جيل عربي بلا مأوى!
قد يعيش الإنسان بلا مأوى وإن ظلّله سقف مرفوع واحتوته جدرانٌ أربعة، وهي حالة ماثلة في واقع جيل عربي لا تستشعر بعض أوساطه الوقوف على أرضية معنوية مستقرّة، وسط ضغوط متفاقمة وصدمات داهمة وإحباطات متوالية، وتحوّلات تتسارع من بين يديها ومن خلفها دون أن تحظى بشبكة أمان.
ألوان النزوح العربي
يُضطرّ ملايين العرب إلى تغيير مساكنهم لأسباب طاردة، أو النزوح عن بلداتهم ومدانئهم، أو إلى عبور الحدود وركوب البحر، ويصطفّ أمثالهم بانتظار لحظة الانفلات النموذجية إلى مكان يرجون فيه المأوى والمستقرّ لقاء أثمان عزيزة يُسدونها من أقواتهم وكرامتهم إلى وسطاء التهريب وسماسرة الأرواح.
تكفي رحلة قارب متأرجح في عرض المتوسط لتنفصم العرى الوثقى مع المكان ولتهتزّ بعض الثوابت. يبقى ركوب القارب مع رضيع أو مُسنّة تجسيداً للقيمة النبيلة ونقيضها؛ أي إرادة الحياة والمقامرة بها، أو التضحية لأجل الإنسان والمغامرة بحياته على أمل الظفر بالأمان وتحسين شروط المعيشة. تجتمع القيمة والعدمية على ظهر زورق يتقاذفه الموْج، وما إن تحين لحظة داهمة حتى تجمح الأنانية ببعضهم؛ بدافع من غريزة البقاء التي لا تضمن لأي منهم نجاةً من الغرق.
تتعدّد ملابسات النزوح التي لا تخلو من قهر مادي أو معنوي، وصار الانزياح عن المكان ثقافةً عربية تهجر الريف إلى عشوائيات وأحياء مدينية بائسة، وتفارق الأوطان إلى جوارها، وتتزاحم على أعتاب الأمم طلباً للانضواء تحت خيمتها. تتكاثر مع موجات النزوح أسئلة نمطية من قبيل: "أما زلت حيث أنت؟ متى ستغادر؟ كم دفعتَ لهم؟".
وإنْ فقَد البشر مأواهم السابق قسراً فإنّ موقفهم من المأوى المعنوي الذي اشتمل أسلافهم يشهد اختبارات جسيمة لم يسبق لهم اجتيازها، ويستشعر الملتصقون بمأواهم المادي الذي عَهِدوه أنّ الأرض تنجرف من تحت أقدامهم، وقد يُسحَقون إن لم يُسرِعوا الخَطْوَ بالنزوح أيضاً أو لم يأخذوا حِذْرَهُم مما قد يداهمهم في لحظة الغفلة.
زمن الانفصام والتشظي
لم يعد المأوى النمطي على حاله وإن استقرّت المجتمعات ظاهرياً. تنفلت الأسرة الواحدة إلى شواغل متنافرة تصرف أفرادها إلى مجتمعات غير مرئية يخالجونها بأجهزة يخفضون لها الرؤوس تحت سقف واحد، وتتجلّى لكل فرد منهم شخصية متمايزة أو شخصيات تتعدّد حالاتها الوجدانية وانفعالاتها حتى في اللحظة الواحدة طبقاً لسياقات التواصل المتوازية؛ حسب وفرة الحسابات التي يستسخدمها الشخص الواحد في منصّات شبكية لا تعترف بحدود اليوم والليلة ومعايير الزمن التقليدي في التواصل وأدبيّاته. وإن إدركت الأسرة أفرادها المشهودين في العالم الواقعي، فليس نادراً أن تجهل شخصيّاتهم الحاضرة في الواقع الافتراضي. ليس بعيداً عن هذه الحالة؛ ينشأ بعض الجيل بلا مأوى عاطفي يَفيء إليه؛ إن تقاسَمْته شظايا أسرية تتفكّك كما لم يحدث في مجتمعات العرب من قبل، أو وسط أُسَر منفصمة عاطفياً وإن جمعها سقف واحد.
