قضية خاشقجي تميط اللثام عن الوجه البشع لما يسمى بالعالم الحر
قضية خاشقجي تميط اللثام عن الوجه البشع لما يسمى بالعالم الحر الذي يدعي التحضر والوصاية على رعاية الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان
شاءت الأقدار أن يكون الصحفي السعودي جمال خاشقجي المجهول المصير لحد الساعة إثر دخوله قنصلية بلاده في تركيا هو القشة التي قصمت ظهر البعير، وما ذلكم البعير سوى الهالة التي يحيط بها أهل ما يسمى بالعالم الحر عالمهم الذي يقدم نفسه كنموذج مثالي لا منافس له فوق المعمور ، وما ينبغي له وما يستطيع.
إن تداعي الأحداث بعد حدث اختفاء هذا الصحفي، كشفت الوجه البشع لما يسمى بالعالم الحر سواء في شمال القارة الأمريكية أم في القارة العجوز ، والذي يدعي الوصاية على الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وباقي القيم الحضارية الأخرى في المعمور .
ولقد ورط حدث اختفاء خاشقجي ثلاث دول في مشكل اختفائه ،أولها السعودية لأن قنصليتها كانت مسرح الحدث ، وثانيها تركيا لأن القنصلية توجد فوق ترابها ، وثالثها الولايات المتحدة التي يعتبر الصحفي من المقيمين فوق ترابها .
وقد تكشف تداعيات هذا الحدث تورط دول أخرى خصوصا تلك التي توجهت إليها الطائرتان اللتان أقلتا المجموعة المشتبه في ضلوعها في اختفاء الصحفي المعني، فضلا عن الكشف عن إمكان عقد صفقات مبرمة بالمناسبة، وقد بدأت بعض الجهات الملاحظة تتحدث كالربط بين حدث اختفاء خاشقجي وحدث إخلاء سبيل القس الأمريكي الذي كان تحت الإقامة الجبرية في تركيا بتهمة التجسس ، والضلوع مع جماعة غولن التي دبرت الانقلاب العسكري الفاشل ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان . ولم تعد تصدق تلك الجهات أنه لا صلة بين حدث اختفاء الصحفي السعودي ، وحدث إخلاء سبيل القس الأمريكي .
وتذهب بعض تلك الجهات إلى أن خاشقجي قربان قدمه النظام الأمريكي للحصول على صفقة من ضمن ما فيها رفع الإقامة الجبرية عن القس ، والمزيد من مليارات الدولارات التي تضخ من الخزينة السعودية إلى الخزينة الأمريكية ، وهي مليارات كانت مؤخرا حديث الرئيس الأمريكي خلال حملاته الانتخابية الأخيرة ، والتي كان يسيّل بها لعاب من يحضرون خطاباته . ومعلوم أن صبيب الأموال السعودية إلى الخزينة الأمريكية بدأ مباشرة بعد زيارة الرئيس الأمريكي للسعودية ، واستمرت بعد ذلك مطالبته بالمزيد منها ، وقد خالط هذه المطالبة التهديد الذي انتقل من طورالتلميح إلى طورالتصريح ، وهو تهديد لا يخلو من إهانة واضحة للنظام السعودي الذي وصف الرئيس الأمريكي بأن عمره أو بقاءه لا يمكن أن يزيد عن أسبوعين دون الحماية الأمريكية .
ولقد تأزمت عقدة اختفاء الصحفي السعودي بعدما تلكأ النظام السعودي في فتح تحقيق فوري بخصوص دخوله إلى قنصليته وعدم خروجه منها ، ولم ينفعه ما قدمه من ذرائع للتملص من المسؤولية من قبيل القول بأن كاميرات القنصلية تصور ولا تسجل ، علما بأنها صورت دخول الصحفي وسجلته، ولكنها لم تصور خروجه ولم تسجله لأنه خروج لم يحصل . ولا يقل النظام التركي تلكؤا عن تلكؤ النظام السعودي لأنه ظل يسوف بالمطالبة بإذن نظيره السعودي لدخول مقر القنصلية ، ومقر سكن القنصل . ولا يقل تلكؤ الإدارة الأمريكية عن تلكؤهما لأنها ظلت تعبر عن عدم وضوح ملابسات اختفاء الصحفي ، وتدعي عدم حصولها على رؤيا واضحة مع أنها صاحبة الأجهزة المخابراتية العتيدة التي لا تغيب عنها غائبة في كل شبر من هذا العالم حسب ادعاءاتها .
ولقد كانت ساعة الصحفي المختفي اليدوية الذكية والموصولة بهاتفه الخلوي الذي ظل بحوزة خطيبته التركية خارج القنصلية مصدر وبال على النظام السعودي لأنه شاهد تكنولوجي لا مجال للطعن في شهادته أمام العدالة . ولقد صارت تلك الساعة ورقة ضغط بيد الأتراك على النظام السعودي ربما للحصول على مليارات مقابل سكوتهم أو تمويههم على اختفاء الصحفي كالمليارات التي حصل عليها الرئيس الأمريكي مقابل حمايته له . ولقد أثار موضوع تأخر كشف الأتراك عن التسجيلات التي نقلتها ساعة الصحفي اليدوية شكوك الرأي العام العالمي حول وجود صفقة أو صفقات بينهم وبين النظام السعودي والذي من شأن ملياراته أن تخرجهم من أزمتهم المالية الخانقة التي كان وراءها احتجاز القس الأمريكي من ضمن ما كان وراء حصارهم الاقتصادي .
