في رأس الأب والابن
«في رأس بشار الأسد»، عنوان كتاب صدر بالفرنسية عن منشورات «أكت سود»، ووقّعه ثلاثة كتاب: صبحي حديدي، وزياد ماجد، وفاروق مردم. هؤلاء الثلاثة إضافة إلى ياسين الحاج صالح، شكلوا في كتبهم ومقالاتهم عن الانتفاضة السورية ما يمكن أن نطلق عليه اسم المدوّنة الأخلاقية-السياسية، التي تشكل مرجعا لقراءة الانتفاضة السورية اليتيمة.
لم يكن هذا الرباعي وحده في المعركة الأخلاقية والفكرية، فهناك مساهمات كبرى لعشرات المثقفين والفنانين والسينمائيين، غير أن الدور الذي لعبه هؤلاء الأربعة سوف يبقى شاهدا على أن الثقافة العربية لم تستسلم للديماغوجية والاستبداد والبترو دولار.
فالمعركة الفكرية في سوريا والمشرق لم تنته بانتصار الاستبداد، وهو انتصار يشبه الهزيمة إن لم يكن أسوأ منها، لأنه يكشف أحد الوجوه التكوينية للاستبداد، بصفته مقدمة للاحتلال. فسوريا كالعراق والخليج صارت بلادا محتلة، ولم يعد الكلام عن السلطات المحلية الحاكمة مجديا، إلا في سياق كونها مجرد وكيل للاحتلال الخارجي.
أهمية هذا الكتاب أنه يعيد الأمور إلى نصابها، فيقرأ بنية الاستبداد الداخلية، ويحلل خيوط بيت العنكبوت المعقدة التي نسجها حافظ الأسد، مؤسسا لحكم وراثي في سوريا، أورثه لابنه. الابن يكرر الأب، لكنه يأخذ البلاد إلى المصير الطبيعي للاستبداد، مسلما سوريا للقوى الخارجية، بعدما أتم مهمة تدميرها.
في هذا الكتاب السلس نقرأ سيرة النظام الأسدي بكل أوجهها، من آلة القمع الرهيبة التي بناها الأب على العصبية إلى تأسيس نظام مافيوي أفلت من عقاله في مرحلة حكم الابن وسياساته النيوليبرالية التي حولت العائلة بفرعيها الأسد ومخلوف، إلى قوة مهيمنة على اقتصاد النهب والريع.
المؤلفون الثلاثة يقتربون من الأسد الابن ليكتشفوا الأسد الأب الذي بصم النظام ببنيته المخابراتية وفروعها القمعية التي نجحت في تأسيس مملكة الخوف، وبطموحه الفعلي الحقيقي الوحيد وهو تأسيس سلالة حاكمة.
أسيس السلالة الأسدية أخذ سوريا المدمّرة إلى السقوط في قبضة الاحتلالات بسرعة مذهلة، أطاحت بكل الكلامولوجيا القومية التي بنى النظام شرعيته عليها.
وعلى الرغم من أن المقارنة بين محمد علي باشا بانتصاراته العسكرية وبين الأسد لا تجوز، لكنني وأنا أقرأ هذا الكتاب تذكرت الافتراض الأساسي للمؤرخ المصري خالد فهمي عن دولة الباشا، حين استنتج بأن كل الأوهام التي نسجت حول مشروع محمد علي «القومي»، لم تكن سوى غطاء لمشروعه الفعلي الوحيد، وهو تأسيس سلالة حاكمة في مصر.
مشروع تأسيس السلالة قاد مصر إلى السقوط في عتمة الاحتلال، كما أن تأسيس السلالة الأسدية أخذ سوريا المدمّرة إلى السقوط في قبضة الاحتلالات بسرعة مذهلة، أطاحت بكل الكلامولوجيا القومية التي بنى النظام شرعيته عليها.
اللافت في هذا الكتاب هو تحليله العميق والواضح لبيت العنكبوت الاستبدادي الذي بناه الأسد الأب خيطا خيطا، من حول مركز السلطة الفردية، وهو بيت مؤلف من طبقات متعددة يضم العائلة والعصبية وقوى اجتماعية مختلفة، وتقوده طغمة مافيوية، ليست سوى امتداد أخطبوطي للمخابرات. نحن أمام آلة مركّبة ميزتها عدم إيلائها أية أهمية للخطاب الأيديولوجي القومي. ممارسة النظام الفعلية الوحيدة وهدف خطابه هو بقاء النظام، أما بقية العناصر: العروبة وفلسطين والاشتراكية وإلى آخره… فليست سوى أبقار غير مقدّسة يستطيع النظام ذبحها متى يشاء من دون أن يتغير حرف من خطابه المراوغ.
