كيف نخرج من التيه؟
رسالة المنبر - ٧/ ١٢/ ٢٠١٨م
المحاور:
كتب الله التيه والشتات والضياع على كل أمة فضلها وأكرمها وباركها، لكنها تخلت عن هذا التشريف؛ بتقصيرها فيما تحته من تكليف، حيث ربط سبحانه تشريف الأمم بقيامها في واجب الدعوة والنصيحة والأمر والنهي.
كان لبني إسرائيل قيمة ومنزلة عند الله تعالى فترة من الزمن حين قال لهم: (وأني فضلتكم على العالمين) وقد أكرمهم بالرسل والمعجزات، لكنهم جادلوا وتكبروا وأعرضوا وتحايلوا وجحدوا، وجبنوا عن دخول الأرض المقدسة، فتاهوا أربعين سنة، قال تعالى: (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض).
أراد الله تعالى أن يطلعنا على جانب من حكاية بني إسرائيل وتاريخهم حتى نتعلم دون أن نتألم، ولكن هيهات هيهات، فها نحن نكرر أخطاءهم وننزع عنا صفة الخيرية والتكريم، بل وندخل في تيه بعد تيه، وفي ظلمات بعضها فوق بعض.
لن يخرج من التيه إلا من أدرك دخوله فيه، وإلا كيف لمن تكبر وركب رأسه وظن أنه يعرف أين يسير وأنه صاحب الحكمة والبصيرة، ولا يدري أنه مريض غريق تائه أن ينجو ويعود إلى صوابه وإلى الطريق الصحيح؟!
كما أنه لن يخرج من التيه إلا من عرف كيف دخل فيه، فمعرفة الأسباب مطلوب لتشخيص العلاج والدواء المناسب، وإذا كان سبب تيه بني إسرائيل معصيتهم وجبنهم، فقد كان إنتاج جيل جديد طائع وشجاع هو الأمل الأوحد لعودتهم إلى مكانتهم لاستكمال طريق نهضتهم .. وهذا ما حصل فعلاً؛ فقد جاء جيل مختلف وحقق الحلم بدخول الأرض المقدسة على يد طالوت ولو بعد حين.
تعيش أمتنا اليوم حالة من التيه والضياع في مختلف المجالات، فتيه فردي وجماعي، وتيه على مستوى الحاكم والمحكوم، وتيه على مستوى العلماء والعوام، وتيه سياسي واقتصادي واجتماعي وتربوي وإعلامي وفكري ونفسي .. تيه على المستوى المرحلي والاستراتيجي، تيه في العلاقة مع الخالق والمخلوق، تيه في العلاقة مع بعضنا ومع أعدائنا، تيه مادي ومعنوي.
تراكمت العديد من الأسباب حتى صرنا إلى ما صرنا إليه من تيه وشتات، ومن هذه الأسباب:
١. تنكبنا عن منهاج ربنا سبحانه، وحياة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.
٢. اتباعنا لأنظمة الشرق والغرب كالإمعة .. بل وإعجابنا بها ودفاعنا عنها.
٣. جبننا وضعفنا عن الدعوة والنصيحة والإصلاح والتغيير، لاسيما بعدما أدركنا خطورة النهج الذي نسير عليه.
٤. نزاعنا وشقاقنا لأتفه الأسباب، وعدم إدراكنا لخطورة الفرقة والخصومة والشقاق.
٥. اضطراب أولوياتنا، وانشغالنا بالمفضول عن الفاضل وبالحسن عن الأحسن .. أو بالقبيح عن المليح.
٦. استثقالنا للمنهج الحق واسترخاؤنا للمناهج الأرضية الأهوائية التي ما زادتنا إلا رهقا.
٧. تحكيم العقول وتقديسها، واستبعاد النقول وطرح الثقة بها.
٨. ملاحقتنا للأخبار العاجلة وما يتبعها من تحليلات وتعليلات دون استكمال مشوار الوقوف على واحد منها.
٩. تركنا لملاحظة الفرص والمنح، وعيشنا في دوائر التحديات والأزمات.