وتثار شكوك أخرى حول وقوف الإدارة الأمريكية وراء عدم الكشف عما تخفيه الساعة اليدوية لأنه لا يصدق أحد ألا تكون قد طالبت الأتراك بالاطلاع علي ما سجلته من داخل القنصلية السعودية فور إبلاغ خطيبة الصحفي بذلك ، وهذا يعني أن الإدارة الأمريكية تستخدم هي الأخرى موضوع تسجيلات الساعة اليدوية للضغط على النظام السعودي من أجل الحصول على مليارات أخرى في إطار ما تسميه حماية ومنها التستر على فضيحة اختفاء الصحفي المعارض . وعليه يبدو الصحفي السعودي صيدا ثمينا ، وأنه أغلى صحفي في العالم على الإطلاق.
ولقد اضطرت الدول الثلاث المتورطة في قضية اختفاء خاشقجي إلى التفكير في حبك مسرحية هزلية تنتهي بكشف القناع عن مصالحها المتبادلة ، وهي مصالح دل عليها بوضوح آخر لقاء بين الأتراك والموفد السعودي إليهم ، والذين أشادوا بمتانة العلاقة مع النظام السعودي في خضم خلافهم بسبب أزمة اختفاء الصحفي مع تأكيدهم أن هذه العلاقة غير قابلة للتأثر بما حصل ، علما بأن ما حدث يعتبر تحد صارخ للسيادة التركية التي يعتبر أصحابها أن بلدهم هو ملجأ المهددين في حرياتهم وحياتهم ، وأنه يضمن حمايتهم .
ويتوقع بعض المحللين أن تلك المسرحية الهزلية ستنتهي بتحميل مسؤولية اختفاء أو تصفية الصحفي لبعض الذين زاروا القنصلية ساعة اختفائه ، والذين غادروا على متن طائرتين في اتجاه مصر والإمارات دون الوصول إلى إدانة الملك السعودي وولي عهده تماما كما حصل في ليبيا إثر حادثة لوكربي والتي كان كبش الفداء فيها المسؤول المخابراتي الليبي المقرحي الذي فدى بحريته وحياته العقيد القذافي بعد عقد الانجليز صفقة مليارات مع هذا الأخير مقابل إسقاط مسؤوليته عن ضحايا الطائرة المفجرة .
ولا شك أن ترتيبات إيجاد كبش فداء يسد مسد المقرحي بالنسبة للنظام السعودي بخصوص قضية خاشقجي قد بدأ الحديث عنها إعلاميا ، وكانت بدايتها ما صرح به الرئيس الأمريكي من احتمال تصرف المسؤولين عن اختفاء الصحفي دون علم الملك السعودي وولي عهده اللذين أكدا له عدم علمهما بذلك على حد زعمه. والله أعلم كم دفعا مقابل ما تفتقت عنه عبقرية الرئيس الأمريكي الذي وجد لهما مخرجا من ورطتهما ، والذي عاجل تحريات القضاء التركي بذلك المخرج، الشيء الذي يدل على علمه الكامل بمجريات التحقيق ونتائجه التي لا بد أن تنتهي بتحميل المسؤولية لهما ، لهذا لا مندوحة عن التفكير المسبق في كبش أو كباش فداء لتبرئة ساحتهما أمام الرأي العام العالمي . ولا يمكن أن يعجز من يصرح بأنه لولا حمايته لما طال عمر النظام السعودي أكثر من أسبوعين عن تبرئة ساحة الملك والأمير من المسؤولية عن اختفاء الصحفي، لأن كل ما يعنيه هو دفعهما المليارات .
وبنهاية مسرحية اختفاء الصحفي السعودي الهزلية كما يتوقعها الكثير من المتابعين لهذه القضية، سيسقط قناع ما يسمى بالعالم الحر الوصي على الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان بالنسبة للذين ما زالت خدعه تنطلي عليهم وإلا فقد سقط هذا القناع منذ زمن بعيد إثر غزو العراق وتدمير ، وتدمير دول عربية أخرى ، والانقلاب على الشرعية والديمقراطية في مصر، وهي ديمقراطية لم تجر رياحها بما تشتهيه سفن العالم الحر الذي لم يحرك ساكنا أمام اعتقال رئيس مصري منتخب ديمقراطيا ، ولم يلق بالا للآلاف السجناء في مصر ، ولا يعلم إلإ الله مصير الكثير مهم ، ولم يلق بالا لصحفيين محتجين هناك ،ومنهم الصحفي الذي تحصي يوميا قناة الجزيرة عدد أيام احتجازه .
إن فوائد ما يسمى بالعالم الحر هي مصائب مواطنين كلهم عرب رؤساء وعلماء ودعاة وصحفيين ... وشعوب . ولقد صارت حرية الإنسان العربي وحياته موضوع مقامرة بين زعماء ما يسمى بالعالم الحر وبين أنظمة عربية شمولية تدفع له المال وتخدم مصالحه ليسكت على استبدادها وطغيانها على حساب مبادىء يتبجح بها ، وتعتبر نفسه وصيا عليها في المعمور .
فمتى سيفيق ضمير ما يسمى بالعالم الحر لتصحيح مساره الذي صار بيد زعماء يعبثون به من أجل تحقيق مصالحهم.
وسوم: العدد 794