الثورة والدولة العميقة.. النجاحات والإخفاقات
يعلم الجميع أنّ بورقيبة كان رجلا مستبدّا يعشق حبّ الظهور وكثير الاعتداد بالنفس. فهو ينسب كلّ نجاح لنفسه. ويلقي كلّ فشل على غيره من المسؤولين والوزراء، كما فعل ذلك في أزمة التعاضد(1969) وأحداث الخبز(1984). يعيّن المسؤولين والوزراء ويفرض عليهم سياساته وتوجّهاته ورؤيته فيما يتعلّق بكلّ المسائل. فإذا تفطّن إلى أنّ أحدا من المسؤولين أو الوزراء يريد أن ينتهج سياسة تتعارض مع توجهاته يبادر بعزله وتعيين من يحسب أنّه طوع بنانه يأتمر بأوامره في كلّ صغيرة وكبيرة. ومن مظاهر ذلك عندما أحسّ أنّ الوزير الأول محمد مزالي (رحمه الله) أراد أن ينتهج سياسة تتوافق مع تقاليد البلاد والعباد ومع الهوية العربية الإسلامية وتتعارض مع سياسة التغريب المفرطة التي سلكها بورقيبة قام بعزله وعيّن مكانه المخلوع زين العابدين بن علي. إلاّ أنّ ما كلّ مرّة تسلم الجرّة. حيث انقلب عليه هذا الأخير ما أن علم بنية بورقيبة بعزله وإحلال محمد الصياح مكانه.
ونحن اليوم نعيش إعادة إنتاج نفس السيناريو بعد الثورة. حيث عزل الرئيس الباجي قائد السبسي الحبيب الصيد لذات السبب وعيّن مكانه يوسف الشّاهد. ولكنّه عندما أراد أن يعزل يوسف الشّاهد بنفس الطريقة استعصى عليه الأمر. ليس بحكم المرض والتقدم في السنّ كما حدث لبورقيبة. ولكن بحكم ضرورة انصياعه للقوانين والآليات الدستورية التي أفرزتها الثورة والتي قلّصت من صلاحيات الرئيس من جهة وحدّت من نفوذ الدولة العميقة من جهة ثانية.
فكلّ ما حدث في الماضي من تجاوزات وانتهاكات وظلم واستبداد زمن الاستبداد يحدث اليوم تحت أنظار المجتمع المدني ولكن بصيغ مختلفة وبدرجات أقل. وكلّ ما يحدث اليوم من فساد ومحاولات استبدادية إنّما هو انعكاس للمخزون الاستبدادي في لاوعي البعض المستند إلى منسوب وعمق الدولة العميقة. فكلّما كان المنسوب منخفضا وكلّما كانت أرضية الدولة العميقة ضيّقة كلّما تقلّصت المحاولات الاستبدادية. فالحاكم،من أي موقع كان، الميّال إلى المشاريع الاستبدادية يتصرّف ويتعامل مع الأحداث بحسب الصلاحيات ومنسوب الدولة عميقة.
ضمن هذه المقاربة،أنزّل اسجواب عون حرس من طرف رئيس مركز الحرس بالقيروان حول الوضوء وتأدية الصلاة أثناء أوقات العمل (منذ حوالي ثلاثة أسابيع). فهو قد حدث تحت تأثير الدولة العميقة في الماضي والحاضر، رغم انّه يحدث اليوم بدرجات أقل وتحت القصف والاحتجاج اليومي وخاصّة من مواقع التواصل الاجتماعي. كما أنّ لباس فستان قصير يخدش الحياء من طرف نائبة في البرلمان ومستشارة في وزارة التربية(التي من المفروض أنّها تحضّ على حسن التربية) إنّما هو من إنتاج وتأثير الدولة العميقة. وكذلك منع تجمّع كان سيشرف عليه الرئيس السابق منصف المرزوقي إنّما هو من إنتاج الدولة العميقة. وظهور نرمين صفر شبه عارية وهي تلتحف بالعلم التونسي وتصرّح بأنّها سوف تقضي على الإرهاب بجسدها إنّما هو أيضا من إنتاج وتأثير الدولة العميقة. وكلّ هذه الأعمال الاستبدادية والسلوكيات الرعناء المرتبطة بالفساد ما كانت لتحدث لو لم تكن تستند إلى جدار سميك من جدران الدولة العميقة.
في سياق متّصل فإنّ منح الثقة لوزير الداخلية هشام الفراتي (الغير مرغوب فيه من كتلة نداء تونس) في مجلس النواب والتحاق 40 نائبا (من حزب نداء تونس) بكتلة الائتلاف الوطني وسجن برهان بسيّس(القيادي البارز في حزب نداء تونس) مباشرة إثر صدور حكم الاستئناف يبيّن ويبرز أنّ أرضية الدولة العميقة بدأت تضيق وتتقلّص بوتيرة سريعة. وهو ما يؤكد شيئين مهمين : أولا كلما ضاقت الدولة العميقة أو بمعنى آخر كلّما انقسمت وانشطرت إلى عدّة أجزاء كلّما أضحت غير متوازنة ومتحرّكة ولم يجد منتسبوها متكأ قويا وعريضا يتكّؤون عليه للقيام بكلّ ردود أفعالهم وعندئذ يصيبهم الشلل وتكون الثورة في طريق مفتوح. وثانيا أن الدولة العميقة هي في حقيقة الأمر دويلات عميقة ولوبيات بحسب المجال والقطاع. وعمليّة الانخراط في متابعة تقسيمها وتفتيتها هي مهمّة كل المختصين في كل المجالات وليست مهمة السياسيين فحسب. والمؤكد اليوم أنّنا قد حقّقنا نجاحات فيما يتعلّق بالمجال السياسي فيما تبقى المجالات الأخرى (ومنها المجال الأخلاقي) في انتظار المزيد من التحرّكات من عامة الشعب وذوي الاختصاص. وما يستخلص ممّا سبق أنّ إضعاف الدولة العميقة وإحداث شلل بأجهزتها هو عملية سياسية بالأساس، ولكنّه مرتبط كذلك بمدى استيعاب النخبة والمجتمع المدني للعملية السياسية جملة وتفصيلا.
وسوم: العدد 798