ما بين أزماتنا وأزماتهم

حين تحضرك أزماتنا الداخلية كفلسطينيين، تذهب نفسك حسرات على ما وصلنا إليه من تراجع عام، انفصام في الشخصية، فقدان للبوصلة، وشرذمة داخلية، ويكأنّنا وصلنا إلى مرحلةٍ احتاجت منّا أن نُضحي بأنفسنا في سبيل تثبيت امتيازات ما كانت، سوى سرابٍ ظنناه ماءً زلالاً، وليت أنّنا نقف على عوارنا هذا، فنستدرك إن أمكن، بعضاً من كلّ.

(1)

ليس من نافلة القول، أنّ الأزمة في الضفة الغربية، وصلت إلى حدود سقوط كبير مرتقب، فعلى مستوى المشروع السياسي، لا يُمكن انكار أنّنا بتنا أمام واقعٍ يُستحال تجاوزه بالأدوات التقليدية، فأمام طُغيان الاستيطان الإسرائيلي، والذي بات أمراً ليس بالواقع فحسب، بل الواقع الأهم، في ظل سيطرته على مساحة الضفة الأكبر، وفي ظل تحوّله اسرائيلياً، إلى مشروع مجمعٍ عليه، بل واعتباره حلّاً للأزمات السكانية التي قد تُحيط في الدولة العبرية مستقبلاً.

وفي ظل فقدان الأدوات، فلا يُمكن استبعاد اقدام "إسرائيل"، على العزف منفردةً، نحو حلولٍ قد تكون شبه مقبولةٍ دولياً وعربياً، فمن سيمنع الاحتلال من ضم الضفة إن رغب، ومن سيمنع الاستيطان من ابتلاع المزيد من الأراضي، وهل بذات الأدوات في الضفة، سيتوقف تهويد المقدسات، وقضم ما تبقى من القدس؟.

وما نؤمّل به أنفسنا، من احتمالية حراك دولي، قد يُعيد بعضاً من ألمعية القضية الفلسطينية، وإعادة مبدأ حل الدولتين، لمن آمن بالمشروع، يُرى بأنّه مضيعة للوقت، ومزيد من الفرص والوقت، ليفرض الاحتلال مزيداً من الوقائع على الأرض، والتي لن تُحركها للأسف، الايمان والطريق، والسلوك المتبع فلسطينياً في الضفة الغربية، لتبقى أزمة فقدان البوصلة، على حالها، وربما أكثر تشتتاً مع مرور الوقت.

يأتي ذلك، في ظل أزمة أخرى، باتت تُطل برأسها منذ أعوامٍ ليست بالقليلة، ولكنّها لم تصل بعد إلى حدود تحوّلها إلى مُهدد حقيقي، فما الأوضاع الاقتصادية في الضفة الغربية، إلّا أزمة أخرى، حوّلت الغالبية العُظمى من الفلسطينيين في الضفة، إلى فئة تُعاني لتوفير الحدّ الأدنى من متطلبات الحياة، وما مظاهر الرفاهية، من سيارات حديثة، وشُققٍ تعجّ بها المدن الفلسطينية، إلّا مظهراً جديداً سيطرت فيه الرأسمالية من خلال البنوك على جيوب المواطن، والذي بات يواصل العمل، لساعات طوال، بهدف توفير قسط البنك، والذي تحوّل إلى المصروف الأول لغالبية المستفيدين من هذه الخدمة، وما أكثرهم!.

وما الغربة التي بتنا في غالبيتنا نحياها في الضفة الغربية، إلّا الأزمة الأكبر، والتي قادت بدورها إلى الأزمات أعلاه، وربما قادت تلك الأزمات جزءاً منّا إلى غربته في وطنه، فما بعد غالبيتنا عن الهمّ العام، دون تحديد اتجاه سلوكنا كأفراد، فمنّا من يغترب عن هموم وطنه، وهو في المحراب يُناجي ربّه، وآخرون بالسمر لساعات طوال في المقاهي، وغيرهم بلبس عباءة غريبة عن ثقافتنا، التي بات يرى فيها، قالباً للتخلف والرجعية!، فيُلبس نفسه ثوباً، يظنّ أنّه على مقاسه، بفعل تجميله له، من قبل محيطٍ، هو الآخر مغتربٌ، في بيته.

(2)

على الساحة الأخرى، وفي معقل من يحمل همّ القضية، ويُقدم نفسه قرباناً في سبيل حريته، الأزمات تُطل بنفسها تباعاً، ولعلّ الحصار منقطع النظير في العصر الحديث، بات يقتل احلامَ أقلّ القليل للشعب المُحاصر الأعزل، ومحيطه غير المتضرر من الحصار بشكل مباشر، فباتت تبلغ القلوب الحناجر، لكلّ من يرى بالمقاومة المشروع الحقيقي للتحرر، خوفاً عليها، وادراكاً لحجم الضغط الكبير الذي يلُف عنقها.

