كيف يسرقون ثرواتنا ويخضعون رؤساءنا؟!
مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبروز الكتلة السوفيتيه وخطر إستخدام السلاح النووي، لجأت أمريكا إلى الأساليب غير العسكرية لتوسيع نفوذها وبسط هيمنتها في العالم. وفي العام 1951، توفرت فرصة ملائمة لتجريب هذه الأساليب غير العسكرية، عندما أمم الرئيس الإيراني المنتخب، محمد مصدق، شركة البترول البريطانيه العاملة في إيران. كان الرئيس مصدق محبوبا لدى شعبه، وقرار التأميم زاده شعبية، إلا أن القرار أزعج بريطانيا التي طلبت العون من أمريكا لردع إيران. لكن، كان من الصعب المخاطرة بخوض حرب كونية جديدة، خاصة بعد أن أعلن الاتحاد السوفييتي وقوفه مع إيران. لذلك، وبدلا من إرسال قوات أمريكية تطيح بنظام مصدق، أرسلت واشنطن تيما من عملاء المخابرات الأمريكية بقيادة كريمت روزفلت، جنّد مجموعة من الإيرانيين، نظموا مظاهرات ومسيرات ضد مصدق، مهدت لإكمال سيناريو الانقلاب والإطاحة به، ونُصّب بدلا عنه رجل أمريكا، الشاه محمد رضى بهلوي، مما أعاد تشكيل الجغرافيا السياسية للشرق الاوسط. وبمجيء العام 1968، بدا واضحا لأمريكا أنها إذا أرادت أن تهزم الاتحاد السوفييتي بدون حرب نووية، وتحقق حلم امبراطوريتها العالمية، فعليها استخدام أساليب جديدة كالنموذج الذي ابتكره كريمت روزفلت في إيران. ولكن، كانت هنالك مشكلة في هذا النموذج. فتكرار نموذج تغيير الأنظمة الحاكمة على طريقة ما تم للرئيس مصدق في إيران، سيكشف التورط المباشر لواشنطن، عبر وكالة المخابرات الأمريكية، في نموذج التغيير هذا، مما سيثير ضجة عالمية وردود أفعال غير مأمونة العواقب بالنسبة لأمريكا. ومن هنا كان البحث عن أيادي، تنفذ ما تريده واشنطن، دون الإشارة إليها بشكل مباشر. وبدأ التفكير في مهنة جديدة تحل محل مهنة الجاسوسية المباشرة لبسط سيطرة أمريكا. ومع ظهور ونمو الشركات العالمية والمؤسسات متعددة الجنسيات، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والممولة بشكل أساسي من الولايات المتحدة، برزت فكرة الجاسوس المخرّب الاقتصادي. كانت وكالات التجسس الأمريكية، تختار من يصلحون للقيام بمهمة المخرب الاقتصادي ليتم توظيفهم في الشركات الأمريكية الخاصة، ثم يتم انتدابهم كخبراء في المؤسسات المالية الدولية للعمل في البلدان الأخرى. أي أن المخرب الاقتصادي يتلقى راتبه من القطاع الخاص، حتى إذا ما تم اكتشاف عمله القذر، لن يطال الاتهام الحكومة الأمريكية، وإنما سيُفسر بجشع شركات القطاع الخاص الأمريكية. إضافة إلى ذلك، فإن المؤسسات التي ستستأجر المخربين الاقتصاديين، ستكون بمنأى عن رقابة الكونغرس والرأي العام. والمطلوب من المخرّب الاقتصادي تحقيق هدفين: الأول، إقناع الدول النامية باستدانة مبالغ ضخمة من الولايات المتحدة ومؤسسات النقد العالمية الواقعة تحت سيطرتها، كصندوق النقد الدولي، بهدف إقامة مشاريع تنموية مختلفة، ستنفذها الشركات الأمريكية الكبيرة. وبالتالي، فإن تلك الديون الضخمة سترجع، هي وأرباحها، مرة أخرى إلى منبعها، الولايات المتحدة الأمريكية. الهدف الثاني، أن يقوم المخرب الاقتصادي بإفلاس هذه الدول المستدينة، بعد دفعها لمستحقات