أمريكا وروسيا وأزمة أوكرانيا

أمريكا وروسيا وأزمة أوكرانيا

منير شفيق

عالم انتهى عالم جديد قادم وبينهما فترة انتقالية قد تدوم بضع سنين أو أكثر.

أمريكا وأوروبا تتراجعان فيما راحت تبرز أقطاب دولية جديدة مما أوجد عالماً متعدّد القطبية ولكن بلا نظام متعدّد القومية: نظام انتقالي.

تراجع أمريكا وأوروبا لا يعني خروجهما من الساحة، أو عدم القدرة على الإفادة من تناقضات الآخرين ومن نقاط ضعفهم. ولا يعني عدم إمكان وضع حد للتراجع أو التخفيف من سرعته أو حجمه. أما أن تعودا إلى سابق عهدهما في مرحلة الحرب الباردة أو قبلها فهذا غير ممكن، تماماً مثل الإنسان الذي يصبح كهلاً لا يستطيع استعادة شبابه قوّة وحيوية ونضارة. 

نتيجة ما أصاب أمريكا من ضعف وتراجع وإخفاقات وما نشأ من حولها أو في مواجهتها من منافسة أو مقاومة أو ممانعة، فقدت القيادة الأمريكية القدرة على رسم استراتيجية مناسبة للمرحلة الراهنة، أو اعتماد سياسات متماسكة كما كان الحال في مرحلة الحرب الباردة. فأمريكا في الحرب الباردة كما قبلها كانت تمتلك دقة في تحديد الأولوية الاستراتيجية العالمية، وكانت هنالك سياسات متماسكة في مواجهة القضايا التكتيكية والصراعات الإقليمية وتشكيل التحالفات وإدارة الصراع. 

هذا كله أصبح مفقوداً في المرحلة الراهنة أو قل منذ العهد الأول لأوباما وقد حاول منذ سنتين تقريباً تحديد أولوية للاستراتيجية الأمريكية العالمية متجهاً نحو الشرق الأقصى: الصين. 

أما إدارة جورج دبليو بوش فقد تقدّمت باستراتيجية جعلت أولويتها شنّ “حرب عالمية على الإرهاب” متجاهلة تناقضاتها مع مشاريع الدول الكبرى الأخرى. وترجمت بشنّ حرب على أفغانستان 2001، ثم على العراق 2003 ثم دعم حرب شارون على ياسر عرفات 2002 ودعم حربيْ الكيان الصهيوني 2006 ضدّ لبنان و2008/2009 ضدّ قطاع غزة. ولخصت هذه الاستراتيجية ببناء شرق أوسط كبير – جديد. 

أما إدارتا بيل كلينتون فقد جعلت الأولوية الاستراتيجية الأميركية العالمية أيضاً تشكيل شرق أوسط جديد وفقاً لرؤية بيريز له. وركزت على التوصل إلى تسوية عربية – فلسطينية مع الكيان الصهيوني معتمدة على رعاية المفاوضات المباشرة. 

هاتان الاستراتيجيتان ولا سيما استراتيجية جورج بوش الابن أغفلتا ما كان يجري من استعادة روسيا لدورها كدولة كبرى على يد بوتين وما راح يتحقق من تقدّم هائل من الصين كدولة كبرى اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً فضلاً عن تطوّر أقطاب أخرى مهمة مثل الهند والبرازيل وجنوبي أفريقيا وتركيا وإيران كما اشتداد ساعد دول الممانعة في أمريكا اللاتينية. 

وبهذا تكون الاستراتيجية الأميركية قد تخبطت في تحديد الأولوية الاستراتيجية الأميركية العالمية منشغلة في ما أسمته الشرق الأوسط. 

ولهذا عندما جاءت إدارة أوباما راحت تلملم إخفاقات أمريكا في العراق وأفغانستان وتحاول إنقاذ مسار التسوية في فلسطين فوجدت نفسها عملياً بلا أولوية استراتيجية أميركية عالمية. مما دفعها منذ سنتين لتحديد الأولوية الاستراتيجية بالانتقال بها إلى الشرق الأقصى: الصين.