ولا تجد حشود غفيرة من فتيات العرب فرصة عادلة وكريمة لتشكيل أسرة من أساسها، وقد تُعرَض عليهنّ "حلول" مُجحفة تقوم على الاقتران الخفيّ المُهين؛ وإن وقعت شرعنته بأوراق وأختام غير مُعلَنة. وتُساوَم أخريات على امتيازات الوظيفة والصعود الاجتماعي إن انصعنَ بفرض تنازلات في الهيئة والمظهر والسلوك؛ لا تجرؤ دراسات وبحوث وتقارير عربية على توثيقها أو البوْح بها. ويصير التحرّش الفردي والجماعي ثقافة رائجة في حافلات مكتظة وعند تزاحم الأقدام، ومن القسط ألاّ يُلام مقترفو الفعلة في الميدان وحدهم؛ فالمسؤولية تقتضي فحص أفلام عادل إمام وبعض مَن قَبله ومَن بعده للتحقق من احتمال ضلوعها في إذكاء الحالة في واقع أجيال العرب؛ عبر مشاهد اتّخذت من التحرّش المشين مادّة فكاهة واجتذاب إلى شبّاك التذاكر.
كنس الآفات تحت البساط
في مجتمعات العرب آفاتٌ متكاثرة يكنسها العارفون بها تحت بساط التجاهُل، ليعيش بعض المجتمع في ازدواجية بين واقع مرئيّ استمرأ إنكار ما تحت السطح، وآخر افتراضي تنفلِت بعض أوساطه من عقالها وضوابطها والتزاماتها. يعيش الجيل العربي الشبكي هذه الازدواجية دون أن يجد مرشداً أو مأوى أو مستقرّاً، وهي حالة يتقاسم بعضَ سِماتها مع مجتمعات الأرض التي تُجرِّب وتنغمس قبل أن تأتيها الوصفة الإرشادية المتأخرة.
مضى زمن كان بعض الأهالي والمربِّين يُوصون فيه أبناءهم بـ"الثبات والاستقامة" قبل سفرهم للدراسة في بلدان غربية، لأنهم سيغشون بارتحالهم المكانيّ واقعاً لا ينضبط بقيَم والتزامات مخصوصة في بيئات المنشأ وسيقعون خلالها خارج نطاق "الرقابة المجتمعية"، وسيحتكّون على الأرجح بـ"شبهات" تراودهم عن أفكارهم ومعتقداتهم. ثم تداخلت المجتمعات أو انكشف بعض ثناياها لبعض، وصارت منصّاتها المرئية والشبكية تنساح بتدفّقاتها الكثيفة عبر الحدود والأسوار، وحضرت المجتمعات الأخرى بألوانها وطقوسها تحت السقوف العربية بلا استئذان؛ عبر أجهزة وشاشات متكاثرة لا تفارق الأيدي، وتلاشت معها فرص "الرقابة المجتمعية" التقليدية.
عزّزت الحالةُ نزعاتٍ معولمة ذات تمركز غربي، تطبع السلوك والتصرّف والرداء. وصارت "الشبهات" المُثارة حول المعتقدات والمبادئ والقيم والأفكار السائدة والقناعات الرائجة أقرب إلى الفرد من أي وقت مضى بمفاعيل الزمن الجديد الذي لم يَعُد الاحتماء بجغرافيا "البيئة المُحافِظة" يجدي معه نفعاً. تسهر "لوبيّات" مختصة على تغيير المعتقدات بأسلوب نثر الشكوك في أذهان المجتمعات المحسوبة على الدِّين والإيمان، لاجتذابها إلى مفارقة أديانها أو طوائفها أو لمساومة وجدانها على الإيمان. تقتحم حجج مُجهّزة بعناية أذهانَ الجيل معزّزةً بمؤثرات يُلحَظ بعضُها ويَستَتِر بعضُها الآخر في سياقات مُضلِّلة، أو تتولّى نَثْر بذور الشكّ في أوساط الجمهرة برسائل محسوبة رجاء أن تجد نفسيّاتٍ قَلِقة وشخصيّاتٍ ضعيفة تستنبتها.
فقدان الثقة بالنخب
لا يجد بعض الجيل مأوى آمناً لدى نخب المجتمعات، التي تورثه خيبة الأمل وتنهار توقّعاته منها سريعاً، بينما تغترف نخب السلطة من فنون الإلهاء والتضليل. تضطرب ثقة الجيل بمن كانوا يُحسَبون روّاد المجتمعات ووجوه الأمّة؛ إذ يلحظ انزلاقهم تباعاً إلى فخاخ الاستعمال الدعائي الفجّ من منابر الثقافة والأدب والفنّ والعلم والوعظ وبعض "المعارضة" السياسية ذاتها. كما تُسقِط الدعاية المضادة ألوان التشويه والشيطنة على نخب إصلاحية فتقضي عليها بالحجب وتدمغها بالشرور دون أن تُمنح فرصة ترافُع عادلة.