الشركات الأمريكية التي تعاقدت معها، حتى تعجز عن سداد ديونها، وبالتالي تصبح هذه الدول، وتستمر، في قبضة الدائنين وتحت رحمتهم، مشكلة أهدافا سهلة الاستجابة لطلبات الاستراتيجية الأمريكية لإقامة قواعد عسكرية أو استخباراتية، أو تصويت في الأمم المتحدة، أو الوصول لمنابع النفط والثروات الطبيعية الأخرى. إي أن مهمة المخرب الاقتصادي الأساسية، تتلخص في الذهاب إلى البلدان النامية، وتحت مظلة مساعدتها في النهوض باقتصادها، يقترح مشروعات اقتصادية في هذه البلدان، وفق تنبؤات ودراسات غير حقيقية ومبالغ فيها عن جدواها الاقتصادية المتوقعة، بحيث تستمر هذه الدول في الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية الواقعة تحت سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وبالطبع، لم يكن في الحسبان حقيقة أن الديون التي ستلقى على كاهل هذه البلدان ستحرم شعوب البلدان النامية، خاصة الفقراء ومحدودي الدخل، من الخدمات الضرورية مثل التعليم والصحة والغذاء. والمعيار، بالنسبة لأمريكا والجهات المانحة للقروض، هو زيادة الناتج القومي الإجمالي للبلدان المستدينة. لكن، هذا المعيار مجرد وهم خادع. فالناتج القومي يمكن أن يزيد حتى ولو كان الرابح فردا واحدا، مثلا مالكا لشركة خدمات، وحتى لو كانت أغلبية السكان ترزح تحت نيران الديون. ومن وجهة النظر الإحصائية، فحتى مع ازدياد الفقير فقرا، وتفشي الفاقة والمجاعات، يمكن ملاحظة وجود زيادة في الناتج القومي. إذن، جوهر مهمة المخرب الاقتصادي هي سلب مليارات الدولارات من الدول النامية، بالخداع والغش، وبالتواطؤ مع رؤساء وزعامات هذه الدول عبر إقناعهم، بشتى الوسائل، من العمولات المغرية وحتى التهديد، ليواصلوا الاستدانة، وبالتالي إغراق هذه الدول في الديون والدوران في حلقة الاستثمارات التي تنفذها الشركات الأمريكية، مما يضاعف من الفوائد التجارية الأمريكية، وفي نفس الوقت تقوم أمريكا بحماية هؤلاء الرؤساء ومساعدتهم في الكنكشة على السلطة، وتنفيذ المشاريع التي تعضد من حكمهم، من مصانع ومدن الملاهي والمدن الرياضة والمطارات الضخمة…الخ، وهي مشاريع ستربح منها الشركات الأمريكية التي ستنفذها من القروض الممنوحة لهذه الدول من المؤسسات المالية الدولية التابعة لأمريكا. وهكذا، ومع ضمان استمرار اعتماد هذه الدول، اقتصاديا، على الولايات المتحدة، تضمن أمريكا ولاء قادة هذه الدول، وأيضا ولاء مجموعات الأسر المرتبطة بهذه المشاريع. المعلومات أعلاه جاءت ضمن اعترافات المخرّب الاقتصادي الأمريكي السابق، جون بيركنز، والتي نشرها عام 2004 في كتاب بعنوان اعترافات مخرب اقتصادي. ومثل هذا النوع من المعلومات سيساعدنا كثيرا في فهم ومعرفة كيف تنهب أمريكا ثروات الشعوب، وكيفية استشراء الفساد والإفساد في بلداننا، ولماذا تتخلف بلادنا رغم تمتعها بموارد ضخمة، والأهم من ذلك، لماذا وكيف يصبح قادة بلداننا طيعين خاضعين لاستراتيجيات أمريكا في ظل العولمة الرأسمالية المتوحشة. والكتاب في النهاية إعترافات صادقة، وربما صحوة ضمير متأخرة، لجاسوس مهمته بسط سيطرة أمريكا على هذه البدان عبر تدمير اقتصادها وثرواتها الوطنية.
وسوم: العدد 784