أزمة الحُكم في غزة، ما بين عدم القدرة في ظل المُعطيات، وما بين سوء إدارة في أحيان أخرى، بات يدفع كثيرين للتساؤل، في ظل الفقر العام. لقد وصلنا إلى هنا، للحفاظ على المقاومة وسلاحها، فأين المقاومة عنّا؟، ولمَ الردود لا ترقى إلى مستوى التضحيات؟، وفي ظل هذه التساؤلات، نُدرك كُلّنا، أنّ الرد الموسع يعني حرباً، وفي الوقت الذي لا تُريد "إسرائيل" تلك الحرب، فإنّ المقاومة هي الأخرى لا تُريدها.

فليس من السهل اتخاذ قرار رفع السلاح، والذي من أجله تُحاصر وتُحارب، ففي الوقت الذي ترى المقاومة فيه ذخراً استراتيجيا، يُعد لمرحلة مهمّة، من حق من يتساءل أن يسأل، وأي مرحلة أهمّ من هذه؟، في الوقت الذي يُتَفهمُ، طرح المقاومة بضرورة تجنيب شعبنا ويلات حربٍ، ليس فيها ما قد يمنع الاحتلال، من استخدام أكبر قوّةٍ جوّيةٍ، لدّك غزة، والتي لن تجد نصيراً، سوى صوت الأحرار، الذي لن يُقدّم الكثير مادياً على الأرض.

بمعنى أنّ الرؤية نحو تحسين أوضاع القطاع باتت رهينة سلوك الاحتلال، والذي يُفاوض على تهدئة، يُدرك أنّ الفلسطينيين نظرياً، ووفق الأوراق بين يديه هم الطرف الأضعف، فلا المقاومة تستطيع إدارة شؤون القطاع، ولا بواردها دخول حرب، في ظل فقر قلّ نظيره، لغالبية السكان هناك، الأمر الذي يُعطي الاحتلال فرصة المناورة بشكل أكبر.

هذا الركود يقودك إلى تخيَل أزمة باتت قريبة، ففي ظل الفقر وقلّة الحيلة، من سيضمن استمرار التفاف الغالبية حول المقاومة؟، ومن سيضمن عدم بدء انتشار لوثات اجتماعية وقيمية، ما خلا منها عهد الصحابة في عام الرمادة، وسيكون التساؤل الأهم، إن لم تُحقق مسيرات العودة، هدفها بتخفيف الحصار وتحريك المياه الراكدة، من سيضمن استمرارها، ورُبّما تفعيل غيرها إن وُجد.

(3)

على الجانب الآخر، فإنّ الاحتلال هو الآخر، يعيش أزمات متنوعة وباتت تتسارع، لكنّ أزماته هي على المستوى الاستراتيجي البعيد وليس التكتيكي، الأمر الذي يمنحه فرصة أكبر للمناورة، وربما تحقيق مكاسب عملية، وفرض رؤى أقرب لتطلعاته، حتى وإن كان هناك ما سيقدمه للفلسطينيين، إن وصل الطرفان لحافة التهدئة.

إنّ حقيقة عدم وضوح الرؤية الاستراتيجية لدى الاحتلال، لهي واقعٌ علّ ما يُخفيه ضعفنا العام، وواقعنا السيء، الذي بات يُعطيه نقاط قوّة استمدها من ضعفنا، فهو وإن كان يتمدد ويعربد، ويطبّعُ معه عربياً بشكل متسارع، لكنّه يفتقد هو الآخر، لجوابِ سؤال مهم، ماذا يريد من الضفة، وكيف سيتعامل مع سكانها؟، وما السبيل الأمثل للحد من خطورة غزة؟، والتي لا يُختلق على كونها تهديداً استراتيجياً للاحتلال، كما تُصنّفها المراكز البحثية الإسرائيلية.

من جانب آخر، فإنّ "إسرائيل" من الداخل باتت هي الأخرى، تقف على حد ظهور ما حاولت اخماده لعقود، فالدولة العبرية، أمام فجوات لا يُمكن اعتبارها إلّا تهديداً للمشروع الصهيوني، فما بين انقسام يمين ويسار، ديني وعلماني، شرقي وغربي، يهودي وديموقراطي، روسي وغير روسي، وما شابه من هذه المسميات، يُرى الاحتلال ليس بأفضل أحواله من الداخل.

ولعلّ العنصرية التي باتت ترافق السلوك العام في الدولة، في ظل تراجع الظروف الاقتصادية لغالبية السكان، والتي انتجها غلاء المعيشة الكبير في الدولة، لا يقلّ خطورة عن الفجوة الداخلية المتعلقة، بسطوة اليمين الصهيوني على مرافق الحُكم، ورفض الشق الثاني من المتدينين وهم الحريديم أخذ جزء من العبء، يتلاءم مع نسبتهم في الدولة، والتي وصلت الى 12%، ومرجحة للوصول إلى 30$ خلال عقدين من الزمن.

