعية لسيطرة الشيعة على كثير من البلدان التي وجدت فيها فراغاً كلبنان وسوريا واليمن والبحرين، أما العراق فقد اعتبرتها جزءا من مملكة ولي الفقيه حتى أن مسؤولاً إيرانيا اعتبر بغداد عاصمتهم!
ومن المعلوم مدى الحرب الشاملة التي تشنها إيران من أجل تمكين الأقليات الشيعية في تلك البلدان، حيث تمتلك فيلق القدس بجانب مليشيات المتطوعين، بجانب ألوية من الحرس الثوري وكتائب من المخابرات المتعددة المهام والوظائف. وهناك مخطط لتثوير الأقليات الشيعية في السعودية وباكستان وأفغانستان والخليج، حيث يجري العمل في هذه البلدان بكل قوة وهناك مئات الخلايا النائمة والتي تنتظر نضوج الظروف وانطلاق ساعة الصفر، بجانب نشاط محموم في سائر الدول السُّنية ولاسيما الكبيرة منها كإندونيسيا في شرق آسيا ونيجيريا في غرب إفريقيا، ففي هذين البلدين فقط توجد لها جامعات تشييعية بجانب عشرات الآلاف الذين يبتعثون للدراسة في إيران ليس من هذين البلدين فقط بل ومن كافة الدول الإسلامية ولاسيما في غرب إفريقيا وفي وسط آسيا، وتؤكد تقارير استخبارية أن المخابرات الإيرانية ضالعة مع المخابرات الغربية في صناعة بوكو حرام أو تطويرها وتضخيمها من أجل تشويه صورة السُّنّة وتضييق سبل العمل أمامهم! لقد اشتعلت الفتنة الطائفية في العالم الإسلامي بعد اندلاع الربيع العربي، مع أن الأنشطة الإيرانية في هذا المضمار موجودة منذ قيام الثورة الخمينية التي ما فتئت تؤمن بما تسميه بمبدأ تصدير الثورة، معتقدةً أنها تؤدي رسالة سامية وأنها تحارب النفاق الذي استشرى من عهد الصحابة على يد الخلفاء الراشدين، ما عدا الإمام علي، وتزعم أن في ولايته وولاية أبنائه نصوصا قرآنية مقدسة وأن الوقت قد حان لرد الأمور إلى نصابها وإعادة الحقوق إلى أصحابها، حيث شعرت إيران بخطر صعود الإسلاميين المعتدلين إلى كراسي الحكم، لمعرفتها بأن الفكر الشيعي الذي يجانب العقل والفطرة لا يمكن أن ينتشر إلا في ظل الجهل والفوضى وفي ظل عمالة الحكام، وعندما تزول هذه الأوضاع فإن القابلية للفكر الشيعي ستختفي! وبدوره فإن الغرب قد وجد في التشيع سلاحاً فتّاكاً في مواجهة الربيع العربي الذي اتضح أنه يمتلك القدرة على تجاوز كافة الخلافات والحزازات التي ظلت تشكل ثقوبا في جُدُر الأمة، ويعتقد الغرب أن هذا الأمر لو تم فلن يكون في الإمكان النفاذ إلى داخل الأمة
! ولقد وجد الغرب في إيران رغبة عارمة في تكوين إمبراطورية فارسية تحت شعارات التشيع والمقاومة والممانعة، فاستثمر هذه الرغبة بدهاء بالغ، حيث استخدم عود الثقاب الطائفي في إشعال الحرائق في بلدان الربيع العربي ولاسيما في سوريا والعراق واليمن والبحرين، وما تزال الاصطفافات الطائفية تنذر بمواجهة شاملة ستؤدي لا سمح الله إلى القضاء على ما بقي من مقومات القوة في العالم الإسلامي!