هذه الانتقالة بالقياس مع الاستراتيجيات التي جعلت بناء شرق أوسط جديد أولوية استراتيجيتها العالمية، تشكل أكثر تطابقاً مع موازين القوى العالمية كما يمكن أن يعبّر عنها منافسون فعليون للسيطرة الأميركية العالمية. 

إن نظرة سريعة إلى المنافسين المحتملين الحقيقيين لأمريكا لا يمكن أن تذهب إلى العراق أو أفغانستان أو بناء شرق أوسط جديد وترك المنافسيْن الروسي والصيني، أي ترك الأول الذي يضاهي أمريكا بما يملك من صواريخ وأسلحة دمار شامل يستعيد قوة دولته ويهيئُها لتصبح دولة كبرى منافسة بعد أن كان في حالة انهيار. أو ترك الثاني ليصبح المنافس التجاري الأول ويغنم الوقت الكافي لتطوير أسطوله البحري العسكري وقدراته الصاروخية والتكنولوجية مما قد يوصله ليصبح الدولة الكبرى الأولى ربما خلال عقدين من الزمن. 

فإذا كان انتقال إدارة أوباما من ناحية أولوية الاستراتيجية الأميركية العالمية نحو الصين والمتحالفة إلى حد ما مع روسيا يُعتبر خطوة أكثر تطابقاً مع موازين القوى العالمية فإن هذا الانتقال ما زال توجهاً ولم يتحوّل إلى سياسات متماسكة تعطي للاستراتيجية الجديدة أقداماً تمشي على الأرض. 

فإلى الآن لم تتقدّم أمريكا بسياسات تترجم أولويتها الجديدة مما يعني أنها ما زالت في مرحلة الارتباك الذي يظلل مرحلة الدراسة فعلى سبيل المثال لم تكشف أمريكا ما هي أوراقها لمحاصرة الصين أو احتوائها أو الحدّ من اندفاعها وتطوّرها، أو تشكيل التحالفات المطلوبة. 

هذا ولم تتقدّم أمريكا بسياسات تتعلق بمعالجة ما قام عبر عقود من السنين من تداخل اقتصادي ومالي بينها وبين الصين، مثلاً هل ستمضي بها أو تعمل على تجميدها أو تحاول الفكاك منها، أو ستلجأ للقوّة الخشنة أو الناعمة أو التي بين بين.

المشكلة الأولى التي تواجه المخطط الأمريكي هنا هو كيف سيعترف بما وصلته أمريكا من ضعف وما هو حدوده، وما هي السياسات المتناسبة مع ذلك المستوى من الضعف. هنا تتغلب عادات الغطرسة أيام الانفراد في فرض السياسات بالقوّة السافرة أو بسواها على تبني سياسات أكثر تواضعاً وأقل مغامرة. 

ثمة أمثلة كثيرة على أن المخطط الأمريكي ما زال يعيش بعقلية الماضي ومنهجه أكثر من العيش في معادلة القوى الراهنة وما تقتضيه من عقلية مبدعة جديدة تتناسب مع حالة أمريكا الحالية في ميزان القوى العام. 

هنالك أمثلة كثيرة على عجز المخطط السياسي الأميركي من التقدم بسياسات مدروسة ومتماسكة. فقد رأينا إدارة أوباما في عدّة قضايا تهجم ثم تتراجع دون حساب دقيق عند الهجوم أو عند التراجع حتى كادت أمريكا تفقد صدقيتها عند حلفائها لا سيما من اعتمدوا عليها لحمايتهم. وإلاّ كيف نفسّر امتلاك روسيا زمام المبادرة في الأزمة السورية، أو ما قام من أزمة أمريكية – سعودية، أو ما أخذته السياسات الأمريكية من حسابات خاطئة في التعامل المرتبك مع الثورات العربية في مصر وتونس أو في ليبيا واليمن. هذا دون التطرّق إلى اهتزاز علاقاتها بأوروبا نفسها.

جاءت الأزمة الأوكرانية التي فرضت على رئيس أوكرانيا حليف روسيا الاستقالة من خلال تظاهرات واعتصامات وعصيانات أدخلت أوكرانيا في مرحلة جديدة. 