هنا يقع الفرق بين البعثين العراقي والسوري، كلاهما يريد بناء سلالة حاكمة، لكن صلف صدام حسين وبقاءه ولو بشكل جزئي أسيرا للخطاب القومي قاده إلى حتفه، أما في نظام الأسدين فإن الليونة الأيديولوجية والسياسية هي خشبة خلاصه. نظام احترف الانحناء أمام القوى الخارجية كي يتفرغ لقمع الداخل والجوار.
يأخذنا هذا الكتاب إلى أسرار البقاء في السلطة، وإلى مدلول فكرة الأبد التي كانت وراء المقتلة السورية المستمرة منذ سبعة أعوام. بشّار ليس مخترع الأبد، فأبد القمع هو تطبيق ملموس لمعنى الفكرة التي استحوذت على عقل الأب بعد خروجه من مرضه الذي كاد يفجّر السلطة التي بناها. يومها قرر اختيار وريثه الأول في شخص ابنه باسل. موت باسل في حادث سيّارة عام 1994، لم يحبط الأب الذي أعاد بناء الوراثة من الصفر مستدعيا ابنه الثاني بشّار من لندن. وكان على الأب أن يسابق الزمن في عملية معقدة تختصر مسار النظام في ست سنوات، هي مدة العمر الذي بقي للأب المريض كي ينهي مهمته بنجاح.
يتحدث الكتاب عن دور الأم في اختيار بشّار، لكن الكتّاب الثلاثة شرحوا لنا ببلاغة تتميز بالعمق والوضوح كيف أننا إذا حاولنا استكشاف ما يدور في رأس الابن، فسنجد الأب معششا في كل الزوايا، فالذي أطاح بحزب البعث وجعله ذيلا للسلطة كان الأب، والذي أسس بنية معقدة للجيش تجعل من تراتبيته مجرد شكل لا مضمون له، وهو شكل تابع في تفاصيله الصغيرة للرئيس هو الأب، والذي حوّل الكلام الأيديولوجي الموروث عن مؤسسَي حزب البعث إلى ممسحة هو الأب.
ورث بشار بلادا تحتلها صور الرئيس وتماثيله، وكانت هذه الصور والتماثيل هي المرآة الوحيدة التي يستطيع أن يراها، حين ينظر في مرآة نفسه.
هذه المرآة حكمت سوريا ولا تزال تحكمها بالحديد والنار، وهي كانت وستبقى دليل الابن إلى التعامل مع انتفاضة شعبية سلمية بلغة واحدة هي لغة الموت.
يستطيع الابن أن يزهو بأن المجتمع السوري صار «أكثر تجانسا»، وحين يشير الكتاب إلى فكرة التجانس فإنه يحيلنا إلى ملايين اللاجئين والمطرودين، وإلى حقيقة ديموغرافية جديدة أراد النظام فرضها بالرصاص والمدفعية والصواريخ والبراميل والسلاح الكيميائي.
وفي نهاية الكتاب يقف بشّار مباهيا بأنه تجاوز والده أضعافا مضاعفة في القتل والجريمة، وأن معمودية الرئيس الشاب تمت بدماء السوريات والسوريين، كما أنه نجح في استقطاب نقيضين أيديولوجيين، فأجمعت القوى اليمينية الفاشية الغربية على دعمه لأنه يقتل العرب الذين لا يستحقون سوى الموت، كما لقي دعما من قوى يسارية نوستالجية وضعته في خانة العداء للإمبريالية ورأت في بوتين استكمالا لإمبراطورية سوفيتية دالت ليحل في مكانها طموح قيصري روسي جديد.
بعد أن ننتهي من قراءة هذا السجل الأسود نستطيع أن نضع بشار أمام المرآة لنكتشف أنه يرى انعكاسه في المرآة على شكل صورتين:
صورة الأب من جهة، وصورة الموت السوري الكبير من جهة ثانية.
صورتان يؤطرهما موتان حوّلا سوريا من قلب العروبة إلى مقبرة العرب.
وسوم: العدد 798