هذا إلى جانب حقيقة أنّ الاحتلال، لم يصل إلى حدود اكتساب الشرعية التي أرادها، وبعد ما يزيد عن 70 عاماً، بات يُرى على مستوى الشعوب في العالم، على أنّه أكثر دموية، وعلى أنّه المثال الأوحد، للظلم الاستعماري الاستيطاني، فتراجعت شرعيته على المستوى الشعبي، لحدود رأت فيها وزارة الخارجية الإسرائيلية، خطراُ حقيقياً، قد تدفع باتجاه تأثير تلك الشعوب على حكومتها، لتغيير سياساتها باتجاه "إسرائيل".

على مستوى الساحة الخارجية أيضاُ، فإنّ "إسرائيل" باتت نقطة انقسام بين اليهود أنفسهم، فدولة الحُلم اليهودي، كما سمّاها المشروع الصهيوني، لم تعد ذات صلة بنسبة كبيرة من يهود العالم، واللذين اعتبرهم الراب شلومو ابينار ليسوا يهوداً بسبب زواجهم بغير يهوديات، ورفض الدولة الاعتراف بتيارهم الإصلاحي، كتيار ديني معترف به، الأمر الذي قاد إلى نقطة خلاف مع يهود الولايات المتحدة، لا زالت في اتساع، وباتت تتهدد المشروع ككل، كما أشار رئيس الدولة رؤوبن ريبلين، والذي يتوسط في الملف.

على صعيد التحدي الإقليمي، ووجود حركات المقاومة، فإنّ هذا الملف أيضاً، وإن بدت فيه "إسرائيل"، صاحبة اليد الطولى، إلّا أنّها كذلك تفقد استراتيجية واضحة للتعامل، وهي ذاتها غير واثقة من قدرتها على حسم أي معركة، وإن كانت على قناعة بقدرتها المهولة على التدمير، فهي باتت في النفس الوقت تخشى المفاجئات، ومن سيمنع حدوثها في ذروة الحرب، وليس نقاش الاحتلال لاحتمالية قيام المقاومة في غزة، باختراق الحدود والسيطرة على مستوطنات غلاف غزة، ضرباً من الخيال، بل هو واقعٌ باتت تخشاه المؤسسة الأمنية، وتعمل على منعه.

أزمات الاحتلال المتشعبة هي الأخرى، تكمن خطورتها في تراجع قيمة المشروع الصهيوني، في نظر الكثير من اليهود، حتى اللذين يقطنون الدولة العبرية، واللذين جاءوا إلى هنا وبنسبة كبيرة منهم، ليس من دافع عقائدي، بل لدوافع اجتماعية واقتصادية، فالعقائديون وفق ايلي يشاي، هم فقط ربع من يحيون في الدولة العبرية، وباتو على صدام مع بقية مكونات الدولة.

نشوة "إسرائيل" وشعورها بتحقيقها مكاسب على الأرض، لم تمنعها من رؤية قذى عينيها المُتمثل بتلك المشاكل الاستراتيجية، فباتت في سبيل تمتين جبهتها الداخلية، تتمسك بأقل القليل من النظم الديموقراطية، فأبقت على رئيس للوزراء فاسد، تحت عنوان، مرحلة خطيرة تحتاج إلى شخصية قوّية، في اعتراف ضمني، أنّ الدولة باتت كالشرقية من الدول، تتقبل الفساد، وتسوّغ له، ليصل وفق مراقب الدولة، إلى نسب كبيرة، باتت تتهدّدها.

(4)

ما بين أزماتنا وأزمات الاحتلال، بون كبير وشاسع، لكنه في مساحة الألم والأثر، قد يكون مغايراً لما تراه العين المجردة، أو ترصده القراءات المختلفة، لكنّ علّ أزماتنا تعود إلى صنيعة أنفسنا، أكثر من كونها، أزمات خارجية مفروضة، جاءت نتيجة احتلال غاصب، وإدارة الظهر عربيا، اسلامياً وعالمياً للقضية الفلسطينية.

وفي ظل عقدة الشرعية للاحتلال، فإنّ العبور نحو لملمة الجراح الفلسطينية داخلياً، هو طوق نجاة للجميع، وإن بدى للبعض أنّ المصالحة حيوية لغزة على المدى المنظور، في ظل حصارها، فإنّه لا يقل حيوية، وربما هو أكثر للضفة الغربية، التي بدون غزة، ستكون لقمة سائغة، ليس لتُبتلع فحسب، بل لتكون ممراً لتسويات إقليمية على حساب البقعة التي لم يتبقى منها الكثير، وربما دخولها في مرحلة ضغط سكانها، للدفع بهم نحو الخارج مهاجرين.

وسوم: العدد 792