وقد بدا من حيث الظاهر كأن أمريكا استعادت زمام المبادرة لتوجّه ضربة إلى روسيا. ولكن كان ذلك ركوباً على موجة شعبية واسعة أو استغلالاً لها أكثر مما هو تعبير عن تغيير في السياسة الأمريكية بمعنى الانتقال إلى امتلاك زمام المبادرة مرّة أخرى في السياسة الدولية. 

بل جاء الردّ الروسي السريع من خلال حراك شعبي ومؤسسي في إقليم القرم مدعوم بالأسطول العسكري الروسي والحشد البرّي ليستعيد زمام المبادرة جزئياً في أوكرانيا وليضع أمريكا وأوروبا في موقع ردّ الفعل للإجراءات العملية التي يتخذها وأخطرها استفتاء انفصال القرم عن أوكرانيا. 

هنا أيضاً أخذ التردّد يظهر على السياسات الأمريكية في التعامل مع الواقع الجديد الذي فرض نفسه في أوكرانيا سواء أكان في العاصمة كييف أم في إقليم القرم، وقد امتدّ هذا التردّد إلى حدوث انقسام أوروبي – أوروبي أدّى إلى التوافق على الحدّ الأدنى مع الحذر الشديد في التعامل مع تطورات الأحداث في أوكرانيا. 

فما جرى أو سيجري في أوكرانيا لا يعكس تغييراً في ميزان القوى الدولي الذي ساد خلال السنتين الماضيتين بين روسيا والصين من جهة وأمريكا وأوروبا من جهة ثانية. فهو ما زال تحت سقفه الذي اتسّم بميلان الميزان في غير مصلحة أمريكا وأوروبا. 

لا شك في أن ثورة شعبية تمثل نسبة من المكوّنات الشعبية لأوكرانيا هي التي وجهّت الضربة للرئيس الأوكراني ومن خلاله لروسيا. وهنا حاولت أوروبا ثم أمريكا دعمها سياسياً والإفادة منها. ولكن الردّ الروسي السريع والحاسم من خلال حراك شعبي في إقليم القرم مُقابِل جاء ليُدخِلَ أوكرانيا في معادلة ميزان قوى داخلي جديد كما لم يسمح لأمريكا وأوروبا امتلاك زمام المبادرة ضدّه بل راح يفرض عليهما الارتباك والتردّد في مواجهة الخطوات التي اتخذها وراح يفرضها. 

هنا على أمريكا وأوروبا أن يعودا إلى حسابات موازين القوى العام بعيداً نسبياً عن أحداث أوكرانيا. فأمريكا الآن، وإلى حد أقل أوروبا، عليها أن تراجع ما ما رسمته من سياسات مع روسيا خلال العامين الماضيين مما يدخل سياساتها مرّة أخرى في حالة الارتباك والمراجعة بعد أن كادت أن تستقرّ مؤخراً.

والمشكل هنا أن أمريكا لا تستطيع أن تبني استراتيجيا عليا جديدة مع روسيا انجراراً وراء ما حدث ويحدث في أوكرانيا ولهذا ستميل إلى دعم أوكرانيا أو مواجهة ما تفرضه روسيا من وقائع ضمن السقف الذي حدّدته سابقاً أي المحافظة على ما كان سائداً من علاقات بينها وبين روسيا، وإلاّ عليها أن تدخل في معركة غير محسوبة إذا ما ذهبت لاختراق ذلك السقف. وهو ما سيؤدي بدوره إلى إعادة النظر في ما وضعته من أولوية استراتيجية أمريكية عالمية اتجهت نحو الشرق الأقصى. 

وهذا يقتضي من السياسة الأميركية أن تحافظ على ماء وجه في دعم التغيير الذي حدث في كييف ولكن مع المحافظة على سقف العلاقات الأميركية – الروسية الذي ساد قبل أحداث أوكرانيا لأنه سقف كان أكثر تعبيراً عن ميزان القوى الدولي وما وضعته أمريكا من أولوية استراتيجية عالمية. وهذا لا يتغيّر بسبب أوكرانيا إلاّ إذا ارتُكِبَ خطأ في تقدير الموقف مما سيفرض حسابات جديدة على المستوى العالمي سيكون غير محسوب جيداً. الأمر الذي سينتهي بالضرورة إلى مزيد من الخلل في ميزان القوى الدولي في غير مصلحة أمريكا وأوروبا.