كلّنا للوطن... لا للانقسام
رائد شريدة
عويلٌ هنا، وصراخٌ هناك، وآهاتٌ تترنح في حلْبةِ الواقع المرير، أحزانٌ تعزف لحن الرجوع الأخير، وظروف عصيبة مزَّقتْ أوردةَ الحياة، وافترستْ شرايينَ النسيجِ الاجتماعيّ، فرقةٌ وتناحر، وشهداءُ الحرية يستصرخون: يا من أرقتم دماءنا، وتراقصتم طرباً على إذلالها، أما يكفيكم؟!، ألم تعد بذرةُ الكرامةِ تنبتُ في نفوسكم؟!، ألا تزالون تتشدقون على شاشات التلفزة العربية والأوروبية بعبارات يندى لها جبين الدهر، فلا الخزيُ والعارُ وحدَه عنوانُها، ولا التسلُّقُ أيضاً على أكتافِ الشعبِ نبراسُها، فإن حاولتَ رأبَ الصدع اتّسع، وصار جرحاً ناغراً في صدر هذا الشعب المكلوم، وإن قلتَ الحقيقة الدامغة المرّة اتهموك بالجنون، ظروف غاية في التعقيد، لن تتغير ما دامت في نفوسنا تسبحُ الرذيلة، ولن تزول حتى نُبيدَ بالعزم طفيلياتِ التناحر، التي نحرتنا من الوريد إلى الوريد، فضاعت قضيتنا، وصارت هباء منثوراً في مهب الريح، فرياح التغيير القميء انسلَّتْ علينا من كل حدب وصوب، هذا يدعم فصيلاً وآخر كذلك، نسينا فلسطين، وأصبح كلّ همّنا الفئوية المقيتة، أصبحت الحزبية الضيقة موئلاً وملاذاً للكلّ، وقضية فلسطين خائفة تترقب مصيرها المدلهمّ، فقد صدق قول الشاعر حينما قال:
وطن يباع ويشترى وتصيح فليحيا الوطن
شجونٌ حرّكَ مشاعري، وألهبَ أحاسيسي، وجعل قلمي يتفجّر، وأوراقي المبعثرةُ تتوقّد، وعباراتٌ نارية أججّت نفسيتي المهشَّمة، وتغلغلت أسئلةٌ حائرةٌ ما فتئت تغوصُ في مساماتِ الفاجعةِ التي ألمّت بفلسطين بعد صراع الأخوة الفلسطينيين، وما لبث أن ضاع كلّ شيء، حتى البسمة على شفاه المنكلين قتلها رصاص الغدر، حتى البراءة الكامنة في نفوسنا اغتالها سلاح البُعد والهجران، وحتى الوطن أصبح غريباً، يتّكئ على عصا مكسورة، فلا الإنسان الفلسطيني يعرف ما يدور في خلد كلّ واحد، وأوراق الخريف تتناثر كئيبة، راسمة بسقوطها مأساة ما حلّ وما قد يحلّ، ولكن... كم من دموع حرّى عانقت ثرى الأرض؟!، وكم من دماء رَخُصت على تراب هذا الوطن المثخن؟!، وكم من قادة عجز الاحتلال على النيل منهم سبقتهم رصاصة غادرة؟!، وكم من طاقات أهدرناها، وتغلغل فيها اليأس الجاثم على أفئدتنا الثكلى؟!، شلال من التساؤلات تدفّق من تضاريس نفسيتي، وسيل عَرِم تفجّر صيحة مدوية تقول: (لا)، في زمن كثرت فيه (نعم) الخائنة، أما تعرفون أنّ الشاعر قد صدق حينما قال:
أصابع الكفّ في العدّ خمسةٌ ولكنها في مقبض السيف واحدُ
فالوحدة الوحدة، والألفة الألفة، حتى نكون كالجسد الواحد الذي ذكره الرسول عليه السلام في حديثه الشريف:
"مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر جسده بالحمى والسهر".
فلا بدّ إذن من أن تتوضّأ الأيدي بماء المودة والإخاء، كي يستطيع الشعب بتكاتفه وتوحده أن يبني الوطن، الذي يحتاج منا نحن –الفلسطينيين- إلى سواعد الشباب الفاعل، الذي صدق فيه قول الشاعر العربي حينما قال:
نحن الشباب لنا الغــــدُ ومجــدُه المخلــــدُ
شعارنا علـــــى الزمن عاش الوطن عاش الوطن
نفدي له يوم المحــــن أرواحنا بلا ثمـــــن
فبالشباب يزدهر الوطن، وتصحو الأمة من كبوتها، وبالعلم الذي أزهر وازدهر في شتى صنوف الثقافة نصنع المستحيل، ونقول (نعم) الوضّاءة، التي بها تتقدم الأمة، وتمضي على جسر الثبات بخطًا واثقة، فتنسدل الستارة على لوحة الواقع الأليمة السوداء، وترتسم البسمة والتفاؤل لوحةً مفعمة بالمشاعر الجيّاشة التي تنبض بالوطن الغالي، فلا الطائفيةُ تحكمُنا، ولا الحزبيةُ تعصف بنا، كلُّنا للوطن، يدٌ واحدة، وساعدٌ يبني ويُعمّر، فتترعرع الأخلاق فينا كالنبات الذي يسقى بماء المكرمات، فقد صدق قول الشاعر حينما قال:
هي الأخلاق تنبت كالنباتِ إذا سقيت بماء المكرماتِ
فلنتحلى بمكارم الأخلاق، التي بها وبغيرها ممّا يعمر الوطن انتصر أجدادنا الأوائل في عصر صدر الإسلام، وكان دين الإسلام حينها غريباً، فغرسوه في النفوس بالكلمة الطيبة المضيئة كالشمس، فازدادَ وازداد، حتى شهدت البشرية جمعاء على أصالته، ويشهد على ذلك قول الله تعالى في كتابه العزيز، بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً.
فهذا هو عنوان النجاح، وهذه هي الطريقة المثلى التي يجب علينا كفلسطينيين أن نسير على منوالها، كي نزيل جدار الظلم بمعول التوحد والإرادة التي لا بد أن تنتصر، ولنتمثل الشعار الذي ردّده عمر المختار في آخر دقائق حياته، وهو يواجه الموت برباطة جأش منقطعة النظير:"نحن لا نستسلم... ننتصر أو نموت".