١٠. غياب الإدارة الملهمة المنتمية لدينها وأمتها، وظهور إدارات منافقة أو ضعيفة أو موظفة لدى أعداء الأمة.
بناءً على ما سبق من بيان حول صور التيه الذي وصلنا إليه وأسبابه، صار من الواجب التفكير الجاد والسعي الدؤوب للخروج منه، وإلا فإن الزمن في حق التائهين جزء من المرض، ولن يجني أحد من الشوك العنب.
لعل من عوامل وطرائق وأسباب الخروج من حالة التيه التي وصلنا إليها ما يأتي:
١. الثقة بالله تعالى والتفاؤل بفرجه ونصره وقدرته على نجدتنا وخلاصنا.
٢. استقراء التاريخ فهو يعيد نفسه، والتجارب تتكرر والسعيد من اتعظ بغير.
٣. قيام كلٍّ بدوره وواجبه، بصرف النظر عن تأخر الآخرين عن واجباتهم، فالأب والأم والعالم والمعلم والداعية والإمام والتاجر والإعلامي والسياسي وغيرهم، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
٤. الشجاعة والجرأة في المواقف وعدم التردد لا في كلمة الحق ولا في نصرة المظلوم، مع اليقين التام بأن أعمارنا وأرزقنا بيد الخالق لا بأيدي المخلوقين.
٥. عدم الثقة بالأعداء والمنافقين لهم، بل وفتح العيون والحذر عند الاضطرار للتعامل معهم.
٦. التوبة الخالصة والندم والإقبال على الله والاستغفار.
٧. اعتبار القرآن والسنة مرجعية لا حياد عنها ولا تردد في أخذها واعتبارها، وإنزال أزماتنا ومشكلاتنا بها.
٨. ترك تجريب المجرب من الأفكار والبرامج والشخصيات، لاسيما تلك التي أثبت العقل والنقل والتجربة فشلها.
٩. الجزم والقطع بدور يهود في الحالة التي وصلنا إليها، فقد خرّب اليهود دينهم وخربوا دين النصارى، وهم يعملون على تخريب ديننا ودنيانا، ولكن الله تعالى حافظ دينه بحفظ كتابه العظيم.
١٠. نشر المحبة ومعاني الأخوة والتغاضي عن الأخطاء فيما بيننا والعفو والصفح عما فات من خلل وزلل، والاعتصام بحبل الله وترك الفرقة والخصومة، طالما أننا في سفينة واحدة، فإما أن ننجو بتعاوننا أو نهلك بأنانيتنا وخصوماتنا.
١١. الأخذ بأسباب القوة والبحث عن نقاط الضغط وتحضير عناصر المفاجأة للأعداء والخصوم.
إن حالة التيه التي وصلنا إليها مرهقة متعبة؛ فنحن نمشي طوال الليل والنهار ونحسب أننا نقطع مسافات تقربنا من الهدف وتوصلنا إلى الواحة ذات الماء والظل .. إذ بنا نكتشف أننا ندور في حلقة مفرغة، ثم نرجع في كل مرة من حيث بدأنا المسير.
إن كلفة الخروج من التيه مهما بلغت لا تصل إلى كلفة البقاء فيه، فالبقاء في التيه استنزاف لأموالنا وجهودنا وأفكارا وطاقاتنا، وهي كلفة دائمة متصاعدة في حجمها، وكلفة الخروج منه مهما بلغت فهي مؤقتة عابرة.
إن من شؤم تيهنا؛ ضياع أقصانا وانفراد المحتلين والمستبدين بأسرانا، وتشريد شعوبنا وضياع حقوقنا، ولكنها كبوة ولكل جواد كبوة، والله المستعان وعليه التكلان.
وختاما:
نحن أحوج ما نكون إلى قرارات شجاعة نبعث بها إرادتنا لنطهر بها إدارتنا، بعد الاستعانة بالله ربنا .. وعندها نتخلص من تيهنا، بل وتيه البشرية كلها من حولنا.
وسوم: العدد 801