أزمة التنظير الحركي

نداء سوريا:

لا نقصد بأزمة التنظير الحركيّ، الاتساع الكميّ في عدد المنظرين والمفكّرين الإسلاميّين، الذين يكتبون وينظّرون في ترشيد وتصويب العمل الإسلاميّ، وإنّما نقصد بذلك غياب التنظير العلميّ النوعيّ القابل للتطبيق، والمستجيب لحاجات الشعوب وضروريّاتها، والاكتفاء بالمواجد العاطفيّة، وبثّ الشكاوى والآلام والدوران بين المآسي والسجون.

إنّ قيمة ما نضعه من نظريّات حركيّة، منوط بمدى قابليّته للتطبيق والتنفيذ؛ إذ إنّه لا جدوى من طرح أفكار لا تغادر الوريقات التي خُطّت عليها إلى أرض الواقع فتغيّره وتنهض به، فحالٌ كهذه تشبه فيه النظريّة وما احتوته من أفكار جسداً مصروعاً بالعقل، أو برفوف المكتبات، ويبقى التطبيق وتحويل هذه الأفكار لواقع معاش، بمثابة روح النظريّة، وقلبها النابض بالحياة.

لا بدّ للتنظير حتّى يكون مستجيباً للواقع وتحدّياته من الانضباط بالمنهج العلميّ، والمقصود بالمنهج العلميّ هنا حالَ البحث، هو ذلك المنهج الذي يمرّ بالمراحل الثلاثة: من الشعور بالمشكلة، ثمّ وضع الحلول المحتملة لها "فرضيّات البحث" ثمّ اختبار هذه الحلول والأخذ بالصائب منها.

لكنّ الجماعات الإسلاميّة على اختلاف راياتها ومناهجها، لم تعد تقبل المراجعة والفحص لمنظوماتها الفكريّة، برغم كلّ الاختبارات، والتجارب التي ثبت بها إخفاق هذه المناهج برمّتها، ودائماً يعزون السقوط والإخفاق إلى خلل التطبيق الذي لم يمسّ روح النظريّة، ولم يرتق إلى عمقها، أو بسبب نقص في الإيمان والالتزام الأخلاقيّ، الذي ارتدّ عقاباً من الله تعالى عليها، أو امتحاناً ربّانيّاً لاختبار عمق إيماننا بفكرتنا.

إنّ أدوات الفهم في التنظير الحركيّ تقوم على أربعة عناصر، بحسب الأولويّة هي: (النصّ بمصدريه الكتاب والسُّنّة، والعقل، والواقع، والتجربة التاريخيّة).

لكن يبقى لدينا مشكلة في أدوات الفهم ذاتها، التي تعتريها أربعة عوارض تؤثّر في قدرتها على الإجابة عن أسئلتنا العميقة المتعلّقة بالسياسة والاجتماع والاقتصاد والتربية.

أوّلاً: النصّ غالباً ما يكون ظنّيّاً في معناه، وليس قطعيّاً، وهذا يفتح الباب لاختلاف الفهم، وظنيّة الحكم الاجتهاديّ المستنبط منه، خصوصاً أنّنا نجد ندرة وإجمالاً في النصوص التي تعالج المسائل السياسيّة، والمسائل التي يتكثّف بها وجود البشر، وغالب النصوص في هذا المضمار تدور حول أمّهات القيم السياسيّة. 

إنّ الخطأ الذي يتكرّر وقوع الحركيّين الإسلاميّين فيه، هو الاعتقاد الراسخ بأنّ الإسلام دين شامل (على وجه التفصيل)، وهو يعني أنّ كلّ مشكلة يكمن حلّها في نصوصه، وما علينا إلا البحث لاستخراج هذا الحلّ وصار العقل الإسلاميّ بذلك عقلاً متمحوّراً حول النصّ، مع أنّ النصّ كثيراً ما يحيلنا إلى العقل والتفكّر بالواقع، والتردّد بين هداية النصّ واستيعاب الواقع، لاستخراج الحلول الناجعة.

أمّا عن معنى شموليّة الإسلام الذي استقرّ في العقليّة الإسلاميّة، فإذا كان المقصود بشموليّة الإسلام أنّه أعطانا الأدوات الاجتهاديّة للنظر، وإبداع الحلول في كلّ المجالات، فهذا صحيح، وإن كان المقصود هو وجود نظام وحلول مفصّلة لكلّ مشكلة، وخطّة مواجهة مع كلّ تحدّ بتمام تفصيلها، فهذا ما لا يمكن أن يقرّر لا فقهاً ولا واقعاً.