وما إن يبزغ نجم في الآفاق العربية حتى يهوي في بعض الأوساط التي عدّته أسوةً وقُدوة، في منحى متّصل بطبائع النجومية ذاتها، التي لا تتأسّس عادةً على وعي رشيد وتقدير مدروس. يفقد بعض الجيل ثقته في وجوه ألهمته، ويُلازِم سقوطَها مروقٌ نسبيّ من المعاني والقيَم والرمزيّات التي ارتبطت بالوجوه ذاتها فتُترك بعض الأجيال بلا مأوى معنويّ لتتناوشها بواعثُ القنوط والنزعات العدمية.
وعلى الجانب الآخر ينزلق بعض العرب المكلومين إلى ازدراء الذات إن صدمتهم الفجوة المذهلة بين الشعار والممارسة لدى أنظمة رفعت شعار "بلاد العُرْب أوطاني" واستعملته دعائياً دون الامتثال لمقتضاه. قد ينسحب هذا الارتداد على الدِّين ذاته بذريعة المتاجرة به من أنظمة القهر وتشكيلات التوحّش، وتحت وطأة الخذلان المرير المحسوب على "عمائم ولحى". يعجز بعض الجمهور عن التفريق بين الوُجهة عيْنها والعلامة الدالّة عليها، فالعلامة الملطّخة بالأوحال لا تقضي بنفي الطُّهْر عن الوجهة.
يعمل هذا المنطق بصفة انتقائية متحيِّزة تحت وطأة ملابسات نفسية جارفة، فهو يسري على نخب أكثر من غيرها، فلا يتمّ غالباً إعلان البراءة من الثقافة والأدب والفنّ والسينما، مثلاً، إن خذل "نجوم" هذه الحقول توقّعات الشعوب منها في ساعة الحقيقة. كما لا يقوى بعضهم على البراءة من قِيَم تُستعمَل في مشارق الأرض ومغاربها في سياقات دعائية تبريرية لشنّ الحروب واقتراف الموبقات؛ ومنها الحرية التي زُجّ بها في حملة إحراق العالم الإسلامي في زمن بوش الابن مثلاً.
يُشير هذا ضمن شواهد أخرى؛ إلى الطابع الانتقائي وغير العقلاني لمنحى المروق الذي يُعلِن "الكفر بكل شيء"، علاوة على أنّ "كلّ شيء" هنا ليس كلّ شيء بالأحرى؛ فقد يكون كفراً اعتقادياً أو قيمياً انتقائياً لا أكثر؛ أو قد يأتي إعلاناً متمرِّداً لا يوافق قناعةً متأصِّلة، أو هو محاولة لمشاكسة النسَق المجتمعي والثقافي وإشغاله بفقاعة جديدة واجتذاب الانتباه إلى صاحب الصيحة، أو قد يكون إعلانَ مفاصلة مع حال عامّة تبدو مُزرية في الوعي مع ربطها الساذج ببُعد أحادي؛ مثل الدِّين أو الهوية أو الثقافة.
مفعول التراشق بين الجبهات
وفي زمن التشظي والاحتراب تُكرِّس الخنادق المتقابلة على خطوط التماس السياسية والفكرية والإثنية والطائفية جهوداً دؤوبة لسحق خصومها بالإمعان بالفتك المعنوي برمزيّاتهم وتلطيخ قاماتهم ومرجعيّاتهم الثقافية بالعار والشنار؛ باستعمال فنون التشويه والاجتزاء والتزييف وإساءة التأويل؛ إن أعياها البحث عن "شواهد إثبات" دامغة. وهكذا تنقشع الحصانة المعنوية عن الجميع في المحصِّلة دون أن ينجو خندق برأسه المعنوية التي تتلطّخ بالأوحال. تُغري الحالة بالمروق القيمي والثقافي والعقدي، وقد يجترئ بعضُهم على المُوَقَّر والمقدّس تصريحاً أو تلميحاً.
تتهيّأ الأذهان لمفاجآت يدفع بها متنافسون على لقب "مجدِّد العصر" في كل إطلالة يخرج بها أحدهم على الناس من الشبكات والشاشات. يتزايد الإقبال على هواية إعادة اكتشاف الدِّين؛ وكأنّ الأجيال المتلاحقة منذ التنزيل لم تفقهه أساساً، وتصير التأويلات الجديدة في كلِّ شيء مادةً تحشد المُتابعين لمقاطع مرئية وتغريدات مُقتَضبة لا يتنازل بعضها لأصول التداول العلمي والتدوين والنشر الذي يتيح المناقشة الرصينة والمعمّقة.