4 - استثمار حركات التطرف والإرهاب لضرب أحرار الأمة:
بعد ميلاد الربيع العربي ووصول أمواجُه إلى سوريا والعراق ظهرت حركة داعش تحت قيادة البغدادي الذي كان سجينا مغمورا في أحد السجون الأمريكية في العراق، وبين عشية وضحاها تحوّل السجين السابق إلى سوبر مان، حيث بنى جماعة قوية في بضعة أسابيع، ثم أصبح خليفة للمسلمين على طريقة(كيف تتعلم الإنجليزية في خمسة أيام بدون معلم؟)، وبدأت جيوش هذا الخليفة تدك معسكرات الجيش العراقي أيام حكومة المالكي الذي عُرف بقوته، حتى أن معسكرا من 4000 جندي محترف سقط بكل سهولة أمام 200 من هواة داعش، حتى بدا لبعض الجهلة من العامة أن البغدادي يجترح كرامات ويحظى بدعم السماء، ولاسيما أن شجرة نسبه تمتد إلى ما يسمى بآل البيت!
لقد تساقطت معسكرات الجيشين العراقي والسوري أمام كتائب داعش بطريقة تراجيدة كما تتساقط أوراق الخريف، واندفعت هذه الكتائب لاجتياح معسكرات البشمرجة الأكراد، فدقت الدول الغربية أجراس الخطر ودفعت بجيوشها وأساطيلها نحو هذه المنطقة وسيطرت على منابع النفط، وأعلنت إغلاق العراق وسوريا حتى لا ينضم إلى داعش المزيد من الشباب المقاتل ولا سيما من الدول الغربية، وبعد هذا الغلق المحكم أعلنت بعض الجهات الغربية أن ثلاثين ألف مقاتل غربي التحقوا بداعش خلال بضعة أشهر للقتال معها في سوريا والعراق، ورغم الحصار الشديد على داعش من دول العالم كله إلا أنها امتلكت مليارات الدولارات، حتى أنها أغرت آلاف الخبراء والضباط العراقيين والسوريين للالتحاق بها، وخرجت لتقيم استعراضات عسكرية في مدن عراقية وسورية عديدة بأطقم حديثة من المصفحات والأسلحة المختلفة، بينما عجز الجيش السوري الحر عن توفير المرتبات والذخيرة لمقاتليه رغم ادعاء العالم العربي والغربي اعترافه به ودعمه له، واستمرت الكائرات الأمريكية في إنزال أسلحة بالغلط إلى داعش، واستمر إخلاء المعسكرات العراقية والسورية بأسلحتها الضخمة أمام داعش بدون قتال أو بقتال شكلي قصير، وأعلن وزير الدفاع الأمريكي أن معركة أمريكا مع داعش والإرهاب ستستمر لمدة ثلاثين سنة وفجأة أعلن استقالته، مع تكتم أمريكا الشديد على استراتيجيتها في محاربة الإرهاب حتى مع حلفائها، فهل كان ما حدث فيلماً أمريكياً تعدّد فيه الممثلون والمُنتجون؟ أم كانت هَبَّة حقيقية من شباب ضاقت بهم الأرض وتنكرت لهم أمتهم؟
مهما يكن الأمر فقد استخدم الغرب تحت قيادة أمريكا وروسيا الإرهاب كذريعة لضرب الأحرار في سائر بلدان المسلمين، وللقضاء على الديمقراطيات الناشئة في بعض البلدان وإلغاء الهوامش التي كانت موجودة، ولتحويل الربيع العربي إلى شتاء قارس، ولخلط الأوراق ونشر الفوضى وإشاعة اليأس والإحباط بعد موجات من التفاؤل التي تشكّلت بعد اندلاع الربيع العربي.
وفي إطار استثمار شعارات الإرهاب تمت محاصرة التيارات المعتدلة التي كان لها القَدَح المُعلّى في الربيع العربي، لدرجة شيطنتها وتجريمها، وسحب الاعتراف القانوني بها ووصمها بالارهاب، وتم إعلان حالة الطوارئ في عديد من البلدان وتطويع القوانين لكي تمنعها من الحركة والنشاط بشكل سلمي ومعلن، وعندما تحاول التحرك في الظلام تكون العصا الأمنية جاهزة ومدججة بتشريعات جديدة تعطيها صلاحيات غير محدودة، وذلك تحت لافتة محاربة الإرهاب !
وسوم: العدد 772