فالصحابة الكرام عندما اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، لحلّ مشكلة إسناد السلطة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يجدوا نصّاً واحداً يتّكئون عليه لحسم الخلاف بينهم، وردّوا الأمر لاعتبارات اجتماعيّة وموضوعيّة أخرى. 

ثانياً: إن العقل البشريّ يكون غالباً غير صريح في أحكامه، لنقص في تصوّره، وتأثّره بالانطباعات والعواطف والقبليات المؤثرة في حكمه على الأشياء. 

ثالثاً: وإنّ تصورنا للواقع قد يكون غير موضوعيّ؛ فالواقع اليوم شديد التحوّل، سريع التغيير، غامض الجوانب، معقّد التركيب، ممتدّ التأثير، سائل التشكّل، ممّا يجعلنا في حال استنزاف مستمرّة في معالجته، ومحاولة فهم مساراته .

وإن أهم ما تؤتى الجماعات الإسلامية من قبله في جهل الواقع جهلاً مركباً، هو عمى التمييز في الألوان والفصل بين مرحلة الحراثة والبذار ومقتضياتها التنظيمية والتنفيذية والخطابية، وبين مرحلة الحصاد وجني الثمار ومقتضياتها، كمثل ذلك الفلاح الذي يصطحب أدوات الحصاد إلى الحقل الذي لم يغرس بعد ظناً منه أن موسم حصاده قد حان، والأخطر من ذلك ضعف القدرة على التركيز الإداري في المرحلة التي يتداخل فيها البذار مع الحصاد في آن واحد .

رابعاً: إنّ التجربة التاريخيّة تجربة بشريّة ليست معصومة، محكومة بالسّنن الربّانيّة في عصرها، لذلك ما يهمّنا منها، هو فكّ شيفرة منطق التاريخ، وغالباً ما نخفق في ذلك، ونقع ضحيّة لمكر التاريخ، لذلك علينا ألا نغترّ بأدواتنا المعرفيّة ونحن نحاول تجلية الحقائق، واعتبارها قادرة على صياغة أحكام ونظريّات نهائيّة، لا يعتريها النقص والنقض والنقد، لاعتبار قداسة النظريّة، بناء على قداسة واضعها خصوصاً إن كان واضعوها من الآباء المؤسّسين.

والحقّ أنّ المناهج التي تستوعب الزمان الذي يتاح لها لتحقيق الحلول المرجوّة منها، ولم تأت بالنتيجة المرجوّة منها، حقّها النقد أو المراجعة أو التجاوز، وإلّا نحن ندور في الحلقة المفرغة نفسها، التي توصل إلى النتائج الكارثيّة نفسها، وننتظر نتائج أفضل من تكرار التجارب بناء على تعلّقات غيبيّة ببركة واضعي النظريّة وبركة النظريّة وقدسيّتها.

إنّ الفقه الحركيّ فقه مركّب، لأنّه يتناول تكليف الجماعة بالفروض التي تناط بالمجتمع، وهي تشتمل على فقه الاستضعاف والتمكين، وفقه الموازنات، والنظر في المآلات, واعتبار الأولويّات, وفقه الواقع, ومراعاة المقاصد, وهذا الفقه محكوم بمسارات ومتغيّرات الواقع أكثر من النصّ, والاستهداء بالنصّ فيها استهداء عام، وليس استهداء تفصيليّاً.

بيد أن الحقيقة التي ينبغي على الجميع الإحاطة بها، أنّ العلاقة بين التنظير والتطبيق، علاقة تكامليّة لمن أراد النجاح.. فالتنظير لأفكار لا يمكن ترجمتها لواقع معاش، لا يعدو حبراً على ورق، وجسداً من دون حياة, كما أنّ الحراك الذي لا يقوم على فكر راشد وسليم، لا يعدو أن يكون خبط عشواء، وجهداً بلا طائل.

ما أحوجنا في رحلة النهوض إلى الجمع بين رشد النظريّة الفكريّ، وروعة التطبيق الحركيّ، ما أحوجنا لإعادة ترتيب منظومتنا الفكريّة، فإنّ كثيراً من الأفكار الثانويّة تسلّلت إلى منطقة الأفكار المركزيّة والعكس، و ما أحوجنا لأن نرى التكامل والتلاحم والتنسيق بين فكر يُرشد، ويد تشيد، وعين ترقب بإيجابيّة.. فمن دون ذلك يبقى مشروع النهضة غير مكتمل الأركان، ومن ثمّ يبقى حلمنا بالنهوض والرفعة بعيد المنال والحصول.

وسوم: العدد 783