وسائل الإعلام : بين الهِداية والهَذيان !
لمْ يَنصبّ الشرُّ والمنقصة ، هنا ، على الهاذي ، بل ، على من لايَميزه ، من الهادي ! فلمَ ؟
إنّها مشكلة معقدة ، حقاً ، لم يستطع البشر حلها ، على مدى العصور، ولايبدو أنهم قادرون ، على حلها ، حتى يَرث الله الأرض ، وما عليها !
وسبب تعقيدها، أن عناصر كثيرة ، جدّاً، متداخلة فيها، متشابكة ، يُمسك بعضُها برقاب بعض!
في القرآن الكريم ، آيات كثيرة ، تتحدّث عن الصادقين والكاذبين ، وعن الذين يحلفون الأيمان، كي يصدّقهم الناس ، وهم كاذبون !
وفي الحديث النبويّ ، أنه : ستأتي على الناس ، سنون خدّاعات ، يُصدّق فيها الكاذب ، ويُكذّب الصادق ، ويخوّن فيها الأمين ، ويؤتمَن الخائن !
وإذا كانت هذه الأمور، موجودة ، من أقدم العصور، فالمقصود ، هنا ، تكاثرها ، بشكل كبير، حتى يلتبس أمرها ، على كثير من البشر !
المستويات المتفاوتة ، بين الناس ، من حيث : الفهمُ والعلمُ ، والطبعُ والخُلقُ .. تؤثر في ، كثرتها وقلتها !
المصالح والأهواء ، والنزعات الإنسانية المتباينة ، لها تأثير كبير، في هذه الأمور!
ثمّة طرفة ، تُنقل ، عن بعض الحلاّقين ، في باريس :
كَتب أحدُ الحلاقين ، على باب محله ، لافتة ، تقول : هنا أحسن حلاّق ، في العالم !
وكتب آخر، في اليوم الثاني ، على باب محله ، في الشارع ، نفسه: هنا أحسن حلاّق، في فرنسا!
وكتب أخر، بعده ، على باب محله ، في الشارع ، ذاته : هنا أحسن حلاق ، في باريس !
وكتب الرابع ، بعدهم ، في الشارع ، ذاته : هنا أحسن حلاق ، في هذا الشارع !
فإلى أيّ المحلات الأربعة ، يدخل ، مَن يودّ حلاقة شعره !؟
ودعاياتُ الناس ، لبضائعهم وسلعهم ، ليست مقصورة ، على الأمور المادّية ، بل تدخل فيها، الأمور المعنوية والأدبية ، وغيرها !
مفاخراتُ الشعراء ، فيما بينهم ، كثيرة ، ودعاوى النقاد ، حول أفضليات الشعراء ، كثيرة جدّاً!
مدائحُ الشعراء ، للملوك والأمراء والأثرياء ، تَرفع بعض الممدوحين ، إلى مراتب عليا ، من الفضل والجود والشجاعة ، حتى ليظنّ السامع ، أن الممدوح الفلاني ، هو وحيد عصره !
مدائحُ المتنبّي ، لكافور، كيْ يُوليه ، على أحد أقاليم مصر، معروفة ، مدوّنة ، في ديوانه.. وأهاجيه ، له ، بعد أن خاب أمله ، فيه ، معروفة ، مدوّنة ، في ديوانه ، كذلك ! وكافور، هو ذاته، لم يتغيّر، ولم يتبدّل ، كلّ ما تغيّر ، هو نظرة الشاعرإليه ، بين الأمل ، وخيبة الأمل !
سأل النبيّ ، عَمرو بن الأهتم ، عن الزبرقان بن بدر، بحضور الزبرقان ، فأثنى عليه ! وغضب الزبرقان ؛ لأنه رأى الثناء ، قليلاً عليه ! فذمّه عمرو ! وحين رأي التغيّر، في وجه النبيّ ، الذي استغرب الثناء والذمّ ، من الرجل نفسه ، في الرجل ذاته ، في المجلس عينه ! قال عمرو: يارسول الله ، رضيتُ ، فقلت أحسن ماعلمتُ ، وغضبتُ فقلت أسوأ ماعلمتُ ، وماكذبتُ في الأولى ، ولقد صدقتُ في الثانية ! فقال النبيّ : إنّ من البيان لسِحراً ، وإنّ من الشعر لحِكمة !
أمّا في العصر الحديث ، فقد أخذت الأمور مناحيَ مختلفة ، في المدح والذمّ ، وفي الترويج لبضائع ، من أصناف مختلفة ، مادّية ومعنوية : عَقدية ، ومذهبية ، وقومية ، وحزبية ..!
صار للحكّام ، أجهزة إعلام كاملة ، عملها اليومي ، هو الثناء عليهم ، وعلى منجزاتهم ، وعبقرياتهم ! تجعل هزائمهم انتصارات ، وخيباتهم إنجازات ، وحماقاتهم سياسات حكيمة، وتذلّلهم ، بين أيدي حكّام الغرب : حنكة ، وحكمة ، ودهاء ، ومرونة ، وكياسة.. !
وتُبث ، في هذه الأجهزة ، قصائد الشعراء ، في المدح والتبجيل .. وفتاوى علماء السلطان ، في تسويغ أعمال الحكّام ، من الناحية الشرعية ، وذلك ؛ لتضليل الشعوب ، وكسب إعجابها بحكّامها، العظماء النبلاء !
وبرغم أن وسائل التواصل الحديثة ، مفتوحة للجميع ، من صاقين وكاذبين ، ومن هادين وهاذين، فإن أصوات الكذب والدجل ، والهذيان والتزييف .. أعلى ، بكثير، من أصوات الصدق والحقّ ، والخير والنبل والهداية ! وأسباب ذلك كثيرة ، لامجال لتعدادها ، هنا ، لكنّ الأخيار القادرين ، على منافسة الأشرار ، مسؤولون عن تقصيرهم ، أيّاً كان نوعه : فنياً ، أو فكرياً ، أو مالياً ؛ بدعم قنوات الصدق والخير والهداية !
وسبحان القائل :( بل الإنسانُ على نفسهِ بَصيرةٌ * ولو ألقى معاذيرَه ) .
وسوم: العدد 787