وفي زمن الفقاعات الشبكية؛ قد يُصبِح أحد الحيارى أو طالبي الذيوع مؤمناً ثم يُلقِي ببذرة شكّ جادّة أو عابثة في فضاء الشبكات قبل أن يغفو، وتلجأ إحداهنّ إلى إشغال الجمهرة موْسِماً بحياله بـ"قرار تاريخي" يُعلِن التخلِّي عن ستر شعرها، فيصير الشاغل من فوْرِه وَسماً شبكياً وفقاعة جدلية تجد فرصتها في مجتمعات الاستقطاب القلِقة التي تبحث عن حكايات ساخنة للموسم؛ تصرفها عن الانشغال بمعضلاتها المستعصية.
زمن جديد لا يعترفون به
لم يبقَ مفهوم الأجيال على حاله. فإن صعدت الأجيال بوتيرة مستقرّة وفق دورة الحياة النمطية؛ فإنّ تحوّلات الواقع المتغيِّر تدفع بتراكمات مُتلاحِقة وتبدّلات مُتعاقِبة تتسارع معها دورة الأجيال الزمنية اللازمة للتجريب وتحصيل الخبرة. أسفرت تطوّرات التواصل والإعلام والتشبيك عن فجوة تُعَدّ الأوسع في التاريخ بين جيليْن؛ وتتراءى أماراتها للناظرين لدى من أطلقوا صَيْحتهم الأولى بعد سنة 1995 تحديداً، ممّن يَصعُب عليهم تصوّر حياة السابقين بلا أجهزة محمولة وتطبيقات تواصلية وآفاق شبكية والتقاطات ذاتية.
تتراكم خبرات الناشئين فتَلِد الأمَةُ ربّتها بانقلاب توازنات الخبرة في البيت والمدرسة والمؤسّسات؛ لتُطلَب المعرفة بالجديد وبما يدور في عالم متغيِّر؛ ممّن لم تُثقِلهم خبرةُ أزمانٍ مضَت، ومن بينهم يصعد رموز السلطة القارونية المتربِّحة من رأس المال الشبكي؛ مثل مارك تزوكربرغ وأقرانه الذين أحرزوا المليارات الوفيرة بضربة شبكية واحدة. يصير الأساتذة والمربّون تلاميذاً لتلاميذهم في حقول مخصوصة يجهلها خبراء الأمس، وإنْ واصَلوا تَجاهُل الحالة ستتفاقم الفجوة بين الأجيال التي تنخرط في عوالم متوازية. يتحدّث "علماء" و"خبراء" و"وعّاظ" عن زمن مضى دون أن يُدرِكوا دورة التحوّلات المتسارعة بين ظهرانيهم. ويشكو بعضهم من انصراف الجمهور عنهم دون أن يعترفوا بلجوئه إلى "مُنافِسين" انتهزوا اللحظة بمهارة فاقترب بهم الوجدان وإن بَعُدَت عنهم المسافات.
يطبع الزمن الجديد نزعاتِ جيل يملك أفراده امتياز التواصل الجماهيري كما لم يحرزه سابقوه، بما يغريهم بالانهماك في "تسويق الذات" وتصويرها وعَمْلقتها في الوعي الجمعي، فيتفاقم الاعتداد بالأنا والتمركُز حول الذات الفردية. يصير "العقل" شعاراً وذريعة وإن انطوى اشتغاله المفترض عند بعضهم على حالة وجدانية تتدثّر بلبوس العقل، وينشد الشبّان حريةً فردية يتصوّرونها دون التنبّه إلى قيود طوعية أو قسرية وأنظمة وضوابط يرضخون لها في عالم العمل والحياة الحديثة.
الشك في الذات
يعبِّر فقدان المأوى المعنوي عن ذاته في نزعة شكّ في الذات الجمعية التي يتصاعد ازدراؤها بصفة صريحة أو إيحائية، مع استسهال المروق من القيَم، والإلحاح على "كسر القواعد" و"الخروج من الصندوق". تتخلّل الجيل العربي الجديد أرواحٌ جريحة وتعصف صدمات المرحلة وضغوطها بوجدانه، بينما تفتحه التقنية على فرص واعدة وأخرى تغويه بالإبحار في محيطات فسيحة بلا خرائط إرشادية أو تدابير أمان. ينفلت أحدهم من نسَق احتواه فينجرف إلى فلك يستدرجه في ثنايا الواقع أو في الفضاء الشبكي الذي يتّسع للاتجاهات والنزعات والآفات جميعاً.
تسري حالة فقدان المأوى المعنوي، بأقدار متفاوتة، على بيئات العرب المتعددة وإن بدت "هادئة" و"آمنة" من الناحية الميدانية، فهي مُرهَقة نفسياً ومضطربة فكرياً ومرتبكة ثقافياً بما يتناسب مع مدى ولوجها الزمن الجديد بشبكاته وأجهزته وطقوسه وشواغله.
يجسِّد الفرار من اللغة الأمّ جانباً من الحالة، فلا يستقيم اللسان على استعمال لغوي واحد، وقد يَمرُق من الضاد إلى محاكاةٍ جزئية أو شاملة تستبطن الشكّ بالجدارة الثقافية في الزمن المُعوْلَم، أو تُوحِي بنزعة لِحاق بأمم يسطُع وهجُها في الوعي، فهل يصير الخبير خبيراً إن لم يتقلّب لسانُه بمفردات إنجليزية أو فرنسية، وهل يكون مختصّاً إن لم يأتِ بمصطلحات بإحدى اللغتيْن يقحمها على السياق كنايةً عن جدارته واقتداره أو تعبيراً عن صِلَته بكوكب المحظيِّين؟!
يعلو الشكّ في الذات الجمعية وما فوقها من قِيَم ومبادئ، وتتطلّع الأنا إلى مروقها من النسَق الذي تُنسَب إليه رذائل العصر؛ من إرهاب وعنف وتطرُّف وفوضى وتخلُّف. يفرّ شاب حائر من مجتمعه القريب، بأواصره التقليدية وبمرافقه التعليمية والإرشادية والوعظية والإعلامية؛ ليبحث عن بدائل يتخيّرها انتقائياً من فيْض الشبكات والشاشات، فيتصاعد الطلب على الإرشاد النفسي من الشاشة والشبكة، وتتنافس المحطّات على حصص المشاهدة بمساحات مكرّسة لذوي الوجوه النّضِرة والإطلالات المتألِّقة؛ الذين يتلقّفون حيارى أشاحوا بوجوههم عن الإرشاد التقليدي في محيطهم الاجتماعي ومرافق أحيائهم السكنية.
يلجأ جمهور مُتذمِّر إلى خطب منبرية ودروس وعظية يواكبها عبر الشبكة، فيُعيد الفردُ المأخوذ بالإطلالات المتجدِّدة نسج آصرة "المُريد والشيخ" بصفة تتجاوز المكان، ويصير الأتباع الذين استلبهم وُعّاظ المرحلة و"مجددو الزمان" طائفةً من "المُحبِّين" يُعميها التعلّق الأعمى بالمخلِّص الموعود عن استعمال أي حسّ نقدي أو روح مساءلة وتمحيص مع ما يأتي به؛ وإن ذهب بعيداً في شططه. تصعد النجوم في أعالي الوعي الجمعي لجيل حائر؛ ثم تهوي على رؤوس الذين اشرأبّت أعناقُهم صوبَها، فيمسّهم شَرَرٌ مُتساقط يكتوي به وَعيُ بعضِهم، أو يُغوي آخرين بالإقبال على لَهبِه كفراشات تطوف بمصدر النور إلى أن تحترق أجنحتها الرقيقة وتذوي في العدمية.
ينقلب حائرو الخريف العربي من غُصن إلى غصن إنْ عصفت الريح بالأوراق الذابلة التي خبروا نضارتها فيما مضى، فينكشفون بلا مأوى في العراء المَطير، وقد يُعلِنون قنوطَهم أو يَسقطون في مستنقع العدميّة الذي تفقد فيه القيم والمبادئ والالتزامات معناها ومغزاها. يتأرجّح الحائرون بين التطرّف الديني والمَسلَكي والإلحادي، ولا يفوتهم تجريب المخدرات أو محاولة الانتحار، وقد يستسهل بعضهم رحلةَ الغرَق في المتوسط طلباً لفردوس أرضيّ موهوم، ويلتحق أقرانٌ لهم بوعود التمكين الدنيوي والفردوس الأخروي التي تغويهم بها "داعش" وأخواتها.
واقع الحال أنهم يفرّون من قلق اللحظة واضطراب مفاهيمها، ويتنصّلون من مجتمعات لم تمنحهم أملاً ولم تعترف بهم ولم يجدوا فيها فرصتهم. استبدّت ببلدانهم مراكز قوى سلطوية وفئات نفوذ طبقية، واستحوذت على امتيازاتها ومواردها أوساطٌ منكفئة على ذاتها دون الشعوب، وأحكم فيها جيلُ الأسبقية الزمنية القبضَ على مفاتيح الأروقة وأزرار التشغيل حتى الرمق الأخير؛ وإن رفع القوم شعاراتِ الديمقراطية وتغنّوا بالشباب و"الدماء الجديدة". من عادة هذا الانسداد ألا يتزحزح عن مواضعه بلا ثورة دامية أو فوضى عارمة؛ وقد استبدّ بدول وهيئات ومؤسسات ومنابر. وإن صعَدت وجوه شابّة من أحشائه حاملة الشعارات المجيدة؛ فقد تكون حيلةً متذاكية من نظام قديم يُراهِن على تجديد الأقنعة دون تصحيح المسار.
سطوة اللحظة والصدمة
إنّ استولَت سطوة اللحظة على الجيل فستحاصره داخل فقاعتها. قد لا يعترف المكلوم سوى بمأزقه، وقد يعمى الذاهل عن سيرورة التاريخ، وسيزدري بعض الجيل أمّته إن اختنق بدخان حرائقها المنبعثة بين الأشلاء والأنقاض. يحسَب بعضُهم أنّ بكائيّتهم المديدة هي ذروة مآسي الأمم في الماضي والحاضر، ولم يُدرِكوا من عالم فسيح سوى أرجاء مُضاءَة في وعيهم الجمعي، ولم يلحظوا ما عصف بمقاصدهم السياحية الهانئة من حروب وتدمير قروناً تعاقبت على أقوامها حتى عقود معدودة خلَت؛ أحالت أوروبا كومةَ أشلاء ورمادٍ وأنقاض، وأحرقت أرجاءً فسيحة في آسيا التي شهدت ألوان التوحّش، وفتكت بمئات الألوف من الأفارقة في شهور معدودة، وأسقطت أمريكا اللاتينية في دوّامة الاستبداد والعنف والإرهاب التي أهلكت الحَرْث والنّسل.
يتجاهل الذاهلون هذا كلّه تحت وطأة لحظتهم الداهمة التي تحتكر التاريخ لذاتها، بينما تعقد جمهرةُ العرب في الشبكات والشاشات والمنابر والمنصّات مقارناتٍ تقابُلية ساذجة، مشبّعة بالانتقائية والتحيّز والافتعال لإتقان الحبكة؛ عما "عندهم" وما "عندنا"، فتُجتزَأ الأمثلة بعناية من سياقاتها بما يعزِّز غواية التناقضات المُثيرة للشغف والمُحرِّضة على التدوير الجماهيري الذي يُذكي القنوط. تُلهِب المجتمعات المُحبَطة وَعيَها بالتلصّص على مَن يُعدّون هانئي العصر، لكنّ الهواية المألوفة تتعامى عن أنّ ما "عندهم" يتعلّق بأمم ذات حظوة في كوكب الغرب واليابان؛ ولا يعترف بعوالم فسيحة تتقاسم البؤس والفاقة والإحباطات في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية مثلاً.
تفعل الصدماتُ فِعلَها بإنسانٍ هشّ فتجرفه إلى الشكّ في الذات والأنساق المحيطة به وما فوقها. ترجو المجتمعات تدخّل عناية الله تعالى في واقعها على نحو مخصوص؛ ثم يتطاول بعض القانطين السذّج فيها على الكبير المتعال تحت وطأة إحباطاتٍ تستبدّ بهم وتجمح بوجدانهم وتجنح بتفكيرهم، وقد يُعلِن الذاهلون عدميّتهم بنفي وجود الله تعالى بمفعول المأزق النفسي؛ في شكوى علنية من الواقع تتغلّف بسؤال "أين الله مما يحدث هنا؟". ومن سذاجة السؤال أن تُطلَب النجاة من المحنة لقومٍ دون غيرهم وللحظة تاريخية دون سواها؛ لمجرّد الإحساس الذاتي بها، في نزعة استئثار تُصادِر فيها الذاتُ الأنانية الألوهيةَ لنفسها؛ وتعمى عن سنن الله في الأكوان أو ترجو تعليق السنن حصرياً كي تُحابي حالةً بعينها دون غيرها من الناس. إنها نزعة "الشعب المُختار" الذي يذهب به المدى بعيداً في "مساءلة" الربّ تعالى خلال التضرّع في المعبد عن ظُلم البشر بعضهم لبعض!
مفعول الإنهاك المعنوي
يعيش بعض العرب إنهاكاً معنوياً، تتناوشهم فيه الإحباطات وبواعث القنوط، وتحاصرهم خلاله الضغوط وتدهمهم الصدمات، فينشدون الفكاك من واقعهم؛ بالارتحال الوجودي إلى رقعة أخرى أو بالارتحال الوجداني الذي يُعلِن التمرّد على النسَق المجتمعي أو الذات الجمعية أو الهوية الثقافية أو حتى الاعتقاد الديني.
يقع بعض القانطين في مرمى تأثيرات تَعِدُهم بالخلاص، فمعها سيتحقّق الفردوس الأرضي وتختفي المعضلات وتتلاشى الأزمات بضربة واحدة. وقد تُوافِق بعض المقولات المتشكِّكة ثقافةً تراكمت بمفعول الحياة الاستهلاكية والمفاهيم المادية التي تميل إلى التشييئ والتسليع، والاعتقاد بالمحسوسات المباشرة وحدها؛ بما يؤدي إلى التباسات في مفهوم الغيْب مثلاً. قد لا تجد الحالات المضطربة أو القلِقة بصفة مؤقّتة أو مستمرّة؛ مَن يستوعبها بِرِفْق أو يحتضنها بحُنُوّ في أوساط لم تَفقَه سِمات الزمن الجديد ولم تَستوعِب نفسيّات الجماهير الجارفة فيه؛ بما يُذكي النفور من الوسط والثقافة ويرى الخلاص في عالم آخر قد يكون في الشمال الغربي، أو قد يتحقّق بالارتحال الإرادي عن الدنيا بإجراء يسير يُغوي به "لوبي الانتحار" الشبكي الحائرين والقانطين وضِعاف الشخصية.
قد يرضخ بعض الفتية والفتيات لتحدِّي الألعاب الشبكية التي تستدرجهم إلى الانتحار مثل "الحوت الأزرق"؛ بإلحاح النزوة على أذهانهم وتضخيمها في وعيهم فوق كل قيمة. يكشف المثال عن تلاعبات غسيل الأدمغة؛ بجرعات مُكثّفة أو مخفّفة، كما يشهدها الزمن الشبكي. ومن سمات هذه الحقبة أن تتناوب المعاول على تحطيم القامات والهامات التي تشكّلت من حولها سرديّات الهوية وانبعثت منها مخزونات الإلهام، وأن تُشنّ الغارة على التاريخ لتلطيخه بالعار ونقضه حجراً حجراً.
وتضغط نزعات "ما بعد الحداثة" على الوعي، وتعلو معها هواية التقويض التي تتحرّى إنتاج الفقاعات الجدلية في إطلالات الشاشات ومقاطع الشبكات. وتصعد النزعة النسبية في المفاهيم والقيَم لتسيل الثوابت في وعي الجمهور عبر الأمم وتفقد تماسكها على نحو قد ينتهي بها إلى عدمية بلا معنى، إلى درجة يتضاءل فيها اليقين بدلالة مفاهيم تأسيسية في البناء الاجتماعي؛ مثل المذكّر والمؤنّث، أو الزواج والاقتران؛ وهي صارت جميعاً مفاهيم مثيرة للجدل والنقاش ولا تحظى بالإجماع على توصيف محدّد لها.
خلل التقدير وارتباك المعالجة
تتدخّل معالجاتٌ سطحية متعجِّلة لتحرِّض الفرد على أن يكون "مُختلِفاً"، وأن يفكِّر "بطريقة مستقلّة"، بما يوافق لدى بعض الأوساط نزعاتِ النفور من الوسَط والهوية، ونزَق المروق من الذات الجمعية وازدرائها. يبدو هذا الإلحاح الترويجي على فردانية محضة غافلاً عن أنّ الفرد مكشوف اليوم أساساً لتأثيرات تُخاطِبه دون مجتمعه أو بمعزل عن نسَقه، وتتناوشه تجاذبات وتستفرد به تنازعات في الاتجاهات جميعاً التي يقع إعفاء معظمها من النقاش والنقد بذريعة التفرّغ لما يُحسَب أنه "إصلاح الخطاب الديني" و"مكافحة التطرف".
تُستدرَج الشخصية الهشّة أو الواقعة تحت تأثير الصدمة إلى تحويل خبرتها هذه إلى مأزق اعتقادي، يشبه حال الذي يندفع إلى إدمان الخمر أو تعاطي المخدرات بعد إفلاسه أو بمفعول صدمته بعد حالة وفاة، على نحو ما صوّرته أفلام الثمانينات المصرية مثلا. وإن سِيق بعض "الخطاب الديني" الموجّه من سلطات القهر ليكون أفيوناً للشعوب بالتضافُر مع تلاعبات الإلهاء المتعددة؛ فإنّ غواية بعض الأوساط تروِّج الشكوك والإلحاد واللاأدرية كحشيشة اعتقادية تنحاز إلى العدمية في ذروتها.
تُشهَر في بعض المُرافعات الدؤوبة والمزايدات المُغالِيَة مقولاتُ الاحتكام إلى "الضمير" وتشغيل "العقل" والتصرّف بصفة "حرّة ومستقلّة"؛ بلا مصارحة بحقيقة أنها شعارات عامّة فضفاضة لا تأخذ نمطاً حيادياً في تنزيلها، وقد تقضي في وعي الجمهرة بالشيء ونقيضه. يتجاهل القوم في هذا السياق أنّ التفكير لا ينفكّ أساساً عن شعور قد يكون جارفاً، وأنّ العقل عينه قد يُستدعَى لتبرير اللامعقول وتسويغ أحكام جاهزة وشرعنة خيارات خرقاء، وأنّ الضمائر والأفئدة والعقول قد تدور مع المؤثِّرات المُسلّطة عليها حيث دارت؛ ولا ينتهي اشتغالُها المُفترَض إلى مقاربات سديدة ومتقاربة لدى الأفراد جميعاً، فقد تعمل لدى بعضهم على غير بصيرة، أو قد يُطلَب من هذا الاشتغال أن يقود إلى قناعات محددة سلفاً.
لا يتعامل المأخوذ بالصدمة أو المسكون بالفاجعة أو المتألِّم من الضغط أو المحفوف بالخوف؛ مع الحقائق والمعلومات والأحكام بصفة مستقلّة عن هذه الأحوال الوجدانية الجارفة؛ وهو ما يُفَسِّر جنوحَ شعوبٍ محسوبة على أفضل معدّلات الثقافة والقراءة والتعليم والديمقراطية والانفتاح؛ إلى اختيار متعصِّبين ومتشنِّجين ومثيري أحقاد في المواسم الانتخابية التي تُهيْمن عليها الهواجس.
يتناول بعض المُنشغِلين بقلق الأجيال ما يعدّونها "ظواهر جارفة" بصفة مُجتزأة عن الملابسات الإجمالية لهذه الحقبة؛ فيُفضي خلل التقدير إلى مقاربات مرتبكة ومعالجات مضطربة تعود بارتدادات عكسية على محاولات الإصلاح. لا يعترف بعضهم بالزمن الجديد إن أدركوه حقاً، وقد يتعالَوْن على تشخيص الحالة كما هي؛ بما يُربِك تعاملهم معها.
يتصوّر بعضهم، مثلاً، أنّ الشاب الذي يُعلِن إلحادَه، إنما فعَل قطعاً بعد خوض رحلة فكرية مديدة أو جولة تأمّل فلسفي عميق، أو أنّ نظيره الذي يُطلِق صيحة تكبير قبل حزّ الرؤوس قد أفنى عمره في حفظ كتاب الله وطلب العلم الشرعي، أو أنّ الفتاة التي أعلنت على الملأ "تحرّرها" هي منعتقة حقاً من سطوة ناعمة على وجدانها بمفعول الثقافة الاستهلاكية تجمح بتفكيرها وتوجِّه اختياراتها دون وعي منها، أو أنّ زميلتها التي تُكثِر الحديث عن "العقل" تستعمله حقاً بتجرّد عن قوالب نمطية وأحكام مُسبقة، أو أنّ الناشط الشبكي الذي يظهر في الصور الذاتية بالنظّارة ويحمل كتاباً في يده هو التعبير الأمين في مجتمعه عن الذكاء والثقافة والفكر. وهكذا يذهب بعض المُصلحين إلى مخاطبة الجيل أو بعضه دون إدراك حقبته ونزعاتها، وقد لا يزيدونه إلاّ رَهَقا.
وسوم